وليد حاج عبدالقادر / دبي
كان لانضمام سايكس إلى لجنة دوبوستين المكلفة بمتابعة محدثات الإمبراطورية ومستجداتها ، حيث كان هو ( سايكس ) من يخصّص / يشرّع البدائل المتوفرة لبريطانيا ، كنتاج واستخلاص لمخرجات اللقاءات ، وبعد نقاشات مستفيضة توصّل أعضاء اللجنة بأنّ أهم ما كان يتوجّب عمله حينها هو إعادة رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط ، وكشرطٍ رئيسي وملزم لذلك ، وهو عدم التقييد بالحدود الآنية ، ولهذه الغاية تمّ استحضار تعابير جغرافيي العصر الهليني وأطلقوا أسماءً عربية مثل شبه جزيرة العرب ، وليشملوها في صيغة جماعية تحت مسمّى بلاد الرافدين في الشرق وسوريا في الغرب واختير اسم فلسطين حيث أطلق على القسم الجنوبي من سوريا ، هذا الإسم الذي بحد ذاته هو في الأساس تحريف لكلمة ( فلستيا ) اي الشريط الساحلي الذي كان يسكنه الفلسطينيون ، قبل ظهور المسيح ، وهنا يتوجب علينا التذكير بأنه لم يكن هناك بلد على الإطلاق تسمّى ب فلسطين قبل ذلك بقدر ماكان الاسم بحد ذاته هو مجرد تعبير جغرافي درج في العالم المسيحي الغربي وكوصف للأراضي المقدسة 1 .
وفي العودة الى لجنة مارك سايكس والتي كانت قد اقترحت إنشاء 5 ولايات تتمتع بحكم ذاتي موسع ضمن الإمبراطورية العثمانية المقترحة تفكيكها وهي : سوريا وفلسطين وارمينيا الأناضول والجزيرة والعراق ( أي الأجزاء الشمالية والجنوبية من بلاد الرافدين) أما سايكس فقد طلب حيفا وهذا ما أقره جيرالد 2 .
وفي مطلع عام 1915 تفاجأ مقر المعتمد البريطاني في القاهرة برسالة جديدة من الشريف حسين يطلب فيها وبشكل مفاجئ وحتى من دون تفسير بأن تصبح آسيا العربية كلها تقريباً مملكة مستقلة وتحت حكمه ، الأمر الذي أصاب البريطانيين بالضحك والاستغراب أيضاً ، وردّ عليه رونالدينيو معقباً بسخرية ( … ينبغي للحسين أن يرضى بأن يسمح له بالاحتفاظ بولاية الحجاز ) ، وهنا علينا التذكير بأنه ( خلال المفاوضات ، وتحرك فيصل ولقائه مع ممثلي جمعيات عربية سرية بدمشق وهو في طريقه إلى آستانة حيث كانت تلك الجمعيات قد أعدّت وثيقة عرفت فيما بعد ب بروتوكول دمشق وقد أخذها معه فيصل إلى مكة ، وهي تلك الوثيقة التي حدّدت فيها المطالب التي ضمّت إلى الرسالة التي أرسلها صيف عام 1915 إلى مقر المعتمد البريطاني في القاهرة ، وكان من الطبيعي ألا تحمل أبداً من قبل البريطانيين بمحمل الجد 3 . وفي هذه المرحلة كان بعضٌ من الضباط العرب في الجيش العثماني قد فرّوا إلى القاهرة ، وكان من بينهم ملازم عراقي من أهالي الموصل ، وهو ذاته الضابط المعروف الفاروقي الذي أنذر البريطانيين في مصر محذراً ( بأنّ عليهم إرسال رد فوري إلى الحسين) وحسب الفاروقي كان على البريطانيين أن يؤمنوا / يضمنوا استقلال الشرق الأوسط العربي / الناطق بالعربية منها ، إن أرادوا أن تقود منظمة العهد العربية تمرداً ضد العثمانيين ، وأمهلهم الفاروقي مدة اسبوعين لقبول العرض أو فإنّ حركتهم سوف تلغي العرض وتلقي بكامل دعمها لألمانيا والإمبراطورية العثمانية 4 .
ومع انقضاء سنة على الثورة العربية ، أدلى مكماهون بتصريح قال فيه : ( كان أتعس يوم في حياتي عندما أنيطت بي مسؤولية الإشراف على الحركة العربية ، وأرى أنه لابدّ من بضع كلمات لأبين أنّ لا علاقة لي بذلك الأمر ، وفي بادئ الأمر قدّم الأمريكان طلباً عاجلاً من سير ايانا هاملتون أرسلت من غاليبولي ، وقد تمّ التوسل إلى الخارجية بأن تتخذ إجراءً فورياً لسحب العرب من الحرب ، وحينها كان الجزء الأكبر من القوات في غاليبولي وكامل القوة في بلاد الرافدين قوامها من العرب … 5 .
وقد أوجد المندوب السامي سير هنري مكماهون إلى وزارة الخارجية ، وذلك على أساس تقارير كلايتون نقل قول الفاروقي الذي قال فيه إنّ أمير مكة غير مصر على التمسك بمطلبه الأصلي بأن ( تمتدّ الحدود العربية حتى البحر ) و : إنّ الشريف حسين سيقاوم بقوة السلاح أية محاولة فرنسية لاحتلال مقاطعات حلب وحماة وحمص ودمشق ، حيث كان كل من مكماهون وكلايتون يطلبان تعويضاً لقبول هذا الشرط ، غير أنّ الكلمات التي صاغها مكماهون في إشارته لأماكن جغرافية كانت هي عبارات ضبابية مبهمة ، وكمثال : فحينما كان يشير إلى مدينة دمشق أو محيطها أم ولاية دمشق ؟ . والكلمة الإنكليزية – دستريكت – التي استخدمها ؟ فهل قصد بذلك محيط مدينة ؟ ام ولاية ؟ وأيضاً لابدّ لنا هنا من التساؤل ؟ فيما إذا كان الفاروقي هو الذي تحدّث عن مقاطعات ؟ . وهل عنى الإنكليز بالمقاطعات مدناً ؟ .
ومنذ تلك اللحظات والنقاش المركز يلفّ ويدور حول مغزى المطالبة ( بحلب – حماة – حمص – دمشق ) , ومع انقضاء عقود من السنين على ذلك ولغاية طرح أنصار فلسطين العربية حجتهم المبنية على أنّ هذه الأسماء الجغرافية الأربعة إن لم تفهم بشكل مركز فإنّ هذا الأمر يعني بأنّ القاهرة البريطانية وعدت بأن تكون فلسطين عربية ، في حين أنّ مناصري فلسطين اليهودية فلديهم حجتهم المعاكسة ، وطبيعي أن يكون ذلك النقاش بمعنى ما بلا جدوى ، ولسبب بسيط ! فعندما حان زمن التعهدات ، عاد مكماهون وتقصّد استخدام عبارات غامضة ومبهمة قصد منها ألا يهزم نفسه .. 6 .
وفي العودة إلى سايكس فقد كان منذ ايام الدراسة لديه فوبيا من اليهود ووصل إلى درجة كاد أن يصبح هامساً ، وكان يلمح شبكة مؤامراتهم الخطيرة و من الزوايا المعتمة .. ولكن ؟ كانت هناك مجموعة أخرى يشعر نحوهم باشمئزاز كبير وكتب في ذلك ( حتى اليهود فيهم بعض الخصال الجيدة ، أما الأرمن فليس لديهم شيء من ذلك .. ) وقد التقى سايكس ببعض من زعماء الأرمن في كلٍّ من الاردن والقاهرة واقترح عليهم وبحماس شديد إنشاء بيت أرمني يجنّد أفراداً من أسرى الحرب ومن الأرمن المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية ، ، من أجل غزو تركيا ، وأكّد بأنه يمكن أن ينشئ هذا الجيش ويفعله خلال 8 أسابيع … وبشكل عام فقد انحاز سايكس عملياً كلياً إلى راي كلايتون بأنّ الجيوش العربية قد توفّر مفاتيحاً للنصر ، ولهذا السبب فقد طلب من كلايتون أن يعود إلى لندن ويطرح المقولة الجديدة للقاهرة بأنّ الحسين يمكن أن يكون أهم من الفرنسيين في تعجيل إنهاء الحرب في الشرق 7. وبالفعل فقد تمّ الضغط على الفرنسيين بمذكرة شديدة اللهجة والضغط عليها وحثها للتخلي عن مطالبتها بدمشق وحلب وحمص وحماة والتنازل عنها الى الشريف حسين 8 .
وقد مارس مكماهون حنكة قوية في المراوغة سيما في الدخول إلى مباحثات – مفاوضات قد تؤدّي إلى إعطاء تعهدات محددة رغم تلقيه تعليمات من كيتشنر ، فقد تعمّد استخدام لغة المراوغة لكونه واثقاً بأنّ العرب سينالون استقلالهم بعد الحرب إإلا أنه أشار أيضاً بأنّ الحاجة استدعيت وجود مستشارين ومسؤولين أوروبيين كخبراء لتأسيس إدارات الحكم في البلاد العربية ، وقد أصرّ مكماهون على أن يكون كل أولئك المستشارين والمسؤولين بريطانيين حصراً … وهذا يعني بأنّ أية مملكة عربية مستقلة في الشرق الأوسط بعد الحرب عبارة عن محمية بريطانية ؟ !.
وفي رده على سؤال عن المناطق التي ستشغلها المملكة العربية المستقلة والمحمية من قبل بريطانيا ؟ طالب مكماهون في جوابه بتقسيم الأراضي التي يطالب بها الشريف حسين إلى أربع مناطق معللاً ذلك بأنّ بريطانيا غير قادرة أن ترتبط بتأييد مطالبة الحسين بأي منها وقد ابتدأ مكماهون جوابه قائلاً : ( .. يجب على الحسين أن يتخلّى عن مطالبته بالأرض الواقعة غربي دمشق وحلب وحمص وحماة ، وكان الفاروقي قد أكّد أو أن مكماهون ظنّ .. أنّ الفاروقي أقرّ ذلك وأنّ الحسين سيقبل بهذا التخلي ، وفي وقت لاحق كتب مكماهون : إنّ الأراضي لمن يحصل عليها الحسين والعرب هي سواحل سوريا ولبنان وفلسطين مع إمكانية رسم حدودي في مكان ما من الأردن الحالي ، ولكنّ اللغة التي استعملها يمكن قراءتها على هذا النحو ، ولكن حين قراءتها قراءة طبيعية أكثر فسنرى بأنه قد أشار هنا إلى سوريا ولبنان فقط دون الإشارة إلى فلسطين 9 .
وقد أبدى مكماهون ملاحظة بخصوص الجزء الشرقي من الشرق الأوسط الناطق بالعربية ، أي ولايتي البصرة وبغداد في بلاد الرافدين وقال : انّ موقف بريطانيا الثابت ومصالحها تقتضي أن توجد ترتيبات إدارية خاصة لهاتين الولايتين . أما هل ستترك هذه الترتيبات أية فسحة لتأكيد السياسة العربية ! وإذا كان الأمر كذلك فمتى وإلى أي مدى بقي هذا الأمر من دون بحث ، وبخصوص القسم الغربي ( سوريا وفلسطين ) فإنّ بريطانيا تستطيع ان تقدّم للحسين ضمانات تتعلق فقط بتلك ( والتي يمكنها أن تتصرّف فيها دون إلحاق ضرر بمصالح حليفتها فرنسا ، وبما أنّ فرنسا كانت ولحد ذلك التاريخ تدّعي لنفسها تلك المناطق بكاملها ، وفي الحقيقة فقد بحث سايكس مع الفاروقي مطالبة فرنسا بفلسطين وذلك في شهر تشرين الثاني عام 1915 حيث ترتّب على ذلك أنّ بريطانيا لم تتمكّن من التعهد بتأييد مطالب العرب فيها أيضاً ( بل ولا حتى مطالبتهم بدمشق وحلب وحمص وحماة 10 ..
يتبع
….
هوامش
1 – الصفحة رقم 163 – 164 من كتاب ( سلام ما بعده سلام – ولادة الشرق الأوسط 1914 – 1922 تأليف دافيد فرامكلين ترجمة أسعد كامل إلياس ، مؤسسة الريس للكتب والنشر )
2 – نفس المصدر صفحة 164
3 – نفس المصدر صفحة 197
4 – المصدر السابق صفحة 199
5 – المصدر السابق صفحة 200
6 – المصدر السابق صفحة 201
7 – المصدر السابق صفحة 203 و 204
8 – المصدر السابق صفحة 205 و 206
9 – المصدر السابق صفحة 206
10 – لمصدر السابق صفحة 206