أخبار - سوريا

الكلمات في مدى آخر

خاشع رشيد ( Bêkes Reşîd )
تقاطع زمنيّ محيّر في حلّة ذبحةٍ نفسيّةٍ.
مفارقٌ لا تعيد لماهيّة نفسها إلا انجرار مللٍ حابس على نفس اللحظات التي قد تستند لحيّزٍ جديدٍ بشكليّةٍ ماضية.. كما تلك المسألة التي أقامت لي دوراً مع كلّ صباحٍ مختلف.
بعض ما كنّا لا نحتاج، وقليلٌ من كلّ حسٍّ لم يُدرَك بعد.
لم تكن لهكذا إيماءات أو اختلاط كلّ ما قد يرجعني إلى حذاء ذلك الهزيل الواقف في تلك الزّاوية، في كلّ صباحاتي، ولا أيّة مداعبة نفسيّة تُذكّر وتبرّئ مسلّمات وراثيّة للبعض… ليس لي. لا أنا أنظر ولا هو يهتمّ ولا كلّ ذلك البرد الذي بيننا. هذه المرّة بقيت كلّ الأشياء كما هي.
كما كانت، أو كما أحبّت هي، بقيت تراقب وتهمس لما لا أستطيع إدراكه من نفسي وأشياء كثيرة من حولي… أحدث التّعاريف الضّاربة المناقضة لحالةٍ عَبَرتني دون فهمٍ زمنيّ محدّد، قط.
في أوّل إشارة حاجب فهمت ما لم أفهمه منذ سنوات طويلة، ليست من تلك المجنونة ولا من ذلك الصباح، ولا من صدر تلك العاهرة التي لم تتعبها وقوفها وتجوالها في ذلك الشارع منذ شروق الشمس لشروق الشمس، لم تكن محظوظة ذلك اليوم، حسب ما همست لي وهي تكشف لي صدرها فجأة في لحظة توقف فيها الناس عن تلك الزاوية. ليست تلك الزاوية نفسها ولا الأشخاص هم نفسهم. لكن في حافّة ما، تلك الحافة التي تخيّلتها حين كنت صغيراً، تلميذاً لا أعرف إلا أنني أصبح قائداً في كل مرحلة. هناك طفلٌ يرعب كل مَن في مستوى قامته القصيرة، حتى ذلك المسنّ القزم. وذلك القطّ الصابر لدقائق طويلة، دون حركة ودون خجل، حائر في نتيجة سلوكه القادم. فأرٌ جريءٌ كالبرق من بين رجليه، على امتداد طوله. القط والفأر كلاهما مشغولان في أمور مصيرية، من نوعٍ آخر. الأول مجمّد مشلول محنط ميت. الآخر لم يسبق له أن يُروّض، فهو لم يملك روحاً أبداً، لعبة مصنوعة بيد ذلك الطفل، لا غير.
هكذا ما كنت تقوله حين لم يكن بيننا ثالث، بل دعواتٌ لا تحصى. رقصاتٌ ممزوجةٌ بشهوةٍ من نوعٍ آخر. يبدو أنّها غير قابلة لما يمكن أن ينتهي، ولا كلّ ما تحمله لي أزقّتي من بصاقٍ حلوٍ لزجٍ دمويٍّ لوداعٍ قادم نهائي آخر.
كلّ تلك الأمور وكلّ اللاعبين ـ المشهد مستمرّ ـ لكن منها مسحوقة بعجلة سيارةٍ، ومنها في مجرى مياه كان بالقرب من تلك الحافّة… المهم أن كلّ النظرات وكلّ الأحاسيس امتزجت بصيغة ما، ولم تنتج سوى “لاشيء” في نظر البعض. دون انتقام لأيّ شيء ـ غير محسوب ـ في تلك اللحظات، أصلاً.
الأصابع لم تغيّر من حركاتها ولا من كل رقصاتها، تنبورٌ أو بندقيةٌ، تأقلم لإحياء وجود قائم في كلتا الحالتين، وسيلان أحمر يطهّر عقوداً… تقديس شهيدٍ دائم، من الجبال أو السهول، كما الآن.
الهيئة لم تتغيّر، هذه ليست خدعة كتابيّة ما، وليست أخطاء أو كلمات مبعثرة، وليست صورة أخرى لغرورٍ بات يحكم كلّ السّلوكيات في المبالغة المقصودة أو تبديل غاصب للمعاني… هذه ليست فخاخاً حديثة ولا زلّات.
تذكّر العاهرة وهو في عمق عاطفته لكل من أحبّ، لحظة غرزته ولم تخترقه، أوقعته رغم ثقل الهواء في تلك المسافة، دفعته إلى لمس أقرب موقف حافلة، هارباً، لاهثاً، خائفاً، كما ضربات قلب ذلك الطفل. الحافلة ممتلئة بأنفاسٍ كثيرة منها مريضة ومنها كريهة ومنها ياسمينية، بين كلّ تلك وعلى الرّغم من الأضواء الخافتة على تلك الزّاوية استطاع رؤية مسار الطّلقة التي أصابت صدرها الذي لا زال مكشوفاً… سقط هو بين روائح متعددة، جوارب، أصبغة وأعضاء، الكلّ تجمع وسط الحافلة فوق رأسه، عرق وأنفاس متقطعة، تلك كانت أعنف من الجّلطة، لحظات مرّت، فتح عينيه، لم يجد فراغاً من تلاحم الرّؤوس، الكلّ مستغرب، وقف بسرعة دون أن يستند لأيّ شيءٍ، وبهدوء ” اشتقت لحبيبتي ” هكذا قال، ثم بات ينظر إلى النافذة بشكلٍ طبيعيٍّ ـ بالنّسبة لمن حوله ـ الكلّ كان في نفس الحس، ولم تكن صدفة غريبة!!!… استمرّت الحافلة واستمر كلّ واحد وكلّ شيءٍ كما يجب أن يكون.
ماذا لو كان الاشتياق نفسه، نتيجة لحاجة ليست ما لا يمكن أن يكون إلا جزءاً قد يؤثّر في أجزاءٍ أخرى، على الأغلب لن تكون حسّية فقط أو عضويّة فقط، فتعطي مع حزمةٍ لا تحصى من الأسباب، جملة سلوكيّاتٍ ودفعٌ للكثير من الخطوط الرئيسيّة أو الدّقيقة في الشّخصيّة إلى التّمايز، لكن بصورٍ متحدّثة دائماً، وفي كلّ حدثٍ قابلٍ للاحتكاك. الحبيبة وصفته بالأنانيّ مرّة. قد تكون الصّفة ـ هي من أنجح وأبرز الخطوط غالباً ـ منبع ذلك الحس.
كما مناداة من خلف أسطرٍ لم تكتب… يا أنا!!!
لم يشتكِ الأثر بعدْ… قد تكون وجهته، زمن ما، في تلك الزاوية أو ذلك النّفَس الذي يداعب بندقيّة من يدافع عن وجودٍ، لم يأبى النّهاية.
ونعود إلى فخٍّ ما، في لحظة فرحٍ ما… من سيقف ثانية إلى ذلك الجّانب، أو هنا؟. من سيعارض؟.
في زوبعة النّظرات المتصادمة كان يلهو ذلك الطفل، ما كان مدركاً خطورة كلّ ذلك. كلّ ذلك مُقتبس من نفس الشّكل ـ في لحظةٍ غير محدّدة ـ فيما سبق. الأولويّة لنتائج وتأثير الحاضر، بعقليّة من لا يستطيع التّفكير إلا آنيّاً فقط. ترك الطّفل ما أخذت منه العجلات والطريق والمياه عنوة، وترك شيئاً من نفسه هناك، وترك أيضاً كلّ استفهامٍ متجدّد لأجوبةٍ قد تكون أتت قبل أن يحدث ذلك. ربما في تداخلات وصفٍ متغيّرٍ لعمرٍ في جسدٍ سابق. روحٌ متعدّدة الأجساد، متغيّرة، متحيّزة لإحداها دون توضيح، دون قرار وتخطيط، كما الأمهات أو الآباء. ذهب الطفل وكأنّه في حالة إسعاف، أو آخر موعدٍ لآخر قطارٍ في أبعد بلدة عن مكان سكنه، حين كان في وطنه، هو وأسرته التي لم يبقى منها أحد. تحتضنه عمّته طوال النّهار، والليل كلّه، على أمل أن تعطي شيئاً من أخيها لطفله، تعبت كثيراً في الطريق حين عبروا الحدود مشياً، لكنها تحمّلت وتحمّل هو دون بكاءٍ، طيلة المسافة. اللعبة انتهت، العاصفة توقّفت، تحرّك كل شيء، اختفى الطفل بين الأحضان كما اختباء تلك النقود الورقيّة في حمّالة صدر صاحبة المتجر الصّغير، المنكسر زجاجه، المتواجد في تلك الزاوية، المرأة تعمل ليل نهار، ليست متزوّجة، لكنّها لا تلق وقت فراغٍ لتستحمّ يوميّاً، لم أجدها تبع شيئاً منذ الصباح، سوى ذلك الطفل ـ زبونٌ حقيقيٌ للمتجر، ليس لها ـ حين أراد شراء قطعة حلوى صغيرة فأعطته مجّاناً، لكنها تستلم من هذا ومن ذاك، بين الفينة والأخرى، وتضعها في خزانة صدرها، فتعطيهم رقماً، ربّما توقيتاً ما، فيغادرون بسرعةٍ مسرورون وعيونهم في معاصمهم. إذاً المرأة موثوقة ومضمونة ودقيقة في عملها… والدا الطفل شهيدان، غادرت به عمّته من الوطن إلى عمّه المتغرّب منذ سنوات طويلة.
تقابلت الأجساد، تواجهت الأنفس… التّرابط حسياً؛ متاهة أخرى من نوعٍ ليس كما مساءلة لفظيّة دون دلائل معنويّة، تذكرها الأسطر في تشابكها الرّوتينيّ مع وسيلة إيصال ما، مهما كانت، ومهما تعدّدت أو تعقّدت. والتّناسخ الباطني المعنوي ـ حتّى إن بقيت الرّوح أو تغيّرت ـ قد يكمن في محصّلة ما، حيث تتناقض فيها لحظات خالقة، مؤلّفة أو مركٍّبة… لا استنتاجات غريبة قد تفي غرض المعنى.
لقراءةٍ مختلفة، لفهمٍ آخر كان ضمن بعض التّخيّلات المرعبة المنتظر أي اقترابٍ لاإرادي. ربما يكون هذا آخر تنبيهٍ أذكره؛ ربّما لن أستطيع إعادة كل هذه التفاصيل ثانيةً ـ أنا لا أحب تكرار كلّ الأشياء ـ دعك من كلّ ما أنت منشغل به، استمع بكلّ جهاتك وكلّ أقاصيك. هذه آخر لغةٍ أحدّثك بها. آخر سرّ قد يحيطك بكثيرٍ من الأجوبة المتغيّرة كلّ لحظةٍ، فتصبح منها. قد تكون آخر فرصة إدراكيّة قابلة لأن تجتمع بها. أنت ككلّ الذين قد تحوم بك كافّة أسباب الهستريا لتفرغ ما يمكن أن يشكّل جدالاً رمزيّاً لزمنٍ ذاتيٍ مخالفٍ لشكل ما قد يكتبونه عنك.
ليس معيّناً… شبيهاً… أو مطابقاً للفيزياء في تفصيص الأحياز والبحث عن ما يمكن أن يجانسها فيحوّلها أو يغيّرها أو يعطيها معنىً آخر أو على الأقل يبهج المختصّ في وقوفه أمام ذلك الجّدار الذي أنشأه بذاته التي أُجبِرَت هي الأخرى أن تملأ نفسها ـ بتفكير المختصّ ـ بأمورٍ عديدةٍ ربّما منها، الاستسلام… أنا لا أعرف أن أقسم مثلهم، ولا أن أحتاج مثلهم.
هل أنا نائمٌ؟ الرّجل الهزيل ـ المثلي الوحيد في ذلك الحي ـ الذي بقي هناك وحده غير آبه بكل ما حصل. هو من كان يحرّك كلّ ذلك؟ رجلاً كان أم طيفاً؟… هل أنا مَن فعلت كلّ ذلك؟. متّهَم أنا… كأنّي مجرمٌ، كما في كلّ كتاباتي.
………………………………………………………………………………
التَنْبور: آلة كُرديّة موسيقيّة وتريّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى