الكُرد والعام الجديد
محمد زكي أوسي
في روايته الرائعة (الجذور) يرسم لنا الكاتب الأمريكي الكبير (اليكس هالني) مشهد السفن التي يقودها القراصنة والنخاسون المتاجرون بالبشر وحيواتهم, وهي تقل الأفارقة السود عبيداً إلى أمريكا عبر البحار الثائرة الأمواج تماماً كما نرى في مستهل الألفية الثالثة قوارب الموت يقودها تجار الجريمة وهي تفرغ مدن وقرى كُردستان من خيرة أبنائها وبناتها, هذا المشهد وذاك يوحي للجميع بانعدام الأمن والأمان في عالمنا, وبالمزيد من عولمة القهر والإبادة العرقية (الكُرد والروهينغا) نموذجاً والفوضى كما وصف (غوتيريس) أمين عام الأمم المتحدة, هذا إلى جانب المزيد من إرهاب الدولة والمنظمات واستخدام منطق القوة المتوحشة في العلاقات الدولية, وتطرف الحركات الأصولية بمختلف أنواعها, وهذا يستوجب الحذر والتأمل في الأسباب الواقفة وراء الإرهاب بدءاً بالظلم والاستبداد ومروراً بالفقر والبطالة والجهل والأمية, إن كل هذا لايتم إلا بوجود الارادة المشتركة للجميع لتحقيق مبدأ السلم والعادالة الدوليين من خلال العمل لتمكين الشعوب والأمم من تقرير مصيرها بنفسها إلى جانب البحث عن منابع الإرهاب لتجفيفها.
إن الذي أثارني لكتابة هذه المقالة ومضة نور أشعلها التاريخ في نفسي, فلا يمكننا الإعداد لبناء المستقبل دون الالمام بأحداث الماضي, وكذلك مقولة الخطيب الروماني شيشرون (مَن لا يحسن قراءة التاريخ, يبقى أبد الدهر طفلاً صغيراً) وحكمة البارزاني الخالد: (إنني أحب العلوم كلها بلا استثناء وخاصة التاريخ لأنه الأقدر على التوعية والأكثر دفعاً للإنسان تجاه الثورة) وغايتي عرض حقائق التاريخ أمام من أصابه فقدان الذاكرة والذين لم يتسنَ لهم قرءة تاريخ النكبات والنكسات قراءة نقدية صحيحة ولإزالة الغشاوة عن أعين سواد الكُرد الذين انبهروا ومازالوا بشعارات ومقولات مضللة شغلت الجميع ودفعنا ضريبتها الغالي والنفيس طيلة قرنٍ ونيف ومنها:
1- بعد إلحاق جنوب كُردستان بالعراق والجزء الجنوبي الغربي بسورية بدءاً من عام 1920م. وحتى 1929م. ازدادت أحوال الكُرد سوءاً جرّاء هذه الجريمة المشؤومة في ظل الانتداب الانكليزي – الفرنسي وفقاً لاتفاقية سايكس – بيكو – سازانوف (1916)م. لتزداد الأحوال سوءاً في العهد المسمى بالوطني في سورية والعراق, فلم يحظَ الكُرد بشراكة حقيقية وخابت الآمال من الأناشيد والمزامير التي كانت تتردد على المسامع ليل نهار مثل: الأخوة – الوطنية – مقاومة الاستعمار..
2- أيام الحرب الباردة بين الشرق والغرب, كانت موضوعة الاشتراكية التي لامست شغاف قلوب الكُرد المظلومين المقهورين وانبهروا بها بدايةً, ولكن سرعان ما خابت آمالهم و أجهضت خصوصاً بعد تواطؤ الاشتراكيين وتحالفهم مع الأنظمة المستبدة التي تضطهد الكُرد وتقتسم بلادهم.
3- في أيامنا هذه انبهر الكُرد كثيراً وخاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وسقوط جدار برلين وساد التفاؤل فحقبة الحرب الباردة طويت صفحتها, وأن الحدود التي رسمها الاستعمار لا محالة ساقطة, ولكن سرعان ما تبين زيف الرؤية وخَبَتْ أكذوبة شعار إرادة الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها, ولم يهتم رافعوا ألوية هذه الشعارات بمضامينها, وما كانت عمليتا الاستفتاء حول تقرير المصير الكُردية والكاتالونية عام 2017م. إلا بمثابة كشف الغطاء عن الحقيقة التي يضمرها المتلاعبون بمصير الشعوب والأمم المقهورة, وكفيلة بفضح عُهرِ رافعي شعار الديمقراطية.
لِنَعد إلى التاريخ ونرى كيف كانت ديمقراطية (أثينا) عرجاء فهي تجاهلت حقوق النساء والعبيد واستبعدتهم من ممارسة حقوقهم رغم كونهم ثلاثة أرباع مواطني أثينا, قد يدعي أحدهم إن هذا كان قبل الميلاد, فنرد قائلين: (ماذا حل بالكُرد في إقليم كُردستان والكتالونيين عقب الاستفتاء على مبدأ حق تقرير المصير, هذا المبدأ الذي أجمعت عليه قيم الإسلام: (متى استعبتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟) زد على ذلك ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة و الديمقراطية ولوائح حقوق الإنسان التي تفتخر بها أمم الأرض جميعاً, أليس منح حق النقض (الفيتو) لأقوياء الأرض ضربة قاصمة للديمقراطية وحقوق الإنسان, أليست هذه البروباغندا الهوجاء ازدواجية بين النظرية والتطبيق الذي فيه العبرة.
4- أما أممية المتأسلمين التي تعتمد الانتظار إلى ما لانهاية والصبر على الظلم والغبن, والدعوة إلى الوقوف بجانب الحكّام وأولياء الأمور ونصرة الأمم الغاصبة ضد الأمم المقهورة والمغلوبة على أمرها شيء مثير للقرف والاشمئزاز معاً وبعيد كل البعد عن روح الإسلام وجوهره الحقيقي, ومما يؤكد فشل أممية المتأسلمين هو تعثر أنظمة الإسلام السياسي وفشلها في تركيا وإيران وغيرهم ألا نتذكر الجينوسايد الذي ارتكبه نظام صدام البائد في حلبجة الشهيدة (16/3/1988م) ووقتها انعقد مؤتمر القمة الإسلامي وضم (53) دولة في الكويت, ولكنه لم يتطرق إلى الحدث من قريب أو بعيد, رغم رائحة الدم التي كانت تزكم الأنوف وصرخات الضحايا التي صمت الآذان, لقد صمت المسلمون طويلاً, في الوقت الذي كان عليهم التنديد بما جرى ويجري كي يبعدوا عن أنفسهم عار عدم الاكتراث بمصير شعبٍ مسلم يتعرض للإبادة.
إن سد السبل والمنافذ أمام شعبنا في ممارسة حقه في تقرير مصيره, وخلق الحجج لاضعاف إرادته في ممارسة هذا الحق بحجة ما يسمى بالفضاء الوطني أو التبجح بالأكثرية لمصادرة حقوق الأقلية, ينف كل الحقوق الديمقراطية ويدعونا إلى وحدة صف شرفاء الكُرد ووطنيهم وترديد مقولة: (لا ديمقراطية بلا ديمقراطيين).
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “270”