ملفات و دراسات

الكرد والاعتقال السياسي في سورية (1920-2017)

Yekiti Media

يهدف هذا البحث النظري-التاريخي إلى تسليط الضوء على قضية الاعتقال السياسي للكرد في سوريا، منذ الانتداب الفرنسي في العشرينيات من القرن الماضي وحتى منتصف الثلث الأول من القرن الحادي والعشرين.

لقد ركّز البحث على خصوصية كلّ مرحلة من المراحل التي تصاعدت فيها حدة الاعتقالات طبقاً للظروف على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وذلك من خلال التركيز في البداية على موضوع الاعتقال عموماً في المراحل المختلفة تاريخياً، وربطه بماهية السلطة السياسية وحلقات الصراع الثلاث، الأيديولوجية والاقتصادية، والسياسية. دون أن يغفل البحث عن تتبع حيثيات تطور السجن عبر التاريخ وتعريف المعتقل السياسي، والمواقف المختلفة من قضية المعتقل السياسي من الأطراف المختلفة أيديولوجياً، هذا فضلاً عن ملحق خاص بمجموعة من الوثائق الفرنسية التي تلقي الضوء على العلاقة الفرنسية التركية في رصد الحدود وتعقب الشخصيات الكردية غير المرغوبة فيها.

ومن المؤكّد أنّ التركيز على الاعتقال السياسي للكرد، لا يعني البتة التمييز بين اعتقال واعتقال، بل الهدف الأساسي من ذلك هو الجانب المعرفي، وتهيئة المناخ الفكري لتقريب وجهات النظر التي من شأنها فتح آفاق جديدة لكل القضايا العالقة وإيجاد حلولٍ مناسبةٍ لها في إطار وعي حضاري معاصر شامل.

مقدمة:

إنّ بلدان الشرق الأوسط بما فيها سورية أمام تحولات كبرى في هذه اللحظة التاريخية. لقد أوصلت النظم السياسية فيه بلدانها إلى حافة الهاوية، إن لم نقل الهاوية بعينيها، وقد لا تخرج منها لسنوات عديدة قادمة إن لم تتوفر شروط لذلك. وعند البحث عن الأسباب المنطقية التي أوصلت هذه البلدان إلى هذا الوضع الكارثي على المستويات كافة، سيتبيّن أنّ السلطة السياسية وطبيعتها وممارساتها اللاعقلانية ستكون على رأس قائمة الأسباب الأساسية.

فما نشهده من تراجيديا دموية عاصفة في هذه البلدان، صراعاً على السلطة السياسية، لا تترك إلاّ فسحةً ضئيلةً للمشاريع الفكرية النهضوية لدى قطاع واسع من المفكرين، والسياسيين، والمثقفين الذين كرّسوا جُلّ حياتهم من أجل إيجاد حلول جذرية لقضية السلطة السياسية، كي يتمكّنوا من التغلب على أهم التحديات التي تعيق مشاريعهم النهضوية، وتمنعهم من إنتاج فضاء تتحرك فيه طاقات أممهم لتنفتح على الحضارة والمستقبل في آن، وتستعيد زمام التفاعل مع محيطها مرة أخرى من جديد.

إنّ تناول موضوع الاعتقال السياسي عموماً يدفعنا أن نتساءل: هل للمعتقل السياسي تعريف واحد عند الجميع؟ وهل يوجد فرق بين المعتقل السياسي ومعتقل الرأي؟ وكيف ينبغي النظر إلى المعتقل السياسي، هل ننظر إليه من الزاوية الحقوقية القانونية المحضة، أم ننظر إليه من الزاوية السياسية الطبقية أيضاً؟ وهل يعتبر قضية المعتقل الذي يطالب بالحقوق القومية هي نفس قضية المعتقل الذي يطالب بالسلطة السياسية؟

ستحاول هذه الدراسة الإجابة على هذه الأسئلة، والتركيز في سياقها على موضوع الاعتقال السياسي الكردي في سورية بدءاً من عشرينيات القرن الماضي وحتى العقد الثاني من هذا القرن لرسم خارطة للنضالات الكردية الوطنية السلمية في المراحل المختلفة من تاريخ سورية الحديثة من جهة، ولإلقاء المزيد من الضوء على قضية السلطة السياسية التي باتت من أهم التحديات التي تواجه جميع السوريين بلا استثناء من جهة أخرى.

السلطة السياسية والاعتقال

مدخل نظري-تاريخي

استغرق الوقت طويلاً مع الكائن البشري حتى انتقل خلال مسيرة تطوره في التاريخ من الإنسان إلى المواطن، أي من الطبيعة إلى المدينة، من الحياة الطبيعية التي لا تحكمها سوى غريزتي الجوع والخوف إلى الحياة المنتظمة التي تسودها الشرائع المنظّمة لحياة المواطنين وعلاقتهم بالدولة وفقاً لمصالح أشخاص أو طبقة سائدة تتحكم بمفاصل السلطة وتسعى من خلالها إلى هيمنة سيطرتها بالعنف والقوة.

لقد تشكّلت منذ ذلك الوقت السلطة السياسية التي عرفت أشكالاً مختلفة مع تطور المجتمعات والأمم عبر التاريخ، بدءاً من أقدم العصور حتى العصر الحديث مروراً بعصر النهضة الأوربية.

لعبت الفلسفة اليونانية دوراً بارزاً في تطوير وبلورة الفكر الفلسفي بشكل عام والفكر السياسي والحقوقي كأساس للدولة والسلطة بشكل خاص.

لقد طرح فلاسفة اليونان قضايا فكرية تتعلق بصلب الدولة والسلطة السياسية والقانون، في محاولة منهم وانطلاقاً من الضرورة التاريخية، لإرساء الأسس المعرفية الأولى لفهم الوجود وتفسيره على أساس عقلاني لا على أساس ديني أو خيالي ميثولوجي.

بدأت معركة العقلانية والتنوير منذ ذلك الحين في أثينا لتحرير الأفكار من هيمنة الأسطورة من جهة، ولطرح ومناقشة الشروط التي ينبغي توافرها لتكريس سيادة الدولة وتحقيق شروط الدولة الفاضلة من جهة أخرى. وما كانت تشريعات “دراكون” و”صولون” وغيرهما في أثينا إلّا خطوة ملموسة في هذا الاتجاه لتحقيق تلك الغاية.

وككل مجتمع اختلفت الآراء السياسية لدى المفكرين والفلاسفة الأوائل حول القضايا الرامية إلى تنظيم المجتمع والقضايا القانونية التي تمسّ حياة الناس وتوثّق العلاقة بينهم وبين الدولة لتقديم الطاعة المطلقة للقانون السائد.

بالرغم من ظهور شرائع عديدة في التاريخ كشريعة “حمورابي” وشريعة “مانو” وشرائع أخرى في حضارات قديمة مختلفة والتي لا تقلّ سموّاً من تلك التي ظهرت في أثينا، فإنّها لم تتطور مثل قرينتها في أثينا ربما لافتقارها للزخم الفلسفي والفكري الذي رافق التشريعات في اليونان والتي كان لها تأثير كبير على المجتمع الإنساني ولا يزال حتى يومنا هذا.

فقد تمحور الفكر السياسي السفسطائي في أثينا، على سبيل المثال، حول أنّ “الحق والقوة شيء واحد، وأنّ العدالة هي تحقيق مصلحة القوي، والظلم هو ألا يعمل الضعيف من أجل مصلحة القوي، وهي صورة أولية للفكر البراغماتي الأمريكي.

أما أفلاطون فقد رفض الفلسفة السياسية للسفسطائيين واعتبر “إنّ الفضيلة هي المعرفة، والمجتمع السياسي لا يقوم بدون فضيلة، والفضيلة لا يوفّرها إلاّ أصحاب المعرفة وهم الفلاسفة والعلماء، وأن السلطة السياسية وإدارة الحكم لا تكون إلاّ لهؤلاء، وبهذا المعنى يتجاهل أفلاطون الديمقراطية لاعتقاده بعدم صلاحيتها”.

ولكن خلافاً لفلسفة السفسطائيين وأفلاطون كانت فلسفة أرسطو السياسية أكثر واقعية منهما لأن “الدولة الدستورية هي مثله الأعلى، واعتبر أن الضمان الوحيد للحكم هو القانون”. “كان يرى إنّ علم السياسية هو علم السعادة الجماعية، في حين إنّ علم الأخلاق هو علم السعادة الفردية، وإنّ وظيفة الدولة هي أن تقيم مجتمعاً يحقق أعظم سعادة لأكبر عدد من الناس”.

فمنذ ألفي عام وأكثر، بدءاً من أفلاطون وأرسطو ومنتسكيو مروراً بفولوبيوس وشيشرون في العصور القديمة، وميكافيللي في فجر العصور الحديثة، وهوبز وسبينوزا في القرن السابع وروسو على أعتاب الثورة الفرنسية….وحتى يومنا هذا، والفلاسفة والمفكّرون لا ينفكون عن البحث عن أفضل السبل لإرساء قوانين الحكم ومبدأ فصل السلطات استناداً إلى المنهج العقلي لا التجريبي.

إلى جانب هذه الحركة الفكرية وبفعلها كان النظام القضائي يتبلور ويرتقي في كل من أثينا أولاً ومن ثم في روما وبعدها في أوروبا في عصر النهضة.

لقد كان للقانون الأثيني شأن عظيم في حياة الناس إذا ما عرفنا ما كان يشعر به كل أثيني تقريباً من احترام عظيم له، فقد كان القانون في اعتقاده “هو روح المدينة، ومصدر سعادتها”. وأصبحت مصدراً للشرائع في الدول اليونانية الأخرى، فاستعارت الجزء الأكبر منها إلى أن قال إيسقراط (436-338 ق م) بهذا الصدد: “ليس هناك من ينكر أن شرائعنا هي مصدر الكثير من الخير العظيم في حياة البشرية”. ففي أثينا نجد المرة الأولى في التاريخ حكم القوانين لا حكم الناس.

والتشريع اليوناني في هذا كما هو في غيره من المسائل أساس للتشريع الروماني الذي أصبح بدوره فيما بعد الأساس القانوني للمجتمع الغربي.

لقد شهدت أثينا ومن بعدها روما أشكالاً عديدة للعقوبات، وكانت العقوبة الشائعة في اليونان القديمة هي “الضرب، والغرامة، والحرمان من الحقوق السياسية، والكي بالنار، ومصادرة الأموال، والنفي، والإعدام، وقلما كان المذنبون يعاقبون بالسجن، وكان من المبادئ المقررة في القانون اليوناني أن يعاقب العبد في جسمه، وأن يعاقب الحرّ في ماله”.

أما العقوبات في روما فقد “كانت تختلف باختلاف منزلة المحكوم عليه، وكانت أقساها ما يوقع على العبيد، فقد كان بالاستطاعة أن يحكم على العبد بالصلب، أما المواطن فلم يكن يُستطاع صلبه، ولم يكن يستطاع جلد المواطن الروماني أو تعذيبه أو قتله.

وكانت من العقوبات الشديدة الشائعة “أن يفقد المجرم حقوقه المدنية. وكان فقدان هذه الحقوق يتدرج من فقد الأهلية للميراث إلى الطرد من البلاد، إلى الاسترقاق(…) وقلما كان يُلجأ إلى السجن ليكون عقوبة دائمة”.

كما يبدو من جملة العقوبات في كل من أثينا وروما لا يحتل الاعتقال والسجن، أياً كانت دواعيه، سياسية أم قضائية، المرتبة الأولى في قائمة العقوبات، كما هو في الوقت الحاضر، بل كان يأتي في أسفل المراتب.

ويعتقد الكثير من المؤرخين أن تاريخ السجون يعود إلى الفراعنة حيث أنهم كانوا أول من توصلوا إلى فكرة السجن لإيداع المتهم فيه ريثما يتم البت في أمره.

وقد ورد ذكر السجن في القرآن الكريم، في سورة يوسف، في إشارة إلى سجن النبي يوسف عليه السلام. كما ورد ذكر السجن في التوراة والعهد القديم على أنه كان موجوداً في القدس منذ عصر النبي موسى عليه السلام وما قبل ذلك.

في دراسته لتاريخ مؤسسة السجن نجد ثلاث مراحل عند “فوكو” لتطور هذه المؤسسة. فقد كان السجن يأتي في أسفل درجات العقاب إبان عهود الحكم المطلق لوجود أشكال أخرى من العقوبات الشديدة لكل حالة اختراق للسيادة المطلقة للحاكم. وفي المرحلة الثانية، مع الغاء العقوبات التي تكشف عن جبروت وسطوة الحاكم غير المحدودة، ذات النزعة الانتقامية الرامزة للسلطة المطلقة، يغدو السجن هو المؤسسة المركزية للعقاب. وفي المرحلة الثالثة، يخرج عن حدوده المغلقة مع اصلاح القوانين الجنائية، ويتعمّم ليطبع نسخته على مؤسسات أخرى معدّة للرعاية والإصلاح والتأهيل كالمصنع والمدرسة والثكنة…الخ.

وبخصوص ولادة السجن بالمعنى الحديث للكلمة يذكر فوكو “فلقد تحقق في منعطف القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، انتقال إلى عقوبة الاعتقال، هذا صحيح وكان شيئاً جديداً”. ويمضي الفيلسوف الفرنسي في إعطاء المزيد من التحليل للظروف التي ساد فيها الاعتقال كعقوبة مثلى حيث يقول: «عند منعطف القرنين (الثامن عشر والتاسع عشر)، عَرّفَ تشريعٌ جديدٌ سلطةَ العقاب بأنّها وظيفة عامة في المجتمع تمارس بذات الشكل على أعضائه، وفيها يكون كل منهم ممثلاً على قدم المساواة، ولكن التشريع الجديد جعل الاعتقال العقوبة المثلى، أدخل إجراءات سيطرة تمييزية لنمط خاص من السلطة، عدالة تصف نفسها بأنّها “المساواتية”، وجهاز قضائي يصف نفسه بأنه “ذو استقلال ذاتي”، ولكنه تجتاحه فروقات أشكال الإخضاع الانضباطية، ذلك هو ظروف ولادة السجن، “عقوبة المجتمعات المتحضرة”».

ومن ثم في مرحلة أخرى حوالي منتصف القرن التاسع عشر، ظهر الحبس الانفرادي بموجب «التعميم المؤرخ في 9 آب 1841 حول بناء بيوت التوقيف، وأخرى أصبحت أبنية هندسية فعلية جداً. مثل “بتيت روكيت”، petite Roquette حيث تحقق في فرنسا لأول مرة الحبس الانفرادي».

عندها اكتمل السجن كمؤسسة عقابية وغدا أداة هامة بيد السلطة السياسية لإنزال العقوبة “الشرعية” بحق معارضيها والمخالفين لقوانينها.

ولأداء وظيفتها باتت تستخدم التعذيبَ والتنكيل بالمتهم جسدياً، ومع مرور الزمن ولإنجاز وظيفتها انتقل التركيز من التعذيب الجسدي إلى نمطٍ آخر من التعذيب أشد قسوة وهو «إنّ التكفير الذي يتكالب على الجسد قد استبدل بقصاص يعمل بالعمق على القلب والفكر والإرادة والاستعدادات. ولمرة أخيرة صاغ “مابلي” المبدأ “فليتناول القصاص، إن أمكن التكلم هكذا، الروح قبل الجسد”».الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام أشكال متنوعة للتعذيب النفسي لتحطيم إرادة المعتقل وجعله الرضوخ للقانون والانصياع لسلطة الطبقة السائدة أياً كانت طبيعتها.

السلطة السياسية وحلقات الصراع الثلاث:

الأيديولوجية – الاقتصادية – السياسية

إنّ طبيعة السلطة السياسية كإحدى العناصر المكوِّنة للدولة تتحدّد بالطبقة المسيطرة على تلك السلطة. وتسعى هذه الطبقة دائماً إلى إخضاع تطور البنية الاجتماعية لسيطرتها السياسية، وبالتالي الطبقية، لضمان أنّ التطور سيبقى في إطار علاقات الإنتاج القائمة، وتفرض بالعنف الإطار البنيوي الذي يمنع خروج الصراع الطبقي عن الإطار البنيوي لتطوره. لهذا يظهر الصراع الطبقي بمظهر الصراع الأيديولوجي أو الاقتصادي. وبناءً على ذلك، يتخذ الصراع الطبقي من أجل السلطة السياسية أشكالاً مختلفة من الممارسات تتحرك على المستويات المميزة للبنية الاجتماعية. حيث هناك ممارسة سياسية وممارسة اقتصادية وممارسة أيديولوجية للصراع الطبقي. وبما أن الممارسة السياسية للصراع الطبقي يستهدف أساساً إلى التحويل الثوري في علاقات الإنتاج، وبالتالي، انتزاع السلطة السياسية من يد الطبقة المسيطرة، نرى أنّ الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة تتمحور حول منع الطبقات الخاضعة لسيطرتها من الممارسة السياسية لصراعها الطبقي معها. أي أنّها تحتكر الممارسة السياسية لنفسها كطبقة مسيطرة في صراعها الطبقي في مواجهة الطبقات الخاضعة لسيطرتها، وتدفع بذلك الممارسة السياسية للصراع الطبقي على السلطة ضمن حركة تنابذية/ تجاذبية إلى الحقلين الاقتصادي والأيديولوجي ما أمكن، لضمان استمرارية سيطرتها الطبقية.

كان هذا هو التفسير الطبقي لمستويات الصراع على السلطة السياسية فيما مضى، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كالقطب الممثّل للنظام الاشتراكي النقيض للنظام الرأسمالي تراجعت هذه المفاهيم إلى حدٍّ كبير، على الأقل، في هذه المرحلة من التطور البشري على الصعيد العالمي، لصالح مفاهيم أخرى لا زالت موضع جدال كبير.

ومع ذلك فإنّ هاجس السلطة السياسية الأول هو ألاّ يصل الصراع المعارِض، إن جاز التعبير، إلى الحلقة السياسية، إنها تبذل قصارى جهدها وتستنفر كل قواها لإجهاض أي ممارسة سياسية للقوى الساعية إلى التغيير بمعزل عن توجهها السياسي أو الطبقي.

وما يدور من صراع على السلطة السياسية في سوريا الآن لهو دليل ملموس يؤيد هذا الرأي.

الاعتقال السياسي-رؤى مختلفة

يعتقد المرء للوهلة الأولى، بعدم وجود أي خلاف في الرأي فيما يخص قضية المعتقل السياسي، أياً كانت هويته أو أيديولوجيته أو اتجاهه السياسي. ولكن عند القيام ببحث معمّق للرؤى المتباينة سرعان ما سنكتشف أن اعتقادنا يصطدم بجدار من الوهم وذلك لوجود هوة واسعة بين المفاهيم المتعلقة بقضية السجين السياسي عند الفرقاء المختلفين.

في الواقع، يمكن التمييّز بين فئتين رئيسيتين في هذا المجال، وهما رجال القانون ورجال السياسة. فرجال القانون يتفقون عموماً على التعاريف القانونية للمعتقل السياسي وحقوقه، ويميّزون بين درجات هذا الاعتقال انطلاقاً من الأسس الحقوقية التي تتفق عليها معظم المنظمات الحقوقية الدولية وتتبناها دفاعاً عن المعتقل.

إنّهم يجمعون على تعريف “الاعتقال السياسي” بأحد المعنيين وفقاً لتعريف منظمة العفو الدولية:

الأول: سجناء الرأي، وهم هؤلاء الذين يعتقلون في أي مكان بسبب معتقداتهم السياسية أو الدينية أو أية معتقدات أخرى نابعة من ضمائرهم، أو بسبب أصلهم العرقي، أو جنسهم، أو لونهم، أو لغتهم، أو أصلهم القومي أو الاجتماعي، أو وضعهم الاقتصادي، أو مولدهم، أو أي وضع آخر، دون أن يكونوا قد استخدموا العنف أو دعوا إلى استخدامه.

الثاني: يعرّف السجناء السياسيين على أنهم الذين يعتقلون بسبب آرائهم/ـهن أو معتقداتهم/ـهن السياسية الموجهة ضد السلطة الحاكمة في بلدانهم.

كما أن هناك شبه إجماع على التمييز بين مفهوم “المعتقل السياسي” و “السجين السياسي”، حيث يتفقون على أن الفرق بين الاثنين هو أن “السجين السياسي يكون قد صدر بحقه حكماً قضائياً بالحبس والسجن أما المعتقل فهو من تُحتجز حريته دون قرار قضائي.

كما يلاحظ ثمة تقاطع كبير بين التعريفين، إلاّ أنّ تعبير “معتقل الرأي أشمل من تعبير “المعتقل السياسي”.

أما رجال السياسة والأيديولوجيا فلدى فئة منهم رأي مختلف كلياً عن رأي الحقوقيين والقانونيين في هذا الشأن. إنّه في الواقع رأي إشكالي عميق يستند إلى المنطلقات الأيدولوجية في النظر إلى قضية المعتقل السياسي. إنّهم يرفضون رفضاً تاماً كل تعريفات الحقوقيين ويتبنون موقفاً نقيضاً لموقف كل المنظمات الحقوقية!

ويظهر هذا الرأي جلياً في مواقف بعض الأحزاب اليسارية الماركسية.

إنّ هذا التيار يربط تناول الاعتقال السياسي بالمنهج الذي يعكس الإطار الفكري العام الذي يحدّد بدوره الموقع الطبقي الذي يدافع عنه.

وبناءً على هذا الفهم يطرح هذا التيار السؤال التالي: هل يجب دعم المعتقلين السياسيين بغض النظر عن خلفياتهم الأيديولوجية والسياسية؟ أو هل يجب الاعتماد على القانون من أجل الدفاع عنهم حتى لو كانوا حاملين ومدافعين عن تصور رجعي مثل الظلاميين والفاشيين وغيرهم؟

ويأتي جواب أصحاب هذا الرأي على الأسئلة المطروحة أعلاه كالآتي: «ينطلق التصور الحقوقي عامة من قاعدة المساواة بين الناس وبين “المواطنين” وعلى أرضية هذه القاعدة يتأسس كل الإطار العام لما يسمى بـ”حقوق الإنسان” الذي يشكّل المرجعية الفكرية لكافة المواقف السياسية التي يرفعها أصحاب هذا التصور بما فيها الموقف من الاعتقال السياسي وكيفية التعاطي معه. إنّ الانطلاق من قاعدة المساواة بين أفراد المجتمع، هو أساس الدعاية البرجوازية حول المساواة أمام الحق وأمام القانون، وأمام الدولة التي كثّفها السياسيون البرجوازيون في شعار “دولة الحق والقانون” الذي تنبثق عنه مختلف الشعارات السياسية الأخرى التي يرفعها أصحاب التصور الحقوقي مثل الشعارات المرتبطة بمناهضة الاعتقال السياسي والمطالبة بالحرية، وحرية التعبير، والحركة الفكرية “والمحاكمات العادلة”، وغيرها».

يعتبر أصحاب هذا الرأي إن التصور الحقوقي للمساواة بين جميع الناس في المجتمع الواحد ما هو إلا وهم يخدع به الناس في ظل مجتمع طبقي.

إن الفريقين يرفعان معاً شعارات مناهضة الاعتقال ولكن بتصورين مختلفين، فبالنسبة للتصور الحقوقي، «يتحدّد الأفق السياسي في النضال من أجل دولة “الحق والقانون” و”سيادة القانون” و”استقلال القضاء في ظل مجتمع طبقي متناحر. أما بالنسبة للتصور الشيوعي فإنه يعلن من البداية استحالة ذلك بدون قلب علاقات الإنتاج ومنه يتحدد اتجاه النضال في التهيؤ والقيام بالثورة».

ومن هذا المنطلق يعتبر التصور الشيوعي واجباته تجاه المعتقلين هي الدفاع عنهم لتحسين أوضاعهم في السجون، وفي التعريف بهم كمناضلين وبالقمع والاضطهاد الذي تعرضوا له، بل وفي الدعاية للمشروع الثوري وللقضية التي اعتقلوا من أجلها والاستفادة من ذلك للتشهير بالنظام تشهيراً سياسياً، يفتح وينمّي وعي الجماهير حول الطريق الصحيح: وطريق الثورة، على حد وصف هذا التصور.

ويكثّف أصحاب التصور الشيوعي هذا وجهة نظرهم بخصوص المعتقلين الذين يخالفون أفكارهم وتصوراتهم في بناء المجتمع والدولة، حيث يرون أن دعم المعتقلين ينبغي أن يحقق هدفين أساسيين، وهما: التشهير بالنظام الرجعي القامع، وكذلك التشهير بالمشروع السياسي الرجعي أو الفاشي بغض النظر عن حامله، هل هو خلف القضبان أم خارجها.

بالمقابل، فإن الإسلاميين لديهم محدداتهم النظرية للسياسة والمجتمع والاقتصاد، إنّهم طبقاً لمواثيق الإخوان المسلمين، على سبيل المثال، يهدفون إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي من منظور إسلامي شامل في كل الدول العربية التي يتواجد فيها الإخوان المسلمون وخاصة في مصر.

فتلك المحددات تنفي مسبقاً كل التيارات السياسية العلمانية، قومية كانت أو ليبرالية أو يسارية، إنْ كان حامليها في السجون أم خارجها.

وإنّهم يحدّدون شكل الحكم الذي يرونه مناسباً من وجهة نظرهم ويسعون في ممارستهم السياسية الوصول إليه، ويصفون نظام حكمهم بما يلي: “لا نعترف بأي نظام حكومي لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستمد منه، ولا نعترف بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها، وسنعمل على إحياء نظام الحكم الإسلامي بكل مظاهره، وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس من هذا النظام”.

من هذا المنطلق لا يمكن أن يدافع الإسلامي عن العلماني في السجون، لأنهم يرون أن الذين يعارضون الإسلام “هم المتأثرون بالأفكار الغربية… والذين يعتنقون الفلسفات الهدامة، والأفكار الشخصانية من العلمانيين وغيرهم، وهناك الملحدون والذين يعدّون الدين خرافة، وأخيراً أعداء الدين من اليهود وأصحاب الديانات المحرّفة، الذين يعتبرون الإسلام عدوهم اللدود”.

ومع مجيء “الثورة” السورية تحولت كل الحركات الإسلامية في سوريا إلى حركات جهادية أو حركات مسلحة، وتشكلت العديد من الفصائل المسلحة التي تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية مثل جند الشام وأحرار الشام وصقور الشام ولواء التوحيد والجيش الحر، وكذلك المجموعات الجهادية مثل: جبهة النصرة، والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

إلاّ أن جميع هذه التنظيمات تزعم أنها تريد اسقاط النظام، ولكن من دون أن تقول إنها تريد تحقيق الحرية، أو إرساء قوانين تتماشى مع روح العصر وتعكس التنوع في بنية المجتمع السوري.

وقد تحولت وسط “الانسداد السوري الرهيب” إلى جماعات تكفيرية فاقت تجاوزاتها اللاإنسانية بحق الشعب السوري تجاوزات النظام ذاته.

لقد تغيّر موقع هذه الجماعات بمجرد امتلاكها القوة العسكرية حيث “أنّ موقع الإسلاميين تبدّل من ضحايا، وسجناء ومنفيين، وشركاء لنا في الموقع، إلى قوى متسلطة وفاشية، وهذا بالتوازي مع تصدّر السلفيين المشهد الإسلامي. بينما بقينا نحن (ليس كلنا!) في الموقع نفسه: موقع من يعملون على تجديد منظورات التفكير والسياسية، ومَن يُسجنون ويُعذَّبون ويُقتَلون. ويُهجَّرون…اليوم المسألة هي شرعيتنا نحن كيساريين وليبيراليين وعلمانيين، وحقّنا في الوجود العام والعمل العام. فقد حطمت الجماعات الإسلامية قضيتنا التحررية بقدر ما حطم النظام بلدنا ومجتمعنا”.

هكذا يبدو الموقف من قضية المعتقل السياسي بمثابة “الباروميتر” الذي يمكن أن نقيس به مجمل الأزمة البنيوية العميقة في الوعي لدى التيارات المختلفة، وكم أن هذا الوعي يبتعد في ممارسته في اللحظة الراهنة عن الأولويات الأساسية التي يتوقف عليها مجمل المستقبل السوري الخاص والعام، ويتحدّد بها.

مراحل الاعتقال في المجتمع الكردي في سوريا

1-بداية الاعتقالات بين الكرد وطبيعتها في مرحلة الانتداب الفرنسي

من الصعب إجراء أي مقاربة أولية لفهم قضية الاعتقال السياسي في صفوف الكرد في سوريا في العشرينيات وما بعدها من القرن الماضي في ظل الانتداب الفرنسي، ما لم نقف قليلاً على حقيقة الأوضاع السياسية التي بدأت تعصف بالمنطقة بعد قرون من الركود في ظل الحكم العثماني، ومن ثم الوقوف على حيثيات المسألة الكردية وتداخلها بشدة بين البلدين في تلك الفترة الزمنية، ولا تزال.

سورياً، “تم الحاق جزء مستقطع من كردستان المركزية (العثمانية) بدولة سوريا وفقاً لاتفاقية أنقرة في 20 تشرين الأول عام 1921 والتي عرفت بمعاهدة فرانكيلين- بويللون (فرانكلان-بويون)، ووضع تحت الانتداب الفرنسي بموجب اتفاقية سايكس بيكو، ووفقاً لهذه الاتفاقية تم فصل (غرب كردستان) بشكل نهائي عن (شمال كردستان) وأصبح جزءاً من دولة سوريا” حديثة التكوين.

أما على الصعيد التركي، فقد تقلّصت حدود إمبراطورتيها الشاسعة بعد الحرب العالمية الأولى إلى رقعة جغرافية ممتدة بين أناضول الشمالية والقسطنطينية فقط، حسب بنود اتفاقية سيفر في 10 آب عام 1920.

فبموجب اتفاقية سيفر “وضعت المضائق التركية تحت إشراف لجنة أوروبية، وسلّمت ما تبقى من القسم الأوروبي من تركيا إلى اليونان. وأعطيت لكل من إيطاليا وفرنسا مناطق في جنوب تركيا، وقد تم الإقرار بإنشاء دولة كردية ذات حكم ذاتي، وإنشاء دولة أرمنية مستقلة. وعلى أن تكون مملكة الحجاز العربية مستقلة، في حين تم وضع المناطق العربية الأخرى تحت إشراف إدارة كلٍّ من المملكة المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا”. أي أن تنحصر مساحة تركية بموجب تلك الاتفاقية بين أناضول الشمالية والقسطنطينية.

لهذا كان الهدف الرئيسي لأتاتورك كممثل للتيار القومي التركي الصاعد بعد وصوله إلى الحكم في أكتوبر 1923، هو إلغاء اتفاقية سيفر بأي ثمن، وهذا ما حصل بالفعل لقد تمكّن من إلغاء مقررات سيفر بالتوقيع على اتفاقية لوزان عام 1923. وبإلغاء الاتفاقية قضى أتاتورك وأركان حكمه على الأمل الكردي في دولة مستقلة.

حينئذٍ شعر الكرد بهول الكارثة، وبمصيرٍ ومستقبلٍ غامضين، لقد تنكّر الجميع لوعودهم، ولم يبق لهم خيار سوى الثورة للدفاع عن وجودهم وحقهم كشعب وأمة في الحياة، فكانت ثورة الشيخ سعيد هي بمثابة رد طبيعي على الأكاذيب والألاعيب التي انتهجتها أركان السلطة التركية مع ممارسة شتى أشكال القمع والاستبداد.

وللقضاء على هذه الثورة تمكّن أتاتورك من استمالة عدد كبير من زعماء القبائل الكردية إليه بوعوده السخية ومكافأتهم على دعمهم له لمحاربة “العدو الدنيء”، عميل الإنكليز، كما كان يصف الشيخ سعيد. كما أنه تصالح في هذه الأثناء مع فرنسا التي كانت سلطة منتدبة في سوريا “واتفق معها على نقل قواته عبر الخط الحديدي الذي يشكل الحدود بين تركيا وسوريا، رغم أن معاهدة انقرة لعام 1921 بين فرنسا وتركيا تمنع قطعاً استخدام ذلك الخط لأغراض عسكرية”

وفي تصوير تراجيدي مؤلم، كتب نورالدين ظاظا في مذكراته عن تلك الحقبة المظلمة بالكلمات التالية: “في الفترة التي بدأت بتشرين الثاني 1925، عرفتْ كردستان تركيا أحلك أيام تاريخها، لقد هدمت كردستان بالحديد والنار، وعُذّب الرجال وقتلوا، وأحرقت القرى واتلفت المحاصيل، وخُطفت النساء والأطفال واُغتيلوا. وقد ذبح أتراك مصطفى كمال الكردَ بوحشية وفظاظة كالتي أظهرها أتراك السلطان في تعذيب اليونانيين والأرمن والبلغار. وأقام مصطفى كمال محاكم عسكرية خاصة أطلق عليها محاكم (الاستقلال) فشنقت، ونفت، واعتقلت الآلاف بسرعة كبيرة. أما النساء والأطفال الذين قاوموا الجيش التركي كثيراً فقد زُجّوا في أفنية المنازل وأطلقت عليهم نيران الرشاشات من قبل الجنود الموجودين على سطوح المنازل. وكان مصير المثقفين الذين تعاطفوا مع الثورة مأساوياً حيث تم تقطيع العشرات منهم إرباً إرباً ووضعوا في أكياس ولقوا في بحيرة وان”.

كان هول محاكم الاستقلال يتضخم يوماً بعد يوم، وخلقت الأحكام الاستبدادية لهذه المحكمة الاستثنائية، وأغلبها أحكام بالإعدام نفذت حال صدورها، جواً من الرّعب والهلع.

وحسب ما ورد في تلك المذكرات كان علي صائب، رئيس محكمة الاستقلال في ديار بكر، يتباهى في المقابلات الصحفية بأنه “زين المشانق بجماعة المتمردين”، لم يكن كلامه مجرد ادعاء، فقد شنق 55 من زعماء الثورة بعد شهر من اعتقالهم، ومن بينهم الشيخ سعيد، زعيم الثورة المسلحة البالغ من العمر ثمانين عاماً.

وتورد المذكرات نفسها في الصفحة 25، هذا المشهد قبيل إعدام كل من الدكتور فؤاد من دياربكر، والمحامي حاجي آختي من ليجة، اللذين يجلّهما الشعب الكردي، ولا زالت ذكراهما خالدة في ذاكرة هذا الشعب. لدى مثول “آختي” أمام المشنقة خاطب بهدوء قائلاً:

-إنكم بقتلنا تقضون على العلاقة التاريخية والعاطفية بين الكرد والأتراك. إنكم ترتكبون خطأً عظيماً واعلموا أن الشعب الكردي لن يتأخر في الأخذ بالثأر.

ولما وضع الجلاد الحبل حول رقبته، صاح يقول:

-عاشت كردستان!

فطعنه الجنود بحرابهم، لكن “آختي” تغلّب على آلامه واستجمع قواه ليصيح:

-عاشت الجمهورية الكردية المستقبلية، تسقط….

لكن قبل أن يكمل الجملة كان الجلاد قد سحب الكرسي من تحته، وبقي “آختي” معلقاً في الفراغ.

وبقيت معه المسألة الكردية معلّقة في الفراغ أيضاً منذ ذلك الحين حتى الآن بدون أي نوع من الحلول، رغم كل الخسائر البشرية والمادية الباهظة التي دفعها الشعبين الكردي والتركي خلال هذه السنوات.

نتيجة لهذه الظروف القاسية التي أحلّت بالكرد في تركيا وخاصة بالشخصيات الاعتبارية من المثقفين الكرد ومن لفّ لفّهم من سادة المجتمع، والساخطين على سياسات كمال أتاتورك وقيم جمهوريته الجديدة، هرب الكثير منهم إلى سوريا حيث كانت تحت الانتداب الفرنسي.

وراحت هذه الكوكبة من القادة والمثقفين من الأسر البارزة في شمال كردستان كالبدرخانيين (جلادت وكاميران بدرخان)، وممدوح سليم، والدكتور أحمد نافذ، والمهندس عارف عباس، وقدري جميل باشا وأكرم جميل، وحاجو آغا، وعثمان صبري وآخرين انضموا إليهم فيما بعد هرباً من بطش أتاتورك وسياساته الإبادية، راحت تؤسس جمعية خويبون “الاستقلال” في عام 1927 في لبنان لتقود ثورة آگري بين الأعوام 1927-1930 بقيادة إحسان نوري باشا انطلاقاً من سوريا الواقعة تحت الانتداب الفرنسي. “ومن أجل إخماد الثورة الكردية لجأ النظام التركي بعد عجزه عن إحراز نتائج مرضية إلى طلب المساعدة من السوفييت وإيران، وبعد حصوله على ضمانات من هاتين الدولتين بالمساعدة تمكن من إخماد ثورة آگري بشكل كامل عام 1930، وتسلل عدد كبير من الثوار إلى عمق الأراضي الإيرانية”.

كان لا بدّ من استخدام هذه الجملة الاعتراضية الطويلة نسبياً للأحداث كي تبدو صورة الأوضاع واضحة فيما يخص موضوع الملاحقات والاعتقالات بين الكرد في سوريا فيما بعد.

ومنذ هذه اللحظة، بعد أن غرقت الثورات الكردية في كردستان تركيا في الدماء بوحشية، كان نظام الحكم في أنقرة يراقب في كل مكان أدنى حركة يثيرها الكرد، ويتدخل في غير ما يجب، بشكل مباشر أو غير مباشر. وكان المناضلون الذين نزحوا من تركيا بالإضافة إلى المناضلين السوريين يجازفون بحياتهم في كل لحظة، لأنّهم كانوا معرّضين أن يخبر أحد عنهم، وتطاردهم الحكومة التركية تحت اسم (مجرمي الحكومة المشتركة)، لقد كانوا يُطاردون ويُخطفون ويُغتالون.

في حين تساهلت سلطات الانتداب الفرنسي مع الشخصيات الكردية البارزة الهاربة من محاكم الاستقلال، أعطت الكثيرين اللجوء السياسي مع راتب شهري، وفسحت المجال أمامهم، بل وأطلقت أيديهم للقيام بالنشاطات السياسية والفنية والتنقل في القرى الكردية وبث النشاطات القومية بين الفلاحين، في الوقت الذي كانت السلطات نفسها تقمع أولئك الفلاحين عند اظهار مشاعرهم القومية، وبتعبير أحد الفلاحين مخاطباً نورالدين ظاظا: “أنتم الحضريون لا أحد يلمسكم ولكننا نحن الفلاحون لو أظهرنا مشاعرنا القومية الكردية فإننا سنجد على الفور مطرقة الدرك فوق رؤوسنا”.

لقد تمسكت سلطات الانتداب الفرنسي بالورقة الكردية من خلال (خويبون) بالاتحاد مع منظمة الطاشناق القومية الأرمنية في إطار “ميثاق تحالفي بين الطرفين” كعامل ضغط على تركيا واستخدامها وفقاً لتطور مسار العلاقات بين كل من إدارة الانتداب والحكومة التركية. وخاصة فيما يتعلق بتخطيط الحدود بين تركيا وسوريا الذي كانت ترفضه تركيا.

ومع ذلك فإنّ هذه السياسة المرنة حيال الشخصيات الكردية لم تردع سلطات الانتداب الفرنسي من الدخول في اتفاقيات التعاون وحسن الجوار وبروتوكولات أمنية مع تركيا ضد الكرد. وما كان بروتوكول 29 حزيران عام 1929 سوى واحدة من تلك الاتفاقيات، والموقعة بين سلطات الانتداب الفرنسي وتركيا، والقاضي بالحيلولة دون قيام أعمال “شقاوة” على طرفي الحدود، وإبعاد القائمين بأعمال “الشقاوة” عن منطقة الحدود، وألا يسمح لهم أن يقيموا فيها أبداً. وكان المقصود “بأعمال الشقاوة” هنا هم الثوار الكرد المناهضين للدولة التركية، وأكثر من ذلك، فقد تعرضت قيادات (خويبون) إلى الاعتقالات والإبعاد والنفي والإقامة الجبرية.

وفي السياق نفسه، بعد أن حسمت بريطانيا مشكلة جنوب كردستان (ولاية الموصل) لصالحها وضمها إلى صنيعتها المملكة العراقية، حذّرت ضابط ارتباطها في بيروت من التطرق في المستقبل إلى قضية الكرد بأي شكل من الأشكال، وهذا ما دفعها إلى الاتصال بالمفوض السامي الفرنسي في بيروت لاتخاذ موقف صارم ضد جمعية (خويبون)، فعهدت السلطات الفرنسية في صيف 1928 إلى إغلاق مكتب خويبون في حلب وأمرت بتحديد نشاطهم، ونتيجة لذلك اضطر قادة خويبون الالتزام بما تعهدوا به لفرنسا سابقاً من اقتصار عملهم ونشاطهم السياسي على كردستان تركيا فقط دون الأجزاء الكردستانية الأخرى.

كما قررت سلطات الانتداب البريطاني في عام 1928 يدعمها في ذلك المندوب السامي الفرنسي في سوريا، إيقاف منح تأشيرة الدخول إلى العراق لكل مواطن سوري يشتبه في اشتراكه في نشاطات الحركات الكردية-الأرمنية، وخصوصاً بعد الزيارة التي قام بها جلادت بدرخان (رئيس خويبون) إلى بغداد في أوائل حزيران 1928.

كما اتفق الطرفان التركي والفرنسي على وضع نظام خاص بمراقبة كامل الحدود السورية-التركية، وسمحت لتركيا بطلب منها الدخول في عمق (50 كم) في الأراضي الكردية لأسباب أمنية، إضافة إلى أنهما توصلا إلى اتفاق لملاحقة المواطنين على جانبي الحدود وتبادل لوائح بأسماء الأشخاص غير المرغوب فيهم، فضلاً عن نزع سلاح العشائر الكردية وتعيين نقاط العبور الإجبارية على الحدود، وتم مراقبة تطبيق نظام الحدود من السلطات المختصة المكوّنة من والي ماردين على الجانب التركي، وممثلين عن دير الزور من الجانب السوري، وتجتمع هذه السلطات كل شهرين. إلى أن تكللت هذه اللقاءات والعلاقات بالتوقيع على معاهدة الصداقة بين فرنسا وتركيا بتاريخ 28 تموز 1938، وبموجب هذه المعاهدة، فقد تعهد الطرفان المتعاقدان بعدم الدخول في أي تحالف سياسي أو اقتصادي أو عسكري موجه ضد أي منهما.

وكملحق خاص بهذه الدراسة نستعرض في نهاية هذا البحث بعض الوثائق الفرنسية في العشرينيات من القرن الماضي، ترجمها الأكاديمي خالد ولي عيسى مشكوراً، ونشرها على حلقات في موقع “مركز كلكاميش للبحوث والدراسات الكردية” بين السنوات (2008-2010). اخترنا منها ما يمكن أن تكشف عن العلاقة الأمنية الفرنسية-التركية من جهة، وآلية الاعتقال والنفي والإبعاد والإقامة الجبرية، فضلاً عن محاولات تركيا الحثيثة لاسترجاع الشخصيات ذات النفوذ إلى تركيا ثانية بشتى الوسائل بعد الهروب منها خشية أن تصبح أدوات بيد الفرنسيين ضدها، والقضاء عليهم فيما بعد بطرق مختلفة.

لم تكن تنطبق هذه الصورة على كل الكرد في المناطق الكردية الأخرى في سوريا. إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن النضال الكردي المسلح بدأ باكراً في المناطق الغربية من سوريا، حيث يذكر أكثر من مصدر تاريخي بأن من أطلق الرصاصة الأولى ضد الفرنسيين كان الكردي محو إيبو شاشو في ربيع 1919 في منطقة وعرة من سهل العمق، قبل أن يبدأ هنانو بثورته. لهذا السبب كانت حركة الرصد والاعتقال في صفوف الكرد لا يختلف عن اعتقال بقية الوطنيين السوريين.

ولكن سرعان ما وحّدت سلطات الانتداب من سياستها تجاه الكرد، وصارت لا تفرّق بين كردي هنا أو هناك، فبدأت تهاجم الكرد نتيجة لوقوفهم ومساندتهم للوطنيين السوريين سنة 1937 في النضال من أجل استقلال سورية، “فاتخذت إجراءات قسرية ضد الكرد عامة والمثقفين منهم خاصة، فتم توقيف العشرات منهم ونفيهم إلى دمشق وتدمر، ومن بينهم عارف عباس الذي كان يسكن ديريك”.

2-الاستقلال ومقدمات الاعتقال السياسي للكرد في سوريا

بمغادرة آخر جندي فرنسي الأراضي السورية، في السابع عشر من نيسان عام 1946، رفع شكري القوتلي رئيس الجمهورية علم الاستقلال على دار الحكومة، وأعلن بأنه لن يرفع بعد اليوم إلا علم الوحدة العربية، دون إعطاء أي اعتبار لحقوق الشعب الكردي الملحق بسوريا، وعدم إعطاء أي اهتمام إلى مطالبه كشريك في مقارعة الاستعمار الفرنسي حتى نالت سوريا استقلالها.

لقد برز الفكر القومي العروبي ذي النزعة الشوفينية بعد الاستقلال في فكر معظم التيارات والأحزاب السياسية. وسارت الحكومات المتعاقبة بما فيها حكومات عهد الانقلابات على هذا النهج، واحتكرت السلطة والثروة بيد طبقة من التجار والجنرالات العسكرية. وباشرت على الفور بإغلاق الجمعيات والنوادي والمطبوعات الكردية التي كانت تصدر في ظل الانتداب الفرنسي، بموجب قرار أصدره صبري العسلي وزير الداخلية في حكومة سعدالله الجابري التي تشكلت كأول حكومة في عهد الاستقلال في 26 نيسان عام 1946، وكان القرار يقضي بحل جميع الأحزاب والهيئات والمنظمات السياسية التي لم تؤسس برخصة رسمية من الحكومة. وهذا كان إيذاناً بظهور تيارات قومية وفئات حاكمة جديدة أشرس وأعنف تجاه الكرد من سلطات الاحتلال الفرنسي.

لقد سارت الأوضاع في ظل الانقلابات العسكرية من سيء إلى أسوأ، لقد هدّد حسني الزعيم بتسليم قادة خويبون إلى تركيا، وراح الشيشكلي يحظر المطبوعات الكردية رسمياً، وازدادت المضايقات على القوميين الكرد، وأساليب التعريب بعد اتجاه الشيشكلي نحو الحكم المركزي الصارم ودعوته إلى فكرة القومية العربية ووحدتها واعتبار سوريا قاعدة للتحرر العربي. وفي هذا السياق أصدرت السلطات تعليماتها بمراقبة القوميين الكرد ورصد نشاطاتهم السياسية.

ويذكر أحد الضباط في المخابرات السورية بهذا الصدد: “إن الشيشكلي نفسه كان قد كلّفه بالذهاب إلى القامشلي من أجل تقوية مركز الشعبة الثانية التي تمثل الدائرة الأمنية المكلفة بمراقبة الكرد في الجزيرة، ويذكر الضابط أنه نجح في مهمته تلك، واستطاع الحد من نشاط القوميين الكرد”.

وفي وثيقة بريطانية، تمت الإشارة إلى برقية القنصل البريطاني في دمشق الذي كان قد زار منطقة الجزيرة سنة 1950، حيث جاء فيها: “إنّ لدي انطباع بأن السوريين يراقبون الزعماء القوميين الكرد بشكل جدي، وبالأخص شخص جلادت بدرخان، وخوفاً من أن تثير السياسة السورية مشاعر الكرد القومية، قامت الحكومة البريطانية بتحذير الحكومة السورية من عواقب سياستها تجاه الكرد”.

وبالرغم من هذا التحذير البريطاني فإن الدستور الذي وضعه الشيشكلي تجاهل حقوق الكرد، وحقوق الأقليات الاثنية، وأكد أن الشعب السوري جزء من الأمة العربية.

3-ميلاد الحركة السياسية الكردية عام 1957

والاعتقال السياسي في سنوات الوحدة بين مصر وسوريا

كان الخطاب القومي العروبي يتصاعد يوماً بعد يوم منذ الاستقلال، وكانت الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية بعد الاستقلال وعهد الانقلابات تتمركز حول نفسها قومياً، وتنكمش وطنياً بحجج مختلفة. لقد كانت ثملى بالشعارات الوحدوية العروبية، وكل لون آخر في النسيج السوري كان متهماً بالإمبريالية والصهيونية وإلى ما ذلك من الأوصاف والنعوت. وقد كان هذا واضحاً في برامج معظم التيارات والأحزاب وخاصة حزب البعث القومي وحزب الشيوعي الكسموبوليتي في أواخر الخمسينيات. لقد خُدِع الكرد بالحزب الشيوعي المفترض أن يكون أممياً ومدافعاً عن حق الشعوب والقوميات المضطهَدة، “ولكنه في الحقيقة، محامٍ للقومية العربية عند العرب ومروِّج لأيديولوجية المواطنة العالمية في الأوساط الكردية، والكردي الذي كان يُنظّم في الحزب الشيوعي السوري كان عليه أن يقرأ منشوراته باللغة العربية وينذر الرأي العام العالمي ضد أخطار الإمبريالية التي تهدّد العالم، ويجمع التبرعات لمساعدة الجزائر التي كانت في حالة حرب ضد فرنسا، ويضحي بنفسه على الحدود السورية-الإسرائيلية، ولكن عليه ألاّ يطلب شيئاً من أجل شعبه! كان عليه أن يصمت إزاء الحرمان الثقافي والإبادة العرقية اللذين كان الكرد ضحيتهما في سوريا وتركيا والعراق وإيران”. وعند إثارة الكردي أي نقاش حول هذه السياسة الشيوعية العدمية في الوسط الكردي، كان أول ما يتهم به هو “التعصب القومي”.

لقد كانت الأحزاب الشيوعية في كل من إيران وتركيا والعراق وسوريا تشترك في رؤيتها العدمية للمسألة الكردية، ولا زالت البعض منها حتى الآن. لقد كانت تنتهج شوفينية الأغلبية في هذه البلدان وتتمسك كثيراً بوحدة الأهداف وتعظِّمها. “كما لم يتجرأ أي حزب شيوعي في الشرق الأوسط على ذكر المسألة الكردية علناً. وحسب رأي الشيوعيين الأتراك فإن الكرد غير موجودين أصلاً، أما بالنسبة للحزب الشيوعي العراقي، فإن الكرد الذين لم يشكلوا أمة بعد، قلّما يتجاوزون مفهوم أقلية عرقية تافهة، أما بالنسبة لأعضاء حزب تودة، فمع أنهم يعرفون جيداً يوجد الكرد في إيران، إلا أنهم يقولون لم يحن الوقت بعد للاهتمام بهم ولا التحدث عنهم. وأخيراً، بالنسبة للحزب الشيوعي السوري، فقد كانت المسألة الكردية في ذلك الوقت هي مسألة الأمة العربية. وحسب تصور زعيمه (خالد بكداش) وهو دمشقي من أصل كردي، أنه على الكرد أن ينسوا ذاتيتهم وينخرطوا في الحزب الشيوعي ويناضلوا من أجل وحدة وعظمة الأمة العربية”

في ظل هذا الاغتراب الوطني لم يكن أمام الكرد خيار سوى اللجوء كبقية الأطراف إلى تأسيس حزب كردي يهدف إلى صون خصوصيتهم وهويتهم القومية والنضال من أجل تحريرهم القومي ضمن إطار الدولة السورية. وقد تحقق ذلك بقيام نورالدين ظاظا وكوكبة من رفاقه بإنشاء أول حزب سياسي كردي في سوريا عام 1957، وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني، بعد أن تلقى التشجيع والدعم كما يقول “من طلاب الثانويات والمدارس في دمشق ومن المحاربين القدامى، ومن الملالي والاقطاعيين والفلاحيين البسطاء في المناطق الكردية في سوريا”.

وكان أهداف الحزب تكمن في الدفاع عن الكيان القومي الكردي لكرد سوريا، وتأمين الحقوق الثقافية والإدارية لهم (في إطار نظام ديمقراطي لمجموع البلاد).

سرعان ما بدأ الحزب بتنظيم نفسه والتغلغل في الأوساط الكردية في كل المناطق في سورية دون استثناء، لقد كانت الجماهير الكردية متعطشة لوجود تنظيم كردي يدافع عن هويته ووجوده وسط المناخ القومي العروبي العدائي. الأمر الذي أثار الهجوم عليه من كل الأطراف، وكان الشيوعيون هم أول من قادوا الهجوم على الحزب، حتى قبل أن يتأسس، وبعد التأسيس بدأ الأعضاء الكرد في الحزب الشيوعي يتركونه وينخرطون في الحزب الكردي الجديد. لقد أعلن الحزب الشيوعي “حرباً شعواء ضد الحركة الكردية، ووصفها بأنها شوفينية، رجعية، مرتبطة بالاستعمار وأنها من صنيع المخابرات وغيرها من التهم الباطلة (…) وكان الحزب الشيوعي بموقفه الهجومي ذاك، في الحقيقة كان يدافع عن نفسه، عن تنظيمه بين الأكراد”.

على العكس من هذا الموقف الهجومي البعيد عن الموضوعية، كان ميلاد حركة سياسية قومية كردية بمثابة إنذار كبير لما توصّلت إليه الأوضاع السياسية في سوريا من اغلاق على الذات والابتعاد عن الروح الوطنية وعدم الانفتاح على المكونات السورية المختلفة، قبل أن يكون إطاراً سياسياً كردياً يجد فيه الكردي نفسه ليخفّف شيئاً من وطأة الاغتراب في وطنه بعد كل التضحيات في سبيله.

وسرعان ما وجد الحزب الكردي هذا نفسه أمام آلة الاستبداد الناصري-السرّاجي (نسبة لعبد الحميد السرّاج وزير داخلية حكومة الوحدة) المفروضة على سوريا بعد وحدة مصر وسوريا في 1958. خاصة أن الحزب الديمقراطي الكردستاني كان يعارض وحدة سوريا مع مصر في ظل الحدود المفروضة من قبل عبد الناصر. لقد خلقت الوحدة استياءً عاماً وشاملاً نتيجة الأزمة الاقتصادية ناهيك عن مفاسد السلطة الاستبدادية لعبد الحميد سرّاج المفروضة على كل السوريين.

فبدأ المصريون ومعهم حلفاءهم السوريين بالبحث عن كبش فداء وفعلاً وجدوه في شخص الشعب الكردي، وخاصة في الحزب الديمقراطي الكردستاني، فأطلقوا عليه حينئذٍ تسميات عديدة مثل “الخونة” و”المخربين لصالح الدول الأجنبية” و”الانفصاليين الذين يستهدفون استقطاع جزء من سورية لإلحاقه بدولة أجنبية” و”الشعوبيون الذين لم يتعربوا” و”العملاء المأجورين في خدمة الدول الأجنبية للعروبة”

وبعد هذا الهجوم الإعلامي الرهيب شن رجال المباحث حملة اعتقالات كبرى وواسعة على “البارتي” وبدأوا باعتقال أعضاء اللجنة التنفيذية في حلب في الخامس من آب عام1960. كان رجال المباحث سعداء جداً لأنهم وجدوا “خطير المعاشرة” الذي هو سبب جميع شرور البلاد وبدأوا بالملاحقات، وخلال بضعة أيام أوقف أكثر من (5000) خمسة آلاف شخص من بينهم أطفال تتراوح أعمارهم بين 12-15 عاماً، من كل أنحاء سوريا، فضربوا وعذبوا ثم أفرج عن قسم كبير منهم. أما نورالدين ظاظا مؤسس الحزب ورئيسه فاعتقل في 8 آب من الشهر نفسه.

لقد تم تحويل كل من نورالدين ظاظا، دكتوراة في العلوم الاجتماعية والتربوية من جامعة لوزان، رئيس الحزب الديمقراطي الكردي، وعثمان صبري، سكرتير الحزب وأحد المؤسسين الأوائل للحزب، تم تحويلهما من دمشق إلى القضاء العسكري بحلب، حيث كان العدد الأكبر من المعتقلين للحزب المذكور هناك. حينها طلب ملازم التحقيق العسكري من ظاظا كتابة تقرير يبين فيه أسباب تأسيس الحزب الديمقراطي الكرد في سوريا، وكان هذا هو تقريره في اليوم الثاني من وصوله إلى حلب:

“إذا كنا قد أسسنا الحزب الديمقراطي الكردي في سورية، فهذا يعود إلى أنه منذ 1949 لم تفعل السلطات المتعاقبة سوى أنها داست بقدمها على الديمقراطية في سورية والغت الحقوق التي كان يتمتع بها الكرد تدريجياً. ومنذ 1955، لجأت السلطات التي تسيطر عليها البعثية الشوفينية إلى تحطيم أشرطة الكاسيت، ذات الموسيقى الكردية في مقاهي ومطاعم المناطق الكردية، والحكم بالسجن على الكرد الذين عثر معهم على كتب باللغة الكردية.

إن وحدة مصر وسورية، التي لم يُتوقع منها أن تقيم العقبات في طريق هذه السياسة الرامية إلى التخلف الثقافي، جعلت هذه السياسة أكثر عنصرية وفاشية واستبدادية. واليوم ليس هناك ضباط كرد في الجيش ولا موظفون ذوي مستوى عال في الإدارة، ولا معلمون ولا شرطة كردية في المناطق الكردية، لا نتجرأ أبداً التحدث بلغتنا بحرية، فالمستقبل يبدو لنا مظلماً ويرغمنا على أن نتحد وهذا ما دفعنا أن نؤسس الحزب الديمقراطي الكردي في سورية”.

وبعد التحقيقات في حلب أطلق سراح معظم المعتقلين، “وتم الاحتفاظ بـإثنين وثلاثين سجيناً”، “وبعد عدة أسابيع من المحاكمة، (من 15 كانون الأول عام 1960 وحتى 20 شباط 1961)، طلب وكيل النيابة وعلى أساس بنود القانون الجزائي المدني والعسكري أيضاً وبتوجيه من السلطات السياسية للبلاد، إنزال عقوبة الإعدام بثلاثة منا وهم (عثمان صبري، رشيد حمو، نورالدين ظاظا)”.

كانت كل المرافعات بلا فائدة أمام المحاكم العسكرية، وأحكامها السياسية الجاهزة سلفاً حتى قبل البدء بالمحاكمات، ولولا تنظيم حملات التضامن مع السجناء الكرد والاحتجاجات الواسعة التي قام بها الكرد أمام سفارات الجمهورية العربية المتحدة في كل من بغداد وبيروت، وتغطية الصحافة اللبنانية ذات النزعة الديمقراطية للمحاكمات، والعرائض التي وقعتها مئات المثقفين والأدباء والفنانين والعلماء المشهورين السويسريين وتقديمها إلى السلطات المصرية-السورية ومطالبة الكرد في فرنسا وألمانيا والسويد وبلجيكا وإنكلترا وإيطاليا، بالإضافة إلى أصدقائهم ومعارفهم، ممثلي الجمهورية العربية المتحدة في تلك البلدان بإطلاق سراح السجناء الكرد، فلولا كل هذه الحملات التضامنية الواسعة لما لجأت السلطات مضطرة إلى تخفيف العنف تجاههم، وبالتالي، تخفيف أحكام الإعدام والسجن مدى الحياة، والسجن من (7 إلى 15) عاماً إلى عام ونصف عام، وإلى سبعة أشهر من السجن.

وهكذا نجا المهددون بالموت من حبل المشنقة، ونقلوا بعد ستة أشهر من سجن المزة إلى سجن دمشق المركزي والذي لم يكن سوى قلعة قديمة بناها الكردي صلاح الدين الأيوبي للدفاع بها عن دمشق من الغزاة!

وفي ختام فصل السجن الأول لقيادة الحزب الكردي، يكتب ظاظا في مذكراته: “وبينما كانت إقامتنا تقترب من نهايتها، أحيل العقيد (برازي) البالغ من العمر أربعين عاماً إلى التعاقد كبقية الضباط الكرد الآخرين، بالرغم من ارتباطه بالنظام وخضوعه لصنائع ناصر ومواهبه الكبيرة كمدير ومربي. وكان معاونه بسيطاً وجد نفسه مكلّفاً بإدارة إصلاحية (سجن الإصلاح) حيث كان أكثر من ثلاثة آلاف سجين يعيشون فيه سوية. وهو الذي صدّق على أمر إطلاق سراحنا في 8 آب 1961”.

ما عدا رشيد حمو، الذي خرج بعد أيام قليلة من رأس السنة الجديدة، وعثمان صبري الذي خرج في منتصف شباط 1962.

4-الاعتقالات السياسية بعد الانفصال حتى 1963

لم يمرّ الكثير من الوقت على خروج أغلبية المعتقلين السياسيين من قيادة الحزب الديمقراطي الكردي من السجن حتى وقع الانفصال في 28/9/1961 على يد “القيادة العربية الثورية العليا للقوات المسلحة”، سرعان ما بادرت القوى الوطنية إلى تأييد الحركة الانفصالية كرد فعل طبيعي على الممارسات البوليسية الإرهابية بحق السوريين كافة، أحزاباً وشخصيات وطنية، وضد الحركة الكردية بشكل خاص من قبل المكتب الثاني برئاسة حكمت مينة الذي كان ينشر الرعب في المناطق الكردية. وكان من الطبيعي أن يؤيد الكرد الحركة الانفصالية كبقية السوريين الوطنيين والتقدميين بسبب المواقف السلبية لحكومة الوحدة ضد ملف القضية الكردية في سوريا جملة وتفصيلاً، والممارسات الإرهابية ضد الناشطين الكرد في عموم سوريا.

لقد استغل الكرد هذه الفرصة، وقاموا بتشكيل وفدٍ كردي كبيرٍ مؤلفٍ من 27 عضواً من كافة أنحاء سوريا لتقديم التهنئة لرئيس الحكومة، مأمون الكزبري، وإظهار التأييد للعهد الجديد. وكان الوفد بقيادة حسن حاجو، وضم أيضاً الدكتور نورالدين ظاظا، وقدري جميل باشا، والمحامي محمد منان، وشاهين شاهين، وعبدالحميد درويش وآخرين. أُستقبل الوفد من قبل رئيس الحكومة مأمون الكزبري في دمشق، وركز الوفد في لقائه على “ضرورة معاملة المواطنين الكرد السوريين معاملة منصفة، ومساواتهم ببقية المواطنين في البلاد، والتأكيد على ضرورة ترسيخ الحياة الديمقراطية في البلاد، وإجراء انتخابات نزيهة في أقرب وقت”

ولكن سرعان ما راح هذا الأمل أدراج الرياح، فبعد الإعلان عن الدستور الجديد للبلاد في 15 تشرين الثاني سنة 1961 خلا مواده من أي إشارة للكرد كثاني قومية في سوريا. وأجرى حكام الانفصال انتخابات نيابية في 1 كانون الأول من عام 1961، تميّزت بعدم النزاهة وخاصة في المناطق الكردية.

ففي الجزيرة ترشح كل من الدكتور نورالدين ظاظا والشيخ محمد عيسى محمود لصالح قائمة البارتي، وكان هناك إقبال شديد لم يشهد له مثيل على التصويت لصالح المرشحين رغم الحواجز، ولكن تدخلت سلطات الانفصال وقوات البادية من (الهجانة) بشكل سافر، وزوّرت نتائج الانتخابات واعتقلت العشرات من وكلاء المرشحين بما فيهم المرشحين أنفسهم.

فقد كشف الانفصاليون عن حقيقتهم بممارساتهم التي استهدفت الشعب الكردي، حيث كان عهد الانفصال أكثر ضراوة وتحاملاً على هذا الشعب من غيره. وفي إطار الممارسات الشوفينية التي اعتادت عليها السلطات، يرى عبدالحميد درويش أنه تم تدبير مؤامرة خسيسة من قبل مسؤولي الانفصال، حيث تم اعتقال أكثر من 30 شخصاً من أعضاء ومؤيدي البارتي في مدينة عامودا في 12 شباط عام 1962، بعد أن ألصقت بهم تهمة ملفقة حاكها المسؤولون وهي تمزيق العلم السوري، وتعرّض المعتقلون جرّاء ذلك للتعذيب النفسي والجسدي البشع، انتقاماً لكونهم كرداً ليس إلا.

لقد لجأت سلطات الانفصال بعد اندلاع ثورة أيلول التحررية في 11 أيلول 1961 في كردستان العراق، بقيادة مصطفى البارزاني وتأثيرها المباشر على الوعي القومي الكردي في مجمل أجزاء كردستان، لجأت إلى التفكير بمخططات شوفينية بعيدة المدى تستهدف الوجود الكردي برمته، لا فقط حركته السياسية، فكان الإحصاء الاستثنائي في الجزيرة ذات الأغلبية الكردية بغية “تعريبها” بقرار من خالد العظم، في 5/10/1962، هو أوّل برنامج متكامل استهدف الوجود الكردي في تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، بغية صهره في بوتقة القومية العربية، و”لم يكن قد مضى على تربع وزارته في الحكم أكثر من ثلاثة أسابيع حتى قامت بإجراء إحصاء عام للسكان في محافظة الحسكة”

في هذه المرحلة صارت الحكومات المتعاقبة مع أجهزتها الأمنية تعمل بشكل منظّم ومخطّط على أعلى المستويات على خطين متوازيين، الأول تضييق الخناق والحصار على الحركة القومية الكردية عبر الاعتقالات والملاحقات اليومية، والثاني وضع خطط ومشاريع تستهدف الوجود الكردي ككل.

ففي شهر كانون الأول عام 1962، وبأمر من الملازم محمد رمضان الذي كان يومذاك رئيس مخفر عامودا (المعروف عند الكرد بجلاد عامودا) قامت السلطات بتوقيف مائتي تلميذ مدرسي في مدينة عامودا تتراوح أعمارهم بين (12و16) سنة بتهمة الكتابة على الجدران ضد الانفصال وانزال العلم السوري في إحدى المدارس وكتابة شعارات كردية-وتعريضهم لأشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي، وقام رجال الشرطة بنزع ثياب بعض الأطفال وهددوا باغتصابهم.

ثم تلا الإحصاء مشروع الملازم محمد طلب هلال، رئيس الشعبة السياسية في الجزيرة تحت عنوان “دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي السياسية-الاجتماعية-القومية) والذي قدمه إلى الجهات العليا في سلطة البعث بدمشق رسمياً في 12/11/1963، وكان من أخطر المشاريع التي لا مثيل لها في العالم كله، قوامه تجهيل وتجويع وتهجير الكرد من مناطقهم عبر شتى الوسائل.

5-الاعتقالات السياسية في ظل سلطة البعث (1963حتى 2011)

يمكن القول إن عهد البعث كان أسوأ وأخطر العهود التي مرت على سوريا بعد الانفصال. فمنذ صعوده إلى السلطة في 8 آذار 1963، انتهج سياسة معادية للكرد، يستند في ذلك على وضع مخططات استراتيجية مغلّفة بالكثير من الحقد والكراهية السوداء، والاقدام على تنفيذها أمنياً وحكومياً عبر كافة أجهزة الدولة كنوع من الموت البطيء للعنصر الكردي أو ما يمكن تسميته بالتطهير العرقي الصامت في ظل قانون الطوارئ والأحكام العرفية.

لقد التزم البعث عقائدياً بنهج محمد طلب هلال المدمّر ومشروعه المقترح لتصفية القضية الكردية في سوريا. لم يعترف البعث يوماً بالكرد أو بوجود مسألة قومية كردية في سوريا تحتاج إلى حل في إطار وطني ديمقراطي، بل على العكس من ذلك كان يعتبر الكرد “دخلاء” و”مهاجرين” وصنيعة الاستعمار والصهيونية”، لذا أطلق البعث العنان لمخططاته الأمنية للتعامل مع الملف الكردي. “وساد المناطق الكردية الإرهاب البوليسي الأسود، حيث كانت السيارات تجوب القرى الكردية في أوقات متأخرة من الليل، لملاحقة الوطنيين الكرد، وبث الذعر والخوف من خلال مداهماتهم المفاجئة”، تمهيداً لتنفيذ مخططاته ومشاريعه بحق الشعب الكردي من دون مقاومة.

لم يبق البارتي الديمقراطي الكردي صامتاً إزاء هذه الممارسات بل راح يشجب هذه السياسة بشدة في جريدتها “دنكى كرد” (صوت الكرد) في العدد الصادر في تموز عام 1963 ، بل وقاد طلاب الصف التاسع في إعدادية أبو علاء المعري في عامودا مظاهرة في ربيع عام 1963 ضد الممارسات القمعية البوليسية للنظام البعثي. على أثرها عقد مجلس قيادة الثورة بدمشق اجتماعاً طارئاً برئاسة أمين الحافظ واتخذ قراراً بإرسال عدد من قوات اليرموك المتواجدة بالقامشلي إلى عامودا، وعلى أن يحقق رئيس الأمن السياسي بالقامشلي الملازم أول محمد الخطيب مع الطلاب بنفسه، لهذا جلب الطلاب إلى مخفر عامودا وباشرت عناصر الشرطة بضربهم وتعذيبهم، وأهالي الطلاب مجتمعون على الجسر ينتظرون ماذا سيحصل وسط صيحات وصرخات أبنائهم وهم يتعذبون بشدة، ومع غروب الشمس تم اعتقال غالبية طلاب الصف التاسع وسوقهم إلى زنزانات وأقبية المخابرات في القامشلي لاستكمال التعذيب والتحقيق. ولولا تدخل مدير المدرسة عدنان الزعيم، كان من الإخوان ومنفياً إلى المنطقة الكردية، لدى ابن خالته قائد المنطقة العسكرية بالقامشلي ببذل أقصى جهوده لمنع تنفيذ العملية العسكرية المقررة بحق أبناء عامودا، وهذا ما حصل ونجت عامودا من مذبحة كان يدبرها النظام السوري البعثي ضد الكرد في عامودا.

لقد استمر نظام البعث في فرض المزيد من الإجراءات الأمنية على الصعيدين الحزبي والشعبي استمراراً في نهجه المعادي للوجود الكردي. ففي الوقت الذي كانت قيادة البارتي منهمكة لعقد مؤتمره عام 1964، “شن الأمن السياسي في 21/5/1964حملة اعتقالات ثانية على قيادة البارتي، واعتقلت أعضاء المكتب السياسي للحزب وأعضاء اللجنة المركزية والمنطقية والفرعية، وتمكن البعض من التواري عن الأنظار والاختفاء، بذا أصبح كل الأعضاء معتقلين أو ملاحقين ثانية”.

وقد ظل المعتقلون في السجن أكثر من سبعة أشهر، حيث أطلق سراحهم مع بداية العام الجديد 1965

6-انقلاب 23 شباط 1966 واعتقالات الكرد

في صراع بين جناحي البعث، بين القيادة القطرية والقيادة القومية، وتحت شعار ابعاد الجناح اليمني عن قيادة الحزب، أطاح صلاح جديد بانقلاب عسكري دموي في فجر 23 شباط 1966 بأنصار ميشيل عفلق وأمين الحافظ وصلاح بيطار وغيرهم من القيادة القومية اليمينية. و”تم ابعاد حوالي أربعمائة ضابط وموظف من سلكي الجيش والحزب، واقتيد أمين الحافظ ومحمد عمران والقادة الموالون إلى سجن المزة. وقد عين الدكتور نورالدين الأتاسي رئيساً للجمهورية، ويوسف زعين رئيساً لمجلس الوزراء، وإبراهيم ماخوس وزيراً للخارجية، وحافظ الأسد الذي وقف مع جديد ضد عمران وزيراً للدفاع”.

لم يتبدل موقف الحكم الجديد من القضية الكردية في سوريا، بل راح يشدد قبضته على الكرد، والقيام بمزيد من الإجراءات التي تخلخل بنية المجتمع السوري، حيث أقدم قادة الحكم الجديد، التيار اليساري المزعوم في البعث، على تنفيذ مخطط محمد طلب هلال تحت يافطة الاشتراكية لإنهاء الوجود الكردي في سوريا، وقد بدأوا بالخطوات التمهيدية لتنفيذ مشروع الحزام العربي على أرض الواقع. ففي حزيران عام 1966، أبلغ مدراء نواحي ورؤساء المخافر الشرطة الفلاحين الكرد على امتداد الحدود مع تركيا، لمغادرة مناطقهم واختيار مكان جديد للعيش في المناطق الجنوبية ذات الطابع العربي، لذلك اعتبرت المنطقة منطقة أمنية وراحت الدوريات تجوب المنطقة وتبلغ أهالي القرى للضغط عليها لترك أراضيها حتى تستولي عليها الدولة، وتتصرف بها.

وفي يومي 20 و21 آب عام 1966 قامت السلطات بحملة اعتقالات كانت الأوسع في تاريخ الحركة القومية الكردية في سوريا والثانية من حيث الترتيب بعد “اعتقالات عام 1960 والتي تركزت أساساً في منطقة الجزيرة”. شملت معظم الفئات والطبقات الاجتماعية للشعب الكردي في كافة مناطق الجزيرة “ديريك، قامشلو، عامودا، درباسية، حسكة، وسرى كانيى”. حيث “بقي منهم في المرحلة الأخيرة نحو 56 شخصاً في سجن غويران بالحسكة”.

وفي بداية عام 1967 باشرت السلطات السورية بتنفيذ المرحلة الثانية من الحزام العربي بالهجوم المسلح وبث الرعب والإرهاب بين السكان الكرد واعتقال العديد من الفلاحين بسبب رفضهم المغادرة وتمسكهم بأراضيهم، في أعقاب هزيمة سوريا في حرب الخامس من حزيران عام 1967. حينذاك شهدت العشرات من القرى الكردية مواجهات دامية مع قوات الشرطة والأمن المجهزة بالأعتدة والمدعومة بقوات الهجانة، رافضين الهجرة القسرية من أراضيهم، فقد عمت هبة جماهيرية من قرية علي فرو غربي القامشلي وحتى نهر الجراح شرقاً واعتقل المئات من الفلاحين الكرد، وتعرضوا إلى التعذيب والإهانة نتيجة لمواقفهم.[68] وهكذا تحدى سكان قرية علي فرو المخابرات وشرطة المنطقة، وجلسوا أمام المصفحات والآليات العسكرية السورية، وقالوا “اسحقونا واقتلونا، ولكن لن نخرج من ديارنا، فاعتقلت السلطات السورية أكثر من مائتي كردي من تلك القرية الصامدة وكان معظمهم من النساء والأطفال وساقوهم إلى سجن الحسكة والدماء تسيل منهم من شدة الضرب بأعقاب البنادق…”

لقد وجدت هذه الحادثة صداها في الصحافة الأجنبية في حينها، لقد كتبت صحيفة لوموند عن الحادثة في أيار 1967، كما أن الصحفي الفرنسي جان بيير رينو الذي زار محافظة الحسكة عام 1972، تحدث عن ذلك في مقالة. كما أن جريدة Evening Standard اللندنية الصادرة في 14 كانون الأول 1967 كتبت قائلة: “وصلت تقارير إلى لندن عن اضطراب واسع مع اندلاع عنف مسلح في المنطقة ذات الأغلبية الكردية على الحدود مع تركيا، الاضطرابات وقعت نتيجة سياسة الحكومة السورية لتذويب النفوذ الكردي في الشمال بواسطة محاولة التهجير القسري للسكان الكرد، ولمنطقتهم أهمية بسبب وجود آبار النفط”.

وقد جاءت هذه الاعتقالات بعد أن باشرت القيادة الجديدة لحزب البعث بتطبيق المشاريع العنصرية، وفقاً لخطة محمد طلب هلال “وكانت اعتقالات احترازية تخوفاً من تنامي روح المقاومة لمخطط “الحزام العربي”، والخروج من تحت السيطرة، بعد قرار التصدي في مؤتمر الحزب الديمقراطي الكردي اليساري”.

وقد توجه الزعيم مصطفى البارزاني برسالة إلى الرئيس السوري آنذاك د. نورالدين أتاسي يطالبه بإطلاق السجناء السياسيين الكرد وتخفيف معاناتهم. في الوقت الذي كانت الصحف التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني-في العراق، “خبات” و”التآخي”، وإذاعة صوت كردستان العراق، تغطي أخبار الكرد في سوريا. وتحت عنوان “رسالة من سوريا” كتبت مجلة (كردستان) الصادرة عن جمعية الطلبة الكرد في أوروبا جاء فيها: “في يوم 21 آب من عام 1966، كان قد اعتقل 150 شخصاً من الكرد من مختلف فئات الشعب، حيث تم سجنهم وتعذيبهم لأكثر من تسعة أشهر دون محاكمة أو توجيه تهمة إليهم”

وقضى السجناء فترة اعتقالهم في سجن غويران بالحسكة.

فيما يتعلق بالأراضي المستهدفة، فقد تبنى المؤتمر القطري الثالث لحزب البعث في أيلول 1966هذه الخطوة رسمياً، وقد جاء في الفقرة الخامسة من توصياته ما نصه: “إعادة النظر بملكية الأراضي الواقعة على الحدود السورية التركية، وعلى امتداد 350 كم وبعمق 10-15 كم، واعتبارها ملكاً للدولة، وتطبق فيها أنظمة الاستثمار الملائمة بما يحقق أمن الدولة”.

7-المرحلة الثانية من التعريب واعتقالات 1973

استكمالاً للمرحلة الأولى من التعريب، والنهج المعادي للوجود الكردي في سوريا قومياً واجتماعياً، أكد المؤتمر القطري الخامس لحزب البعث في أيار 1971 على الاستمرار في تطبيق هذه السياسة. لذا فقد تم تشكيل الأداة والمرحلة التنفيذية لسياسة التعريب والتهجير ضد الكرد للمرحلة الثانية في ظل حكم حافظ الأسد، في الوقت الذي كان الكرد يتطلعون إلى وقف هذه السياسات الظالمة بحقه من الرئيس الجديد، والبدء بتأسيس مرحلة مختلفة مع الكرد والاعتراف بوجودهم دستورياً انطلاقاً من الأسس الوطنية، ولكن هذا لم يتم أبداً. لقد كان كل من مشروعي الحزام والاحصاء يشكلان وجهان لنهج تدميري واحد، “وكانا يسيران في خطين متوازيين ويفعلان فعليهما في تحطيم بنية المجتمع الكردي الريفي وتفتيته”

وقبل البدء بتنفيذ مشروع الحزام العربي (الحزام الأخضر في الوثائق الرسمية) بأقل الخسائر الممكنة، جرى التمهيد له بحذر شديد أمنياً وسياسياً. لقد قامت الأجهزة الأمنية بدعم وتغطية من قيادة الجبهة الوطنية “بخلخلة الجبهة الكردية المقاومة لمشروع الحزام، إذ تم اعتقال قيادات كردية من الحزبيين المعارضين للمشروع وخاصة من الحزب الديمقراطي الكردي (البارتي) في 29/7/1973 وهم: دهام ميرو (سكرتير الحزب)، كنعان عكيد، محمد نذير مصطفى، محمد أمين شيخ كلين هوري، خالد مشايخ، محمد فخري، عبدالله ملا علي، ولاحقاً حميد حسين سينو الذي تم اعتقاله في عام 1977. وقد أمضوا أكثر من ثمانية سنوات في سجون النظام، وهي أطول فترة سجن لقادة وساسة كرد في تاريخ سورية”، حتى ذلك الحين. فضلاً عن اعتقال المئات من القرويين الرافضين للمشروع. بعد ذلك “بدأت عمليات الترحيل في خريف عام 1974 وانتهت جميع عمليات التوطين في ربيع عام 1975”. رغم أن الكثير من المرحّلين العرب الذين أجبروا على المجيء إلى المناطق الكردية، لم يكونوا يرغبون بالمجيء وترك مواطنهم الأصلية في الرقة ومحيطها وغيرها من المناطق.

يمكن للمرء أن يفهم حتى الآن الهدف من وراء هذه الاعتقالات حيث هناك سلطة استبدادية لها مخطط يستهدف وجود شعب، وهناك بالمقابل رفض من هذا الشعب لهذا المخطط. ولكن مالا يمكن فهمه بأي منطقٍ هو أن يُعتقل الكردي لأنه أطلق بشكل جماعي الشعارات التي كانت تتبجح بها تلك السلطة آنذاك، ولكن إضافة كلمة كردي إلى الشعارات كانت كافية لزجّهم في السجون والمعتقلات.

ففي صبيحة الثامن من آذار عام 1970، وخلال المهرجان الخطابي في سينما دمشق بالقامشلي، بمناسبة استلام البعث للسلطة، حضر عدد من طلبة الثانوية من الصف الحادي عشر والثاني عشر من مدرستي عربستان والعروبة بالقامشلي وكلهم أعضاء في الحزب اليساري الكردي، وقاموا بترديد الهتافات التالية:

عاشت الأخوة العربية الكردية.

على صخرة الأخوة العربية –الكردية تتحطم مؤامرات الاستعمار والصهيونية.

عاشت نضال المرأة العربية –الكردية،…الخ.

وفي اليوم التالي تم استدعاء هؤلاء الطلاب من مدارسهم من قبل شعبة الأمن السياسي بالقامشلي التي كان يرأسها آنذاك ضابط أمني باسم فريد شهلا. وقد تعرّض الطلاب لأبشع أنواع التعذيب على أيدي عناصره، وتم توقيفهم (37) يوماً في القامشلي، ومن ثم تحويلهم إلى المحكمة العسكرية بالقامشلي، ومن ثم إلى المحكمة العسكرية بدير الزور للتحقيق أمام قاضي الفرد العسكري، حيث تم سجنهم لأكثر من عام في سجن القلعة المركزي بدمشق بتهمة ايقاظ النعرات العنصرية وفق المادة (285) من قانون العقوبات العام.

هكذا كانت السلطة تمارس الإرهاب الأمني وتحفر بعمق الهوة بين المكونات السورية باسم القانون والعروبة والاشتراكية!

8-الكرد واعتقالات 1987

إنّ الممارسات الأمنية الممنهجة ضد الحركة السياسية الكردية أضعفت كثيراً تلك الحركة مما فقدت مصداقيتها لدى الجماهير الكردية وخاصة فئة الشباب منها. وإن أكثر ما تميز به البعث في ظل سلطة الأسد الأب هو قدرة الأجهزة الأمنية على إفراغ الحركة الكردية من مضمونها الثوري المقاوم، ودفعها نحو الخلافات والانشقاقات التي لا تعدّ ولا تحصى، ولا تعبّر معظمها عن أي خلاف جوهري في أساليب النضال أو الأهداف السياسية المرحلية أو الاستراتيجية.

في ظل انحسار نفوذ الأحزاب الكردية عموماً، ظهر على الساحة السورية في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينات “حزب العمل الشيوعي” المعروف باسم “الرابطة” في الأوساط الشعبية. وكان الحزب يتبنى اسقاط السلطة في البداية، ولكن حينما تحول من الرابطة إلى الحزب في المؤتمر الأول في بيروت عام 1981، بعد أحداث حماة، تبنى شعار دحر الدكتاتورية بدلاً من اسقاط السلطة. وكان للحزب المذكور رؤية مختلفة للقضية الكردية عن الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية. لقد طرح قضية حق تقرير المصير للكرد للنقاش في أواسط الثمانينيات قبل المؤتمر الثاني الذي لم ينعقد بسبب الاعتقالات والمداهمات الأمنية المتواصلة في صفوف قيادته. وكانت هذه أول مرة يطرح حزب شيوعي شعاراً من هذا النوع وسط بحرٍ من الشوفينية العربية، الأمر الذي لفت أنظار الكرد إليه، وخاصة الفئة الشبابية. ولكن قبل أن يتمكن الحزب من إنشاء تنظيم له في الوسط الكردي بدأت المداهمات والاعتقالات التي طالت أعضاء الحزب ووسطه، وكان ذلك في الشهر التاسع من عام 1987، أثناء دورة المتوسط للألعاب الرياضية في اللاذقية. ثم امتدت الاعتقالات وطالت الوسط الكردي أيضاً في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، فقد اعتقل أكثر من 40 شخصاً، من قامشلي وعامودا وديريك بشكل أساسي. وكانت هذه أول اعتقالات سياسية جماعية في الوسط الكردي بعد اعتقال قيادة الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا في 1973. قام فرع المخابرات العسكرية في القامشلي والفروع التابعة له بهذه الاعتقالات في الفترة التي كان يرأسه محمد منصورة. تم إحالتهم إلى فرع فلسطين ومن ثم إلى فرع التحقيق العسكري وبعد ذلك إلى سجن صيدنايا العسكري الأول. أطلق سراح البعض من الفروع، ولكن وصل 28 شخصاً إلى السجن المذكور، وبقي 4 أشخاص في فرع فلسطين، ولم يكن من بين كل هؤلاء إلا شخص واحد فقط منتمٍ إلى الحزب، أما الآخرون فلم يكن لهم أية علاقة تنظيمية به. لقد اتبعت الأجهزة الأمنية نظرية السمكة والماء في هذه الحملة على خلاف الحملات السابقة بحق الحزب المذكور، أرادوا تجفيف الماء حتى يكون اصطياد السمكة محتوماً، أي أنهم ركّزوا في هذه الحملة على الوسط الحزبي، أو البيئة الحاضنة، وليس الأعضاء فقط، وضربه بقوة. وبالرغم من هذه الحقيقة، فقد احتفظت بهم السلطات كغيرهم واحيلوا إلى المحاكم بعد ثلاث سنوات ونصف السنة وامتدت المحاكم ثلاث سنوات حتى اتخذت محكمة أمن الدولة العليا في دمشق أحكاماً في غاية القساوة بحقهم. تراوحت أحكامهم بين 6 سنوات و12 سنة مع التجريد من الحقوق المدنية لمدة سبع سنوات بعد انتهاء الحكم. أما الأربعة الذين بقوا في الفروع فلم يقدّموا إلى المحاكمات، وأطلق سراحهم بعد أربع سنوات. وكانت التهم الموجهة إلى المعتقلين في هذه الحملة، هي: الانتساب إلى جمعية سرية تستهدف قلب النظام السياسي، ومعاداة أهداف الثورة، ومعاداة تطبيق الاشتراكية في البلد!

ومنذ تلك اللحظة أعادت السلطات الأمنية حساباتها، وبدأت تنتهج سياسة أكثر ليونة مع الأحزاب الكردية، بل وحتى سمحت لها القيام بالاعتصامات والمظاهرات في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وذلك حتى تعيد الحيوية المطلوبة أمنياً، إن جاز التعبير، لهذه الأطر الكردية لاستيعاب القشرة السياسية القومية المتحركة في المجتمع الكردي مرة أخرى، طالما أنها تحت القبضة الأمنية ولن تستطيع أن تسجّل أي خرقٍ خطيرٍ في جدار السلطة الاستبدادية، وذلك بعدما أدركت خطأها في الضغط المفرط على تلك الأحزاب وإفراغها من مضمونها، وكانت النتيجة هي أنّ الشباب الكرد بدأوا بالبحث عن بدائل وطنية مركزية راديكالية، وهذا ما كان يرعب النظام، لا سيما حزباً يطرح شعار دحر الدكتاتورية، لهذا السب أرخى الحبل قليلاً مرة أخرى للأحزاب الكردية السورية لتنظّم الكرد في صفوفها من جهة، ولحزب العمال الكردستاني الذي أعلن الكفاح المسلح عام 1984 ضد تركيا، للقيام بالدور نفسه من جهة أخرى. وكان النظام يفضّل الأخير على الأولى طالما أن مجمل نشاطه هو باتجاه ساحة أخرى-تركيا، لهذا السبب تغاضى الطرف عن نشاطاته السياسية والتنظيمية في الساحة السورية في تلك المرحلة، ومع ذلك كان كل تحركاته تحت المراقبة والقبضة الأمنية المشدّدة، ويُعتقل الكثير من أعضائه بين حين وآخر لأسباب مختلفة، ولم تفرغ السجون منهم أبداً، ففي بداية التسعينيات كان يوجد أكثر من 30 معتقلاً من الحزب المذكور في سجن صيدنايا العسكري فقط، وكان هناك الكثير من معتقلي هذا الحزب في السجون الأخرى أيضاً، هذا بالرغم من التحالف الظاهري بين النظام والحزب المذكور.

9-قضية الملصقات واعتقالات 1992

في عشية الخامس من تشرين الأول عام 1992، وفي إطار تفعيل الحراك الكردي في سوريا، وإعادة ثقة الجماهير بحركتها السياسية، قام حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا(يكيتي)، الذي كان قد تشكّل مؤخّراً من عدة مجموعات حزبية، بنشاطٍ بمناسبة الذكرى السنوية للإحصاء الاستثنائي الذي جرد بموجبه أكثر من 120 ألفاً من جنسيتهم السورية، والذي جرى في 5 تشرين الأول عام 1962 في محافظة الحسكة في إطار السياسات الهادفة للقضاء على الوجود الكردي في سوريا. وكان النشاط هو عبارة عن إلصاق البيان الصادر بتلك المناسبة في أماكن مختلفة في كل المناطق الكردية وفي مدينتي حلب ودمشق أيضاً، لكن لم ينفذ النشاط في دمشق لأسباب داخلية، وعرف ذاك النشاط بـ”قضية الملصقات” في الأدبيات الحزبية الكردية. وبهذا الصدد يقول القيادي نواف رشيد في حزب يكيتي الكردي الذي كان جزءاً من حزب الوحدة الديمقراطي آنذاك، بأن الحزب قام بهذا النشاط لسببين أساسيين: “أولاً، إعادة اللحمة بين أعضاء الحزب الذي تشكل من تيارات عدة، وثانياً، إعادة ثقة الجماهير بحركتها السياسية”. وكان هذا أول نشاط من نوعه في أوساط الحركة الكردية منذ السبعينيات.

على إثر ذلك بدأت الأجهزة الأمنية، الأمن السياسي، وأمن الدولة في القامشلي وفروعهما في باقي المدن، بحملة اعتقالات واسعة في محافظة الحسكة، شملت الحسكة ورأس العين والدرباسية وعامودا، والقامشلي، وديريك، وحلب والمناطق الكردية الأخرى، وقد تم توقيف أكثر من مائة شخص في هذه الحملة. أطلق سراح معظمهم بعد التحقيقات في الفروع، وأحيل 17 شخصاً إلى محكمة أمن الدولة العليا في دمشق، وقد وزع السجناء بين سجن عدرا وسجن صيدنايا. وكانت أحكام الذين كانوا في سجن عدرا سنة ونصف السنة، أما الذين كانوا في سجن صيدنا ثلاث سنوات!

وكانت التهمة الموجهة إليهم هي: ” الانتماء إلى جمعية سرية ومحاولة اقتطاع جزء من الأراضي السورية لضمها إلى دولة أجنبية” وفقاً للمادة 267 عقوبات عام (ع.ع)، وجدير بالذكر أن معظم المواطنين الأكراد الذي يعتقلون ويحالون إلى محكمة أمن الدولة، يحاكمون وفق هذه المادة مهما كانت انتماءاتهم السياسية وبغض النظر إذا ما كان لهم مثل هذه الانتماءات أم لا.

10-اعتصام الأطفال الكرد أمام مقرّ اليونيسيف في 2003 والاعتقالات

قامت مجموعة من الأحزاب الكردية بتنظيم اعتصام مؤلف من 200 طفل من الأطفال المجردين من الجنسية (أجانب الحسكة) أمام مقرّ اليونيسيف في دمشق في 25/6/ 2003 للمطالبة بإعادة الجنسية السورية إليهم، واعتبار اللغة الكردية لغة رسمية في البلاد حتى يتمكنوا من التعليم بلغتهم الأم.

وعلى إثر المشاركة في هذا الاعتصام السلمي اعتقل سبعة اشخاص في اليوم ذاته وهم: خالد أحمد علي، عامر مراد، محمد شريف رمضان، محمد مصطفى، سالار صالح، هوزان محمد أمين، حسين رمضان، واعتقل مسعود حامد فيما بعد بتاريخ 24/7/2003 بسبب التقاطه صوراً لتظاهرة الأطفال الكرد في دمشق، اعتقل من قاعة الامتحان من قبل فرع الأمن السياسي، وأحيل إلى محكمة أمن الدولة العليا وحكم كزملائه وفقاً للمادة 267 ع.ع سابقة الذكر.

وكانت الأحكام كالشكل التالي: 4 أشخاص حكموا بسنة واحدة من السجن، و3 أشخاص حكموا بسنتين، وشخص واحد بثلاث سنوات

وفي دراسة احصائية تتعلق بملف المعتقلين الكرد نشرها صلاح بدرالدين في أواخر عهد الأسد في جريدة “الاتحاد”، لسان حال منظمة الحزب آنذاك في الخارج، مستنداً إلى معلومات دقيقة حسب قوله، بأنّه قد توصّل إلى نتائج مذهلة حيث بلغ عدد المعتقلين الكرد الذين تراوحت أحكامهم بين شهرٍ و 13سنة في سنوات حكمه لأسباب سياسية قومية 17000 معتقلاً، وعدد الذين استجوبوا لدى دوائر الأمن 21000 معتقلاً، والذين جردوا من الحقوق المدنية 51000 معتقلاً.

11-أحداث 12 آذار 2004 وحملة الاعتقالات

بعد سقوط نظام صدام حسين وانتهاء حقبة البعث في العراق في 9 نيسان 2003 على يد القوات الأمريكية والبريطانية، كانت هناك أحداث كبيرة تتفاعل في المنطقة وبشكل أساسي في العراق المجاور لسوريا. لقد كان إقليم كردستان العراق يتكون شيئاً فشيئاً بالمعنى السياسي وتتبلور فيه السلطة السياسية الكردية مع وجود برلمان منتخب فضلاً عن حكومة ورئيس للإقليم. بالإضافة إلى هذا كان رائحة مشروع الشرق الأوسط الكبير تتصاعد في كل مكان في المنطقة، فاستشعرت الأنظمة الاستبدادية الرّعب في الشرق الأوسط، وخاصة بعد سقوط نظام البعث في العراق، لذا حظي المشروع باهتمام كبير في الأوساط السياسية والحكومية وفي اجتماعات القمم العربية وغيرها من الاجتماعات. كما أنه أصبح لازمةً لكل النشرات الإخبارية والبرامج السياسية التحليلية في معظم القنوات العربية آنذاك. وكان المشروع الذي أطلقته إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش يشمل منطقة واسعة تضم كامل البلدان العربية إضافة إلى تركيا، وإسرائيل، وإيران، وأفغانستان وباكستان، وذلك في إطار مشروع شامل يسعى إلى تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حسب تعبيرها، في المنطقة.

أُعلِن عن نص المشروع في شهر آذار/مارس 2004 بعد أن طرحته الإدارة الأمريكية على مجموعة الدول الصناعية الثماني ليتم مناقشته في قمة حزيران/يونيو في الولايات المتحدة في العام نفسه.

كانت سوريا من بين الدول العربية إلى جانب لبنان ومصر والسعودية ترفض هذا المشروع جملة وتفصيلاً، ولكن بدلاً من الالتفات إلى الداخل والبدء بجرأة بحركة إصلاحات استباقية فعلية وعميقة في كافة الميادين لقطع الطريق على التدخلات الخارجية مهما صغرت، فعلى العكس من ذلك، سارت السلطة السورية في الطريق الخاطئ، واعتبرت سلفاً إنّ الكرد في سوريا مرشحون كشعب مضطهد ومحروم من حقوقه أن يلعبوا دوراً ما في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير، وبالتالي، أن يكونوا رأس الحربة في التغيير في سوريا وخاصة بعد المكتسبات التي حققها الكرد في كردستان العراق. لذا سرعان ما بحثت السلطة عن أداة لجرّ الكرد إلى معركة قبل الأوان، وكانت الأداة هي استغلال مباراة كرة القدم بين فريق القامشلي “جهاد” وفريق دير الزور “الفتوة” على أرض ملعب القامشلي في 12 آذار 2004

لقد بدأت الشرارة الأولى من الملعب بين جمهور الفريقين، ظاهرياً، ولكن كانت القضية أعمق بكثير من مجرد شغب في الملعب، وراحت الأمور تسير، فيما بعد، وفق خطة مدروسة لمسرحية ذات فصول متعددة، وكل الهدف هو دفع بعض مؤيدي نظام البعث في العراق القادمين من دير الزور كمشجعين لفريق الفتوة في القامشلي، أولئك الذين أصابهم اليأس والاحباط بعد سقوط نظام صدام حسين، للاصطدام بالكرد ومواجهتهم في سوريا، وبدعم مسلح من السلطات، انتقاماً من كرد العراق، وكسر إرادتهم قبل أي خطوة ملموسة على طريق الشرق الأوسط الكبير.

بهذه اللعبة الخطيرة بكافة المعايير من جانب النظام، فلتت زمام الأمور من يد السلطات والأجهزة الأمنية على حد سواء، ومن يد الأحزاب الكردية أيضاً. لقد تحولت “الفتنة –المؤامرة”، بتعبير أحد السياسيين، إلى انتفاضة عارمة امتدت كالنار في الهشيم إلى كل المناطق الكردية وإلى حلب ودمشق أيضاً. لقد وحدّت “المؤامرة” الكرد في كل مكان بامتياز، حتى أن كرد الدياسبورا قد احتلوا السفارات السورية في بعض الدول الأوربية احتجاجاً على الأساليب القمعية التي اتبعتها السلطات في مواجهة الكرد.

لقد استخدمت السلطات الرصاص الحي بقرار من محافظ الحسكة “سليم كبول” ضد المدنيين الكرد الذين تتراوح أعمارهم بين عشر سنوات إلى ستين سنة، وبناءً على ذلك ردّت “السلطات السورية على الاحتجاجات باستخدام القوة المميتة، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 36 شخصاً وإصابة أكثر من 160 واعتقلت أكثر من [83]2000 شخص، وسط تقارير واسعة النطاق عن التعذيب وإساءة معاملة المعتقلين. أُفرِج عن معظم المعتقلين في نهاية المطاف، بما في ذلك الـ 312 سجيناً الذين أُفرج عنهم بموجب عفو رئاسي أصدره الأسد في 30 مارس/آذار 2005″.

12-نوروز 2008 واستشهاد المحمدون الثلاث

استكمالاً لأحداث آذار 2004 وللنهج الدموي الذي أصبح اعتيادياً لدى الأجهزة الأمنية في مواجهة الكرد، قامت السلطات الأمنية عشية نوروز 2008 في القامشلي، بإطلاق النار عشوائياً على مجموعة من الشبان كانوا يشعلون الشموع احتفاء بقدوم رأس السنة الكردية “نوروز” الذي يصادف في 21 آذار من كل عام، مما أدى إلى استشهاد ثلاثة شبان وجرح خمسة آخرين، وهم: محمد محمود حسين (18 عاماً)، ومحمد زكي رمضان (25 عاماً)، ومحمد يحيى خليل (36 عاماً). كما جرح 5 آخرون، وهم: رياض حسين، وكرم إبراهيم اليوسف، ورياض يوسف شيخي، ومحي الدين جميل عيسى، ومحمد خير عيسى. وكان جروح بعضهم خطيرة.

13-نوروز الرقة 2010 والاعتقالات

منذ توقيع اتفاقية أضنة الأمنية بين كل من سوريا وتركيا في مدينة أضنة التركية في يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 1998، بدأ النظام السوري إحكام قبضته على حزب العمال الكردستاني، واضطر إلى إخراج عبدالله أوجلان من سوريا، بتهديد تركي بالاجتياح، وفيما بعد إحكام القبضة الأمنية على حزب الاتحاد الديمقراطي فرع العمال الكردستاني في سوريا، بعد تأسيسه في عام 2003.

لهذا كانت الأجهزة الأمنية السورية قد وضعت كافة أشكال الحظر على نشاطات هذا الحزب منذ ذلك الحين. ومع ذلك كان الحزب يحاول أن يبلور وجود السياسي بين الكرد في سوريا مستغلاً كل المناسبات القومية، وعلى رأس هذه المناسبات عيد نوروز.

في هذا المسعى كان حزب الاتحاد الديمقراطي يستعد للقيام باحتفال نوروز 2010 في محافظة الرقة، حيث توجد جالية كردية كبيرة، ولكن كانت الأجهزة الأمنية والمتعاونين معها بالمرصاد، سرعان ما حولت الاحتفال إلى مجزرة “راح ضحيتها شابين وشابة في مقتبل العمر بالإضافة إلى 41 جريحاً أصيبوا بالرصاص الحي، كما تم اعتقال جميع الجرحى.

اندلعت شرارة الصدام بعد نقاش بين مجموعة من العرب وأعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي، بعد أن انزعج العرب من رفع صورة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله اوجلان، على المسرح.

تطور النقاش إلى شجار استخدمت فيه قوى الأمن المتواجدة هناك رشاشات المياه لتفريق الحشود. رد أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي بقذف الحجارة على عربات قوى الأمن، الأمر الذي استفزها وجعلها تطلق الرصاص الحي على الجمهور… وعقب أحداث الرقة، تم اعتقال عدد كبير من الأشخاص ورفعت بحق بعضهم دعاوى إثارة النعرات الطائفية والعرقية. أفرج عن بعضهم بينما بقيت ملفاتهم مفتوحة لدى المحكمة.

و في سياق منفصل، تم اعتقال عدة أشخاص في الحسكة بتاريخ 21 آذار (مارس) 2010، وهم في طريقهم للاحتفال بعيد نوروز. ومن بين المعتقلين قهرمان ابراهيم علي (مواليد 1974) ونعمان سليمان أحمد (مواليد 1971). ومنهم أيضا لازكين حسنو، بنكين حسنو، فيصل خليل، محمد خليل وكانيوار خليل الذين اتهموا بإثارة النعرات الطائفية والعرقية وحجزوا في سجن القامشلي

14-النساء الكرد والاعتقال السياسي

لقد كانت المرأة الكردية توأم شريكها الرجل في كل ميادين الحياة والكفاح والنضال. لم تتوانى عن الانخراط في النضال السياسي منذ اللحظة الأولى وحتى الآن لتخفيف معاناتها ومعاناة أبناء أمتها، بحثاً عن شروط حياة أكثر كرامةً وحريةً في وطنٍ يحترم حقوقها كامرأة وخصوصيتها كشعب.

وكانت سينم جكرخوين، ابنة الشاعر الكردي المشهور، هي أول فتاة كردية تعتقل لأسباب سياسية في القامشلي في عهد الشيشكلي عام 1954. وعن اعتقالها يكتب والدها جكرخوين في مذكراته: “لقد اعتقلوا فيما بعد زبير وسينم، وتم تعذيبهم بأمر من أبو علي حيث لاقوا الضرب والتعذيب والفلقة، لقد كانوا يجعلون كل واحد منهما يشاهد تعذيب الآخر. كانت تلك هي المرة الأولى التي يضعون فيها النساء والفتيات في الفلقة ويضربوهن على أسفل القدم، وأستطيع أن أجزم بأن ابنتي كانت الوحيدة، فقد كانوا يعاقبونها بسببي. وكانوا يعتقدون بأنني أطلب دولة كردية باسم الشيوعية، أو دولة كردية بلشفية، لهذا كانوا يحاربونني بكل وحشية. ولم يتم الإفراج عنها إلاّ بعد رجاء كثير من قبل حلفائهم”.

أما آسيا خليل من ديريك (المالكية) فقد اعتقلت كثاني فتاة كردية في 13/12/1992، أي بعد سينم جكرخوين بحوالي أربعين سنة، بسبب نشاطها مع حزب العمال الكردستاني وكانت قد أنهت علاقتها مع الحزب العمال الكردستاني آنذاك. اُعتلقت في الفترة التي حاول محمد شَنَرْ القيام بمحاول انشقاقية في الحزب، المحاولة التي لم تنجح وكانت سبباً في تصفيته في القامشلي في ظروف غامضة في 1992. وكانت التهمة الموجهة إليها ومعها أربعة أشخاص آخرين (رجال) هي الانتساب إلى جمعية سرية أنشئت بقصد تغيير كيان الدولة الاقتصادي والاجتماعي، ومناهضة أهداف الثورة، واقتطاع جزء من الأراضي السورية، مع تهمة حيازة السلاح للرجال، وقد حُكِمت المجموعة من قبل محكمة أمن الدولة العليا في دمشق بتاريخ 22/10/1995 بأربع سنوات قضتها آسيا في سجن دوما للنساء، والآخرين في سجن صيدنايا.

كما تم اعتقال كل من السيدتين لطيفة منان وزينب هورو، من عفرين، بعد سبعة عشر عاماً من اعتقال آسيا خليل، بتهمة محاولة سلخ جزء من الأراضي السورية وضمها لدولة أجنبية في إشارة لانتمائهما لحزب العمال الكردستاني المحظور، (يسمى في سورية حزب الاتحاد الديمقراطي).

لقد قضت المحكمة (محكمة أمن الدولة العليا) في جلستها المنعقدة يوم الثلاثاء 14/4/2009 بالسجن خمس سنوات على كل من السيدتين لطيفة منان وزينب هورو، وكان معهما مجموعة أخرى من ستة رجال، تراوحت أحكامهم بين ست وسبع سنوات من السجن.

ومن ثم سيتم اعتقال القيادية فصلة يوسف، نائبة رئيس المجلس الوطني الكردي في 18 أيار 2017، بعد ثماني سنوات من سجن السيدتين لطيفة منان وزينب هورو، لكن ولأول مرة في تاريخ كرد سوريا، على يد أجهزة تابعة لـ “سلطة كردية”!

أفرجت قوات الأسايش التابعة للإدارة الذاتية عن فصلة يوسف نائبة رئيس المجلس الوطني الكردي بعد 22 يوماً من اعتقالها بعد مشاركتها في احتجاجات ضد اغلاق مكاتب المجلس، واعتقال الإدارة أعضاء الأمانة العامة للمجلس في 9 أيار/ مايو 2017.

بذلك ستصبح اعتقال فصلة يوسف بداية لمرحلة جديدة للاعتقال السياسي في الوسط الكردي، وهي مرحلة ما بعد 2011، حيث العنف المعمّم باسم “الثورة” في كل مكان، وحيث غياب استبداد السلطة المركزية الواحدة السابقة لصالح استبداد سلطات عديدة تابعة لمجموعات مسلحة مختلفة في طول البلاد وعرضها، لا تأخذ شرعيتها إلاّ من قوة السلاح بيديها.

لقد وصل الاستبداد الممارس من قبلها إلى الذروة في سوريا منذ خمسة عقود ونيف. ومع دخول سوريا في هذه الحقبة المظلمة، دخل الكرد معها في حقبة جديدة تختلف كلياً عمّا سبق من حيث وتيرة الاعتقالات من جهة، والجهات التي تقوم بهذا الاعتقال من جهة أخرى. حقبة يمكن تسميتها بـ”آكلة أبنائها”، وفي ظل هذه الحقبة بدأ الجميع يستهدف الكرد اعتقالاً وقتلاً بهدف إبادتهم وإزالتهم كعرق من التاريخ ومن الجغرافيا، بما فيها غالبية الأطراف التي رفعت راية “الثورة” على الظلم والاستبداد لاسترداد الحرية للسوريين وكرامتهم المنتهكة.

ولكن ما لا يمكن تفسيره بأي شكل من الأشكال، هو أن يصبح الكردي العلماني، ممثلاً بالمجلس الوطني الكردي، في هذا المشهد، هدفاً لكرديٍّ علماني آخر، ممثلاً بـ”سلطات الإدارة الذاتية”، التي تمتلك الأجهزة والسلاح، دون إدراك من الأخير بأنه يتحول بذلك إلى أداة عمياء بيد التاريخ يستهدف نفسه بنفسه بسخاء منقطع النظير، وتحت شعارات وحجج مختلفة لا تستقيم على أي معيار من المعايير الوطنية أو القومية أو الديمقراطية أو حتى الطبقية و السياسية.

15-خاتمة:

هكذا نرى أنّ الاعتقال السياسي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بطبيعة السلطة السياسية وبأيديولوجيتها، وبقدر ما تحقِّق تلك السلطة ذاتها على الصعيد الوطني دستورياً، وتعزّزها بثقافة التشارك، والقانون، والحريات الديمقراطية، والتعددية الحزبية، والانتخابات البرلمانية، والانفتاح الحقيقي على جميع الأطياف والمكونات والاعتراف بحقوقها، بهذا المقدار يتراجع الاعتقال السياسي في ظلها، ويتقلص عدد السجون لصالح المؤسسات المدنية التي تبني المجتمعات وتحميها من التآكل الذاتي، وتتوطد الثقة والعلاقة المتينة بين أبناء البلد الواحد، العامل الأكثر أهمية في بناء أي بلد حضاري. وعكس ذلك، هو الطريق الحتمي للانهيار الشامل، وأن ما تشهده سوريا اليوم لهو أكبر برهان على الفشل الذريع للبعث وجبهته الوطنية التقدمية لعدم تبني الخيار الأول كنمط للسلطة السياسية.

وسيبقى الموقف الإيجابي من الكرد وقضيتهم عموماً، وفي سوريا على نحو خاص بمثابة الخطوة الأولى للسير على الطريق الصحيح الذي يؤسس لكل الخطوات التالية على الصعيد الوطني، وبدون الاعتراف بهذه القضية في برامج وخطط التيارات السياسية المختلفة، ستبقى كل الجهود ناقصة لبناء بلد يمتلك القدرة على التفاعل الحضاري، والدينامية المطلوبة للتجديد والتطوير راهناً وفي المستقبل.

medaratkurd

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى