الكورد في سوريا.. ثنائية الحجل والجبل
إيفان حسيب
لم يتوقف طموح أنقرة في تعزيز تواجدها العسكري في سوريا عند سيطرة الجيش التركي والفصائل السورية المسلحة التابعة له على مناطق الباب وجرابلس وعفرين، بل ما زالت تسعى علناً لبسط نفوذها على أكبر مساحة جغرافية ممكنة من الأراضي السورية، بما يعزز موقفها السياسي في مفاوضات التسوية النهائية للأزمة السورية.
بعد أشهر من التهديد والوعيد، أعلنت تركيا يوم الاثنين 17 كانون الأول من العام الجاري، انطلاق عملية عسكرية وشيكة شرق الفرات، مؤكدةً بذلك عزمها على خوض معركة عسكرية جديدة على الأراضي السورية تستهدف بشكل رئيسي مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” والتي تشكل “وحدات حماية الشعب” عمودها الفقري.
يأتي تعاقب التصريحات والمواقف الرسمية التركية حول قرب بدء العملية العسكرية شرق الفرات بالتزامن مع “بروباغاندا” إعلامية تركية ضخمة تهدف إلى تبرير وشرعنة شن الجيش التركي لحملته العسكرية المزعومة تحت ذريعة “حماية الأمن القومي التركي” والقضاء على وحدات حماية الشعب (YPG) التي تعتبرها أنقرة الذراع السوري العسكري لحزب العمال الكوردستاني، والمصنف “إرهابياً” لدى تركيا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
فرضت تركيا نفسها بدايةً كلاعب رئيسي في ساحة الصراع السوري بشن حملة عسكرية خاطفة في منطقة جربلس في آب 2016 سيطر خلالها الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية المسلحة الموالية له على كامل المدينة خلال ساعات إثر انسحاب مقاتلي داعش منها، مروراً بتوصل تركيا مع روسيا وإيران في أيار 2017 في مباحثات آستانة 4 إلى اتفاق “خفض التصعيد” ونشر نقاط مراقبة وإقامة مناطق آمنة في سوريا، وصولاً إلى اللعب على حبال التناقضات ومفارقات المصالح الإقليمية والدولية في المنطقة عبر إبرام اتفاقات والتوصل إلى تفاهمات غير معلنة مع روسيا والولايات المتحدة.
لم يكن قرار روسيا بسحب شرطتها العسكرية من منطقة عفرين والسماح لتركيا باستخدام سلاحها الجوي قبل ساعات من بدء عملية “غصن الزيتون” في كانون الثاني 2018 إلا مؤشراً واضحاً على تفاهم (تركي – روسي – أمريكي ) غير معلن، تبلور أكثر مع الصمت الأمريكي المريب وعجز الحكومة السورية وإيران عن التحرك في مواجهته، ليدفع كورد عفرين لاحقاً ضريبة هشاشة التوافقات بين الاتحاد الديمقراطي المهيمن على الإدارة الذاتية في شمال شرق البلاد والقوى الفاعلة في الأزمة السورية.
وبالعودة إلى الوضع في شرق الفرات في ظل ما تشهده المنطقة من ترقب، كان التعويل بشكل رئيسي على وجود القوات الأمريكية كرادع لأي تهديد للمنطقة، إلا أن إعلان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب يوم الأربعاء الماضي سحب قواته بشكل كامل من الأراضي السورية جاء كضربة قاصمة لأهالي مناطق ومدن شرق الفرات، وبشكل خاص الكورد منهم، فالحرب باتت محتومة وقادمة إلى مناطقهم التي تشهد استقراراً أمنياً نسبياً منذ سنوات، وتجربة عفرين لا تزال ملء السمع والبصر بما حملته من ويلات وانتهاكات مورست وما زالت تُمارس بحق أهلها على يد الجيش التركي والفصائل السورية المسلحة التابعة له.
إن قرار الولايات المتحدة الأمريكية المفاجئ بسحب قواتها من سوريا جاء على النقيض من الاستراتيجية الأمريكية المعلنة في سوريا ببقاء طويل الأمد حتى بعد القضاء على تنظيم داعش، وذلك لضمان عدم عودة التنظيم واشتراط توصل المعارضة السورية والنظام إلى حل سياسي، وكذلك محاربة النفوذ الإيراني في سوريا، فيما قال مسؤولون أمريكيون لـ”رويترز” إن قرار الانسحاب جاء بعد اتصال هاتفي الأسبوع الماضي بين ترامب وأردوغان، ما يثير شكوك جدية عن تفاهم (أمريكي – تركي) خفي يقضي بشن الأخير عملية عسكرية تستهدف مناطق نفوذ الكورد شرق الفرات.
لا يثير مخاوف الكورد السوريين التهديدات التركية والانسحاب الأمريكي من المنطقة فحسب، بل كذلك محاولة مسؤولي حزب الاتحاد الديمقراطي والإدارة الذاتية تحجيم خطورة الوضع الحالي عبر إطلاقهم تصريحات متناقضة وأخرى لا ترقى إلى مستوى فداحة الفراغ الأمني الذي سيشكله الانسحاب الأمريكي من المنطقة.
علقت قوات سوريا الديمقراطية المسيطرة على شرق الفرات على القرار الأمريكي بأن هذا الانسحاب سيخلق حالة من عدم الاستقرار ويوجد هوة سياسية وعسكرية ستترك الناس في المنطقة بين مخالب قوات معادية، وفي المقابل علق “آلدار خليل” القيادي البارز في حزب الاتحاد الديمقراطي على قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا بأنهم لم يعولوا يوماً على أي قوة خارجية في الدفاع عن المنطقة، ما يتناقض مع تصريحات “قسد” والمعطيات على أرض الواقع في أقل تقدير، فوجود القوات الأمريكية كان العائق الرئيسي أمام تركيا والفصائل المؤتمرة بأمرها لشن عمليتها العسكرية المزمعة في شرق الفرات، وها هي أمريكا تقرر الانسحاب ومعركة “قسد” والتحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” في آخر جيوبه بمنطقة “هجين” بسوريا قاب قوسين أو أدنى من الحسم الكامل، فيما تترقب الحكومة السورية أي فرصة لاستعادة السيطرة على المنطقة عسكرياً في ظل صعوبة وصول الطرفين إلى توافقات سياسية بسبب رفض دمشق القاطع لمنح الكورد أي شكل من أشكال الإدارة الذاتية شمال شرق البلاد.
وتعتبر العلاقات الكوردية – الكوردية على الصعيد السوري والكوردستاني الأكثر تعقيداً وتأزماً بسبب تفرد الاتحاد الديمقراطي بإدارة المناطق الكوردية في سوريا وإقصاء المجلس الوطني الكوردي المعارض وأحزاب أخرى لا تدور في فلكه من المشاركة في إدارة المنطقة، أما كوردستانياً فالوضع لا يختلف عن سابقه، فالاتحاد الديمقراطي فشل في كسب ثقة الحزب الديمقراطي الكوردستاني بزعامة “مسعود البارزاني” الذي لم يتوان عن دعم مفاوضات السلام بين أنقرة وقنديل مطلع العام 2013 ورعى إبرام ثلاث اتفاقيات بين المجلس الوطني الكوردي والاتحاد الديمقراطي، مع اتهام الأخير بعدم الالتزام بها، ما يُضعف إمكانية قيام البارزاني بأي مبادرة مع الجانب التركي قد توفر على المنطقة حرباً ستكون نتائجها كارثية على الكورد السوريين.
في ظل ما سبق من معطيات، يبدو أن لا مفر أمام كورد سوريا سوى خوض معركة عسكرية محتومة بغض النظر عن طرفها الآخر، وكذلك بغض النظر عن موعدها ونتائجها.
على مدى تاريخهم الطويل، تحصن الكورد بتضاريس جبالهم خلال حروبهم الدفاعية ضد أنظمة تركيا وإيران والعراق، غير أن الكورد في سوريا، وعلى خلاف المقولة الشهيرة “لا أصدقاء سوى الجبال”، وحيدون اليوم في مواجهة الخطر بلا أصدقاء … وبلا جبال.
جميع المقالات المنشورة تُعبر عن رأي كتابها ولاتعبر بالضرورة عن رأي Yekiti Media