اللغة الأم وآلية التفكير
زهير علي
اللغة الأم هي اللغة الأولى التي يتعلمها الإنسان بدءاً من مرحلة الطفولة بشكل طبيعي من أسرته ومجتمعه و البيئة التي ينشأ فيها.
– الفكر من التعاريف المعبرة له: “هو إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول”.
علمياً ثبت أن عقول البشر جميعاً مطابقة لبعضها بيولوجياً، ولم يثبت وجود عقول نوع أول وعقول نوع ثاني .. إنما ثبت علمياً وجود إختلاف في آليات التفكير من إنسان لآخر ومن مجموعة بشرية لأخرى .. وآليات التفكير هي إما بسيطة أو مبدعة، وهذه بينتها التجارب والإختبارات أنها ترتبط بعدد الخلايا العصبية في الدماغ التي تشارك وتعمل في آليات التفكير ( يبلغ عدد الخلايا العصبية في الدماغ حوالي 100 مليار خلية .. بعض العلماء يقولون أن الموظف من قدرة العقل البشري ككل إلى الآن لا يتجاوز 20٪ والبعض يقول 10٪. و هناك مايثبت هذا الرأي فمثلاً الرسم المنظوري لم يقدر عليه الإنسان إلا في القرن السادس عشر. أي أن العقل البشري قبل ذلك لم يكن إستطاع تفعيل مقدرته لفهم المنظور وآلية رسمه رغم أنه يرى كل شيئ بشكل منظوري منذ وجوده .. كثير من طلاب كلية الهندسة بداية دراستهم لا يستطيعون رسم المقاطع للأجسام الكتلية.
وفقا لعلماء اللغة كتشومسكي وغيره، أن اللغة هي التي تشكل آلية التفكير في العقل، و يذهب بعض العلماء لتحديد تاريخ إختراع اللغة من أقدم رسم إنساني عثر عليه ويعود إلى 73 الف سنة و أكتشف في جنوب أفريقيا وهو رسم تجريدي و بما ان الرسم هو إبداع للعقل البشري، و حسب هذا الرأي ماكان هذا الإبداع ليتفجر بدون حوار داخلي للإنسان والحوار الداخلي ما كان ليكون بدون وجود اللغة. لذلك يربط علمياً بين اللغة وآلية التفكير عند الإنسان و أن إختلاف آليات التفكير عند الجماعات البشرية مرده إلى إختلاف اللغات وقدرة كل منها على خلق الإبداع في العقل.
من هذا يستنتج أن اللغة التي تكون قادرة على إدخال أكبر عدد من الخلايا العصبية الدماغية في آلية التفكير؛ تكون قادرة على الإنتقال من آليات التفكير البسيطة إلى الحالات المبدعة و إلى درجات الأعلى في الإبداع ..
دراسة اللغة الكوردية تبين أنها قادرة لأن تكون أداة تراكم معرفي وأداة تفكير خلاق ومبدع فهي لغة قادرة على تشكيل مرادفات جديدة لا يمكن حصرها. ففيها تتشكل المفردات بالطرق الثلاث التي أكتشفها علم اللغات الإشتقاقية واللصقية والعازلة وهذه أعتقد ميزة تتفرد بها عن كل اللغات العالمية.. أيضا من مميزاتها المهمة أن الفعل فيها يملك عشرة أوزان و أعتقد الإنكليزية وحدها تتقدم عليها بتملك الفعل فيها إثنا عشر وزناً.
إنما اللغة الكوردية تعرضت لحصار وتقييد بتحريم ومنع القراءة والكتابة بها لأكثر من ألف عام و يزيد، وحولت قسراً لأداء وظيفة التواصل الإجتماعي فقط و حرمت من أداء وظيفة التراكم المعرفي، وبذلك قيدت قدرتها على تفجير ينابيع الإبداع في عقل الناطقين بها.( أبسط دراسة مجتمعية تؤكد تدني نسبة الإبداع والمبدعين عند الكورد خلال مئات الأعوام الماضية قياساَ بشعوب مجاورة لها مثلاً بالأرمن الشعب القريب لنا عرقياً ونعيش في جغرافيا واحدة علماً كان الكورد في مراحل تاريخية عديدة مثل الفترة الحثية والهورية و الميدية كانوا أكثر تقدماً ابداعياً .. ولكن حينما فقدت لغتنا وظيفتها كأداة تراكم معرفي بالإضطهاد الذي تعرضنا له تخلفنا إبداعياً، و الأرمن تقدموا إبداعياً لأن لغتهم كانت تؤدي دورها في التراكم المعرفي عندهم. بين كل لغات شعوب الشرق الأوسط، وحدها اللغة الكوردية حرمت من أداء وظيفتها بالتراكم المعرفي عبر منع القراءة والكتابة بها ومايزال هذا المنع مستمراً بشكل أو آخر.
طبعاً هذه كانت معاناة يعيها
الكورد وقد عبر عنها الشاعر الكوردي حجي قادر كويي في النصف الاول من القرن التاسع عشر في قصيدة طويلة له عن هذا التكفير والتحريم و الحظر للكتابة والقراءة باللغة الكوردية.
Kake ême mumîn în ne Rus în
Bo çi kifre zubaman binûsîn
Milleti bê kitêb û bê nûsîn
Xeryî kurdan niye li rûy zemin
Eger kurdek qisey babi nezani
Muheqqeq dayki hize babi zanî
وترجمته: /أخي نحن إيماننا ويقيننا مثل إيمانكم ويقينكم ولسنا على إيمان ويقين الروس … لماذا تكفرون وتحرمون الكتابة بلغتنا ولساننا .
لم يعد من شعب وأمة من دون كتاب و كتابة غير أمة الكورد على وجه الأرض.
هذا الحظر والمنع و إستمراره لمئات السنين. جعل اللغة الكوردية تنتج آلية تفكير بسيطة. نتج عنها إنسان يتصف بالبساطة ويوصف ممن حوله بالسذاجة.
فيما يلي أقتبس من بحث أكاديمي عن اللغة وآلية التفكير مع الإسقاط على لغتنا الكوردية.
( صحيح أننا استخدمنا اللغة في التواصل بعضنا مع بعض، وهي بلا شك فائدة عظيمة لكنها ليست ما يميز اللغة ولا ما يمكن أن يصفها وصفاً علمياً دقيقاً. فاللغات بالأساس، طبقاً لتشومسكي، وسيلة للتعبير عن الأفكار ولخلق الأفكار أيضاً. أي أن استخدامنا للغة بعينها كالعربية أو الكوردية أو التركية أو الفارسية يؤثر على الطريقة التي نبني بها أفكارنا، وينعكس ذلك على واقعنا بشكل مادي ملموس ومباشر، وهذا كان محور دراسات للمفكر العربي عابد الجابري عن اللغة العربية والفكر العربي.
تشرح أستاذة اللغويات في جامعة كاليفورنيا ليرا بوروديتسكي Lera Boroditsky الاختلاف الذي يمكن أن يحدث في أساليب التفكير من شخص لآخر بسبب اللغة الأم التي يتحدث بها، منبهةً إلى أن في العالم اليوم زهاء سبعة آلاف لغة، وأن كلاً منها تعكس طريقة مختلفة في التفكير ورؤية الأشياء.
وتضرب مثلاً فتقول إن أغلب اللغات الحيّة تحدد اتجاهات الحركة بإيجاد علاقة بينها وبين الجسم البشري فتقول مثلاً لشخص يسألك عن أقرب مستشفى “تجده على اليمين بعد قليل”. أنت تقصد هنا أن المستشفى هو إلى ناحية ذراع ذلك الشخص اليمنى. لكن هناك لغات أخرى مثل لغة السكان الأصليين لأستراليا تحدد الاتجاهات في كل شيء، كبيراً كان أو صغيراً، بالجهات الجغرافية الأصلية الأربعة. فيقول أحدهم مثلاً: “انتبه هناك نملة تمشي على ساقك الجنوبية”. ولأن ذلك الشعب يتكلم بهذه الطريقة، فإن جميع أفراده حتى الأطفال يكونون على وعي تام بالطرق والإتجاهات دون بذل أي مجهود، بينما لو جربت أنت أن تسأل شخصاً حولك عن الشمال الشرقي فسوف يحتاج في الأغلب إلى بوصلة لتحديد ذلك.
لكن هذا المثل، وإن كان يوضح الفكرة، قد يبدو بعيداً في أثره عن الحياة العملية. فلنلق إذن نظرة على ورقة بحثية رائعة قدّمها الأمريكي كيث تشين Keith Chen عام 2013 في جامعة ييل الأمريكية وأثبت فيها كيف أن اللغة التي نتحدث بها تُحدث الفرق ليس على مستوى السلوك الشخصي فحسب، ولكن أيضاً على مستوى الاقتصاد بالنسبة للدول يُفرّق تشين في بداية بحثه بين نوعين من اللغات: الأولى هي اللغات المستقبلية، أي اللغات التي يفرّق أصحابها في حديثهم عادة بين الحاضر والمستقبل، فيُقال: “سوف أزور والدتي غداً”، ومن هذه اللغات العربية والإنغليزية واليونانية والإيطالية والروسية. أما النوع الثاني فهو اللغات غير المستقبلية، وهي التي يتكلم متحدثوها عن المستقبل عادة بصيغة الحاضر نفسها، ومنها الألمانية والفنلندية والصيني وأضيف و الكوردية أيضاً هي من هذه اللغات. ففي العربية يقال ” سوف أو سأزور والدتي غداً” هذا مثال اللغات المستقبلية. بينما في الكوردية يقال
“Ez siba derim cem dayikê xwe” .
أنا أزور أمي غداً
هنا مثال اللغات التي تتحدث عن المستقبل بزمن الحاضر.
هذا الفرق الضئيل في طريقة تركيب الجملة بين لغة وأخرى يتسبب بتباينات ملحوظة في أساليب الحياة بين الأشخاص والعائلات. وحسب الدراسة، فإن نسبة ما يدّخره الأشخاص من الأموال التي يكسبونها سنوياً في البلاد التي تتحدث لغات لا مستقبلية كان أكبر بشكل ملحوظ بالمقارنة مع البلاد التي تتحدث لغات مستقبلية، وكان هذا مؤثراً في الاقتصاد الكلي للبلاد. وبيّن أن العائلات التي تتشابه في جميع الظروف تقريباً وتعيش في البلدان نفسها تميل إلى الادخار بنسبة 30% أكثر إذا كانت تتحدث لغة لا مستقبلية.
والسر في ذلك، كما يعتقد تشين، أنك إذا كنت تتحدث عن المستقبل طوال الوقت بصيغة الحاضر فسوف يجعلك ذلك واعياً بوجوده مثل الحاضر تماماً، وبالتالي فإنك سوف تفكر فيه أكثر من الشخص الذي يفرق لغوياً بين الحاضر والمستقبل. فلدى الأخير، تنعكس هذه التفرقة على تفكيره وسلوكه، ويصعب عليه أن يتمثل المستقبل في ذهنه كما يعي الحاضر، وبالتالي يجد صعوبة في أن يختار التنازل عن بعض رفاهيته الشخصية في الوقت الحاضر ليدخر وينفق في مستقبل ليس له حضور قوي في ذهنه أصلاً.
لم تقف أبحاث تشين عند الاقتصاد فقط، بل نجح في إيجاد صلة بين هذين النمطين من التفكير الناجمين عن طبيعة اللغة، وبين العادات الصحية. ومرة أخرى كانت النتائج تشير إلى صحة الفرضية وتؤكدها: فنجد أن ميل أصحاب اللغات غير المستقبلية إلى ممارسة الرياضة والحفاظ على لياقة بدنية جيدة أعلى بشكل ملحوظ من أصحاب اللغات المستقبلية. ويمكن تفسير هذا إذا نظرنا إلى التدريبات الرياضية التي تتطلبها اللياقة البدنية على أنها مشقة “في الحاضر” من أجل وضع أفضل “في المستقبل”.
وأخيراً نجحت فرضية تشين مرة أخرى في التنبؤ بنسب المدخنين في هاتين المجموعتين من الدول. فكانت أقل بنسبة ضخمة تصل إلى 24% عند أصحاب اللغات اللامستقبلية. والعلاقة كما يشرحها كيث تشين تنطلق من أن التدخين هو حصول على متعة في الحاضر مقابل ألم في المستقبل، أي أنه عكس فكرة الادخار تماماً.
ملاحظة أخيرة لم تذكرها الدراسة، إلا أنها واضحة في كل الإحصاءات التي اعتمدتها وهي أن الدول الأكثر إبهاراً للعالم وقدرة على تحقيق معجزات اقتصادية في القرن الماضي هي دول تتكلم شعوبها لغات غير مستقبلية. ويبدو أنه بعكس اسمه) *.
اللغات الحية هي اللغات التي تنطق في الحياة اليومية الطبيعية للبشر، واللغة الكوردية هي من هذه اللغات التي تتفاعل مع الحياة اليومية للناطقين بها، وهي تتقدم وتتطور من ذاتها مع تقدم الحياة ومتطلبات ووظائفها. وهناك كوردية قديمة وكوردية حديثة تواكب العصر والتقدم المجتمعي. هي لغة قادرة على خلق المرادفات الجديدة والقواعد الجديدة وكلمات تحمل معاني ومضامين و قادرة على خلق صور ومعان تحلق بالخيال لعوالم ابداعية.
اللغة الكوردية قادرة على إيصال الشحنة الكهربائية لعدد أكبر من الخلايا العصبية في الدماغ و بالتالي تنقل آلية التفكير من حالته البسيطة التي تسمى السذاجة إلى حالاتها المبدعة التي تسمى الذكاء والعبقرية.
حتى قبل مئة وخمسين عام كان يعتقد أن العقل وظيفته هو التمييز بين الخير و الشر … العلم الحديث قال أن العقل ليست وظيفته التمييز بين الخير و الشر وأصلاً لا يعرف الخير من الشر وإنما وظيفته مساعدة الإنسان بتلبية إحتياجته ومتطلبات من أمان وغذاء وجنس بألية تفكير توفر له ذلك بأسهل طريقة و بشكل يوفر دائما أكبر طاقة ممكنة.
قبل ثلاثة آلاف عام عرف الكورد ان هذه هي وظيفة العقل وصاغوا قاعدة أن الفكر الجيد ينجب الكلام الجيد و كلا الفكر الجيد مع الكلام الجيد يجعلان صاحبه يمارس العمل الجيد، والعكس أيضأ صحيح فالفكر السيء ينجب الكلام السيء وكلاهما معاً يعطيان العمل السيء.
Ramana pak
Gotinê pak Karê pak
اليوم اللغة الكوردية تؤدي وظيفتها في التواصل المجتمعي. ولكنها ضعيفة في أداء وظيفتها في التراكم المعرفي وفي خلق آليات التفكير المبدعة.. وهذا برأيي يعود إلى الحصار والتقييد اللذين فرضا على اللغة الكوردية الذي كان بالأساس حصاراً على العقائد التي كان عليها الكورد، وهدَا الحصار و التقييد حَوّل مفردات اللغة الكوردية في ذهن الناطقين بها لما يشبه مصطلحات جامدة سقطت معانيها ومضامينها من الذاكرة .. من خلال بضعة دراسات عن معنى ومضامين بعد الكلمات والعبارات الكوردية وجدت أنها ترتبط إرتباط وثيق بالعقائد التي كان عليها الكورد سابقا مثل العقيدة الميثرائية و عقيدة الآفاستان ( الزرادشتية). برأيي اليوم حتى يتم تمكين اللغة الكوردية من إستعادة ألقها وإمكانياتها في خلق آليات التفكير المبدعة في عقل الفرد وفي العقل الجمعي لا يكفي تعليم القراءة والكتابة بها فقط بل يتطلب الدراسة والبحث العلمي فيها لمعاني ومضمون الكلمات والعبارات حتى تتمكن من إمتلاك طاقتها الكامنة.. وهذا يستدعي فهم الأصل الذي نشأت منه وبنيت عليه .
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “279”