المجتمع المدني …..ضرورة أم هروب
فؤاد عليكو
الحديث عن مقولة المجتمع المدني حديث شائك ومعقد نظرا لتعدد مجالات عملها وتداخلها وصعوبة الفصل بينها، وهو مصطلح حديث العهدعلى منطقة الشرق الأوسط، إذ تم استخدامه لأول مرة من قبل الدكتور سعد الدين إبراهيم رئيس مركز ابن خلدون للدراسات في مصر 1988ومن بعده توالت الدراسات والمقالات حول المصطلح وتعريفه إلى أن توج بتعريف متفق عليه في ندوة نظم من قبل مركز الدراسات العربية في بيروت عام 1992حضره عدد كبير من الباحثين العرب المختصين في مجال الدراسات الإجتماعية على أنه((المؤسسات السياسيه وألاقتصاديه وألاجتماعيه والثقافيه التي تعمل في ميادينها المختلفه في استقلال عن سلطة الدوله لتحقيق أغراض متعدده منها أغراض سياسيه كالمشاركه في صنع القرار على المستوى الوطني ومثال ذلك الاحزاب السياسيه ومنها أغراض نقابيه كالدفاع عن مصالح أعضـائها
ومنها أغراض ثقافيه كما في أتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافيه التي تهدف الى نشر الوعي الثقافي وفقاً لاتجاهات كل جماعه ومنها أغراض للأسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية ))
ومن خلال التدقيق في هذا التعريف نلاحظ أن مصطلح المجتمع المدني يعتبرشكل من أشكال التعبير السياسي والثقافي والإقتصادي بعيدا عن هيمنة السلطة القائمة،لابل تقييما ومعارضا لسياساتها،وبالتالي فالأحزاب السياسية المعارضة تعتبرجزءا أساسيا من فعاليات المجتمع المدني عكس ما يتم ترويجه الآن في ساحتنا الكردية من قبل بعض الكتبة من الشباب بأنه يعمل في الشأن العام وضمن مؤسسات المجتمع المدني بعيدا عن السياسة والأحزاب وكأن الأحزاب لاتعمل في الشأن العام، وليست جزءاً أساسيا من مجالات المجتمع المدني ،هذا الخلط في المفهوم أو الإلتفاف عليه ، إمانابع من افتقار معرفي بمفهوم المجتمع المدني أو هروب عن عمد من استحقاقات المرحلة القاسية التي نمربها لأن تاريخ نشوء فكرة المجتمع المدني بدأ منذ نهاية القرن السابع عشر في بداية النهضة الأوربية ضد سلطة الكنيسة والحق الإلهي الذي كان سائدا في أورباوبعد ان تحول النظام السياسي من الملكية المطلقة والحق الإلهي الى الملكية الدستورية واول من نادى بهذا المفهوم هو الفيلسوف البريطا ني توماس هوبز1683عندما قال بأن أصل السلطة دنيوي وليس ديني وقد أدين على قوله هذه من قبل إدارة جامعة اكسفورد حينها ، ثم جاء بعده جون لوك ليقول أن أصل الدولة تعاقدي اختياري وليس قدراالهيا ثم تلا هؤلاء الفيلسوف الفرنسي الكبيرجان جاك روسو ونظرية العقد الإجتماعي في القرن الثامن عشروظهورمصطلحات جديدة مثل الدستور-الشعب –المواطنة والتي ترتكز على مبادئ أساسية هي الحرية –المساواة- العدالة وتعبيراتها العملية في الدولة الديمقراطية المدنية بعيدا عن العنف ووسائل الإكراه المتعددة الأوجه (إستبداد000دكتاتورية00فكر شمولي00الخ)0وبالتالي ليس غريبا أن نجد تداول هذه المصطلحات حتى اليوم سياسيا وثقافيا لابل يعتبر الأساس المعتمد عليه عالميا ومن هنا نستطيع القول بأن الأحزاب والمنظمات والنقابات والمؤسسات الإقتصادية غير الربحية كلها تعتبر أفرع لفكر المجتمع المدني ولاحقا له والتي تتبنى العلمانية والإسلوب الديمقراطي السلمي في الممارسة ا
ومن هنا نجد أن العلاقة جدلية بين المجتمع المدني والدولةالديمقراطية فلايوجد معنى للمجتع المدني دون دولة ديمقراطية ولامعني لدولة ديمقراطية دون وجودمجتمع مدني ،كما أنه لايمكن الحديث عن المجتمع المدني ونحن نعيش بعقلية ريفية بحتة فالمجتمع المدني مجتمع مديني بعيدا عن الإصطفافات القبلية والعشائرية والدينية ،لهذا نجد اختفاء مصطلح المجتمع المدني في الدول التي مارست الدكتاتورية مثل المانيا الهتلرية وايطاليا الموسيلينة والإتحاد السوفيتي ومعسكرها الشرقي بعد سيطرة الفكر الماركسي –اللينيني-الستاليني الشمولي وكذلك في معظم دول الشرق الأوسط إما بسبب الدكتاتوريات العسكرية أو بسبب الفكر الشمولي الديني أو بسبب الطابع القبلي للدولة كما في إيران والدول الخليجية0
غيران المفهوم بدأ بالإنتعاش مجددا بعد انهيار الإتحاد السوفيتي والمعسكر الإشتراكي والذي قاد الثورة فيها بداية نقابة التضامن البولندية 1981وهي نقابة مدنية كانت تهتم بشؤون العمال في بولونيا،ولم تتوقف رياح التغيير في أورباالشرقية بل ألقت بظلالها وثقلهاعلى منطقة الشرق الأوسط المثخن بالنظم الدكتاتورية والشمولية طيلة أكثر من نصف قرن0
ففي سوريا مجال موضوعنا ،بدأمفهوم المجتمع المدني بالتداول بشكل علني لدى النخبة السورية بعد وفاة حافظ الأسد وتولي نجله بشار الأسدالسلطة عام 2000مستغلا المناخ السائد بعد تولي الأخيرالسلطة ودعودته للتحديث والتطويرفي مؤسسات الدولة والمجتمع وتفائل الناس خيرابخطاب التنصيب وبدأت الفعاليات المجتمعية بالتحرك وتأسيس المنتديات الثقافية في دمشق وحلب وحمص والقامشلي وغيرها من المحافظات السورية واطلق عليه(ربيع دمشق)وحصلت حوارات جادة بين مختلف أطياف المجتمع السوري بمختلف تياراتها ومكوناتها حول السلطة والديمقراطية ومستقبل سوريا السياسي والإقتصادي والثقافي ،لكن سرعان ماأدرك النظام خطورة هذا الحراك الثقافي والذي تمدد في معظم الجغرافية السورية فبدأ بالتضييق أمنيا على النشطاء وزج بالعديد منهم في السجون وإجراء محاكمات صورية لهم وصل إحكام البعض منهم الى عشر سنوات كالدكتور عارف دليلة في محاولة من النظام اسكات صوت المثقفين والمتنورين السوريين،لكن كما يقول المثل (الأرض شرب الماء وسوف تنبت حتما) فكانت الثورة السورية المباركة ثورة على الإستبداد والقمع والفساد ثورة الحرية والكرامة والمساواة والعدالة وطالبت بدولة مدنية ديمقراطية بعيدا عن العنف الدولاني والمجتمعي ورفعت نفس شعارت المجتمع المدني وباسلوب سلمي تماما،وعلى الرغم من أن الثورة لم تحقق مطالبها حتى الآن وانحرفت عن مسارها الديمقراطي المرسوم من خلال دفع النظام باتجاه عسكرتها وتوجيهها باتجاهات طائفية ودينية بعيدة عن أهدافها الحقيقية التي قامت من أجلها إلا أنها تبقى ثورة الحرية والعدالة والمساواة في نهاية المطاف0
لذلك وعلى ضوء ماسبق فإن الحديث عن المجتمع المدني وتشكيل اطرها حديث سابق لأوانه فلا زلنا في مرحلة الثورة وأمامنا طريق طويل لإنجاز المرحلة وتأسيس الدولة الديمقراطية العلمانية المنشودة والتخلص من القبلية والطائفية والعقلية الريفية وهذه كلها تحتاج إلى دراسات معمقة حول المفهوم وجعلها ثقافة المجتمع وهذه لاتتحقق إلا في ظل دولة ديمقراطية ودستور ديمقراطي يقوم أساسا على مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وينص صراحة على استقلال مؤسسات المجتمع المدني عن السلطة عندها يمكن الحديث عن بناء هذه المؤسسات،أما ما يحدث اليوم هو تشويه للمصطلح وهروب من الأزمة ليبعد بنفسه عن استحقاقاتها المكلفة،أو استيراد وتقليد للفكر الغربي كما استوردنا سابقا الفكر القومي والفكر الماركسي دون دراسة أو تعمق بالمفهوم وكانت النتيجة الفشل الذريع للفكرتين القومية والماركسية على أرض الواقع وأنتجت أنظمة دكتاتورية لازلنا نعاني من تبعاتها وآثامها حتى اليوم ،فهل نكرر التجارب الفاشلة مرة أخرى؟؟
(هذا المقال منشورة في مجلة الربيع المدني العد صفر)