آراء

المرأة الكُردية بين التوصيف والإنصاف

زكية ابراهيم حسني

بدايةً وقبل الخوض في أية تفاصيل سأعترف أولاً بأنني لست كاتبة في أية مجال محدد وإن كنت أعرف الصياغة بكل تواضع ، وشخصياً لم أمتهن الكتابة إلا قليلاً ، وعليه أتمنى ألا ينظر لما أسميه بكتابتي هذه ما ينظر أو يقاس به على الآخرين وأولهم زوجي وليد حج عبدالقادر وهنا ومع كلّ التقدير المشفوع بالتضامن مع حزبكم وجماهيركم ولقراءكم الكرّام ونحن منهم وخاصةً وقد عرفناكم كحزب مناضل وعن قرب في أشد المحن.

وهنا لا أنكر بأنه وبالفعل يستصعب علي كثيراً بالرغم من عصرنا هذا كما وانفتاح العالم كله على بعضه البعض ، أن أستوعب سر تأخرنا كُردياً عن استيعاب أهمية اللغة وكضرورة قصوى ولماذا كانت الهدف الكبير لكل أعداء كُردستان ، في حين أنّ ظروف كُردستان فرضت توأمة لغات عديدة كنا نتقاسمها مع لغتنا الكُردية ، وهذه كانت في البداية ولم تلبث وبالتدرج أن أخذت تفسح المجال للغات أخرى بالتسلل وأن تمارس بعضها هيمنة لغوية أو إقحام لمفرداتها فتزيح الكُردية الأصلية فيها وتحلّ محلها ، وهنا سيكون من البديهي إن أكّدنا من جديد بأنّ التركيز على اللغة الأم ومؤكد بأنني أعني بها اللغة الكُردية.

وفي هذا الزمن المبهر بوسائله التي تزيح أو تراكم وقد تخلط كثير من الأمور ببعضها ، وهنا دعوني – وبكل التقدير – أن أوضح وببساطة على اللاصعوبة بقدر ماهي التسهيلات الموجبة والتي ستيسّر وتسهل طريقة استعادة اللغة الأم كنطق شفاهي حتى لا أشوّه الحالة وأقول كسبها ، وكيلا تتوه مني عناصر هامة أراها ضرورية في هذا السرد للذكريات والآليات الموجبة إن للاستعادة اللفظية ومن ثم إعادة بناء سلاسة النطق السليم.

مع التأكيد من جديد على المبادئ التي سأرتكز عليها مدعومة بصفتي الشخصية لا ككاتبة مقالات وإن كنت أعني المراحل التي مرّت بها المرأة عبر تاريخها ودورها الذي تفاوت بين التسيد في بيئتها والحاكمة كما المدبرة لا لأمور أسرتها بقدر دورها الهام في صيانة مجتمعها ومتابعتها ، هذا الأمر الذي وببساطة ستوضح أموراً عديدة ، حيث بات لا يخفى على أحد الدور الكبير الذي قامت به المرأة عبر التاريخ البشري ، لا بل وإليها تعزو كل الدراسات بأنها هي الاساس كانت في كل التحولات التي تمّت كما والمزارعة الأولى وأيضاً الحائكة والمكتشفة الرائدة لأهم أسس التطور البشري عبر العصور ..

وهنا وبالإرتكاز على هذا التوصيف ومن خلال التجربة العملية في المتحولات التي تمّت منذ بدايات القرن الماضي فسأعود إلى سيرة جدي وجدتي الراحلين كأنموذج وقد اقتلعوا عسفاً من جذورهم وطوقتهم الظروف والمحن والتي راكبت حياتهما وهما المنحدران أصلاً من مدينة موش واضطرا إلى هجرها عسفاً وقسراً لابل فقد تسلّلا هاربين، ووالدي كان طفلاً رضيعاً بعد ، وكلّ ذلك تحت ضغط قوات الجندرما بعد فشل ثورة الشيخ سعيد بيران ومع دخولهما المنطقة الكُردية التي كانت قد ضمّت إلى فرنسا.

وحيث أنّ جدي وعائلته كانا من المقربين عقائدياً للثائر الكُردي المعروف شيخ سعيدي بيران ، لم يشأ جدي البقاء في المناطق الكُردية القريبة من الحدود ، فانطلق إلى الشام أسوة بالمئات من العوائل الكُردية ، واستقرّ به الحال في حي المهاجرين ، وبعد أن رتّب أموره أدخل والدي إلى كتاتيب ذلك الزمان و .. مع وفاة جدي ما كان والدي قد أنهى ال – بريڤي – بعد ) ولكنه كان قد دعم تحصيله بالإطلاع على علوم الشريعة وصار يلقّب بالملا ولكنه لم يستقر على ذلك ، ومع انتشار التبغ والتتن وغيرها من أنواع التبوغ وما سبّبته من ردات فعل لدى حكومة الإنتداب الفرنسية في تلك المرحلة ، ولضبطها والحد من قضايا وإشكاليات عديدة تمّ استحداث شرطة خاصة بها صنفت باللغة العربية تحت مسمى شرطة المكافحة وكانت تعرف بشكل أوسع بمسمى – الريجي – وبحكم أنّ عمليات التهريب كانت أغلبها تتمّ في المناطق الحدودية وبالأخص مع تركيا فقد تمّ نقله بعد فترة الى منطقة الجزيرة ، وهناك تعرّف على بيت جدي لأمي – الراحل ميرمم – حيث تزوّج ، وبعدها دارت بهما مراكب الانتقال من مخفر الى آخر ، ولم تمضٍ فترة قصيرة حتى كان قد دار بمعظم منطقة الجزيرة بدءاً من مركز عين ديوار فديريك وهناك تعرّف على والدتي وتزوّجا ولم يخلُ الامر حتى في ذلك الوقت بعد أن قويت شوكة العرب وأرادوا كف يد الكُرد من وعن كل شيء.

وهنا لن يفوتني التذكير بأمر هام ، وهي الفترة الطويلة التي وبقرار سياسي عنصري تمّ استهداف والدي وعلى إثره نقل مجدداً الى دمشق ، وكانت والدتي قد أنجبت طفلتين أولاهما اختي الكبيرة ومن ثم أنا ، ومع كثرة الولادات قابلها أيضاً الكثرة في التنقل ونحن ظلينا محاصربن ودائرين بين التجمعات في المناطق العربية ، وهذا الأمر هو الذي مهّد لإتقاننا اللغة العربية بسرعة مقابل تراجع لغتنا الكُردية وباختصار : لقد أوصلت فينا طبيعة عمل والدي وعدم الاستقرار في البيئة الكُردية الى درجة أننا فقدنا لغتنا الأم ولم تسعفنا حتى أمية والدتنا المطلق بفهم اية كلمة عربية فهي بنت ديريك ومن محيط كانت حتى رجالهم ماكانوا يستوعبون اللغة العربية ، وساعدها كثيراً أيضاً جهل جدتي باللغة العربية.

ولكن ؟ هل بقي الامر على ذلك ؟ بالتاكيد لا ؟ وكذلك الأمر خاصةً بعد أن تراخت قبضة المؤسسات في السنين الأخيرة والتي أدّت إلى مغادرة الفرنسيين سوريا وصعود قادة وضباط عرب عنصريين ، وكذلك وجد كما كان يقول والدي رجالات أكراد مهتمون بالقضية الكُردية وشعراء ودكاترة ولكنهم كانوا محاصرين ، وفي هذا الوقت كنت وأختي الكبيرة طفلتان بعد ونتكلّم لغتنا الكُردية فقط ومنبع كلماتنا هي جدتنا أم أبي وأمي وأبي ورغم تنقلنا الكثير لم نفقد لغتنا ومما ساعد في ذلك تقارب لهجتي أمي ( البوطية ) وجدتي وأبي ( من موش ) وما لبثت العائلة أن أخذت تكبر وتكبر ومعها المدارس والخوض في مجال اللغة العربية إن كبيئة بعد حرمان والدي لعدة سنين الخدمة في المناطق الكُردية ومن ثم مزاملة صديقات عربيات وبمناطق ذي أغلبية عربية ساحقة ، فهيمنت علينا اللغة العربية وحتى أمي صارت تحكي بها سوى جدتي التي تمسّكت باللغة الكُردية وإن زاملتها أيضاً بالتركية وهي اللغة البينية المفضلة ( أقصد بين جدتي وأبي ) ..

لقد فعلت البيئة التي كان ينقل والدي إليها ومن ثم وجود ثلاث لغات متداولة داخل أسرة صغيرة وبعيدة عن بيئتها فقد ساهمت وبشكل جدي على تعريبنا لغوياً وشيئاً فشيئاً باتت لغتنا المفضلة بينياً ، لابل وصلت بنا الحالة إلى مرحلةٍ باتت لغتنا الكُردية تتوه منا شيئاً فشيئاً ، حتى أنه لدرجة أن خال لنا قدم ليدرس عندنا ولم يكن يفقه من العربية شيئاً مالبثت أن أصبحت لغته المفضلة ، ومع السنين وكذلك التعليم والمدارس والإختلاط مع الغالبية العربية خاصةً بعد الإجراء الذي مورس ضد والدنا صرنا نفتقد لغتنا نطقاً وإن كنا نفهم بعضا منها كمعنى ، وبعد سنين عديدة أعيد والدي الى مدينة الحسكة ، وكان قليلون جداً من المحيط يعرفنا أكراداً في البداية إلى أن جاورنا – حي البيرتية الكُرد – والذين كانوا يستكثرون على والدتي ذلك ويصرّون على أنها نقيصة ، وبالفعل ومع الايام أخذت قريحتنا تنفتّح على لغتنا الأم، فكنت على سبيل المثال أصغي بانتباه شديد إلى أمي وجدتي والجوار والحوارات بأحاديثها وكانت المفاجأة الكبيرة هو ذلك الصندوق الذي جلبه والدي ذات يوم والصوت الذي يصدر منه وأعني به الراديو واستماعه وبشكلٍ روتيني لمحطة لها برنامج يمكن ساعة أو أكثر باللغة الكُردية ، ومع السنين الطويلة لم نستطع بالفعل تصقيل نطقنا الكُردي تحت ضغط هيمنة المحيط والتنقل والبيئة وجدتي المسكينة وأمي بين لهجتها ال – بوطية – واستصعاب المحيط لغتها الخاصة الملكننة عربياً ومع الأيام لم يبق مخفر للريجي في الدولة السورية لم ينقل له والدي ، وهنا بيت القصيد فقد كانت لها تأثير كبير لغوياً علينا نحن الأطفال بعد كنا ، وبشكل خاص في التعبير والصياغة وطبعاً كانت لصالح اللغة العربية التي ومازالت في سوريا هي اللغة الوحيدة المفروضة تعليمياً.

ولكن ! سأضيف عليها أمراً آخر وقد فرض علينا كعائلة فبحكم أن والدي كان موظفاً حكومياً ، وانتقلت مرات عديدة ، وتعرّضت في الأساس وقبل رحيل جدي لما يشبه القلع الجذري من الجذور ، هذه الجذور التي امتزجت بخلايا دمه وجدتي ومع رحيله تصقّلت وكحنين أزلي وروحية جدتي التي تشبّثت بها وبقوة ورغم نطقهما للتركية فقد أصرّا وبحزمٍ ألا نتلقّطها ولكن كانت على حساب لغة أخرى وإن كان يشجعها والدي لأسباب عدة وذلك للتعبير والصياغة وأعني بها طبعاً اللغة العربية التي ومازالت في سوريا هي اللغة الوحيدة المفروضة تعليمياً ولكن : سأضيف عليها أمراً آخر فرض علينا كعائلة فبحكم أنّ والدي كان موظفاً حكومياً ، تنقّلت كثيراً على خارطة الدولة السورية المحدثة الى أن استقرّت في بلدة سري كاني ، ونظراً لموضوعة التنقل لم يفكر والدي مطلقاً حتى لحظتها في التفكير بالإستقرار ، ولكن مع الفترة الطويلة في هذه البلدة وبعد أن لاحظ تقبلنا نحن أولاده مع المحيط وبداية كسر هيمنة اللغة العربية علينا لابل والتركيز على استخدامها وان كانت هجينة فقد اشترى داراً ورغم انتقاله بعدها إلى الحسيجة ، إلا أنه آثر عدم التصرف مطلقاً بالبيت وظلّ بؤجرها إلى أن كان الخيار الأخير هو الاستقرار في الحسيجة.

وهنا لتسمحوا لي أن أوضّح ما أريد استخلاصه : نعم لقد عشنا كعائلة ومررنا بظروف وبيئات متعددة، كانت بالفعل تفرض سطوتها ، تلك البيئات التي ندرت في أغلبها وجود اية كلمة كُردية خارج أسوار الدار، لابل وتشاركها التركية وهاهي العربية وبطغيان التعليم بها أيضاً ، وصلت بنا الأمور في الواقع الى نسيان شبه تام ،ولكنها وبكل أمانة، كانت في صميمنا دائماً توق ورغبة لتعلمها ، وأتذكّر بأننا كنا وكأطفال ،نلتمّ حول الضيوف الكُرد ونستمع بشغف للأحاديث باللغة الكُردية ، وبعد الاستقرار شبه التام لوالدي في مركز شرطة المكافحة بمدينة الحسكة ، ومن ثم عودة التواصل مع الأقرباء وخاصةً عائلة زوجي ، ولا زلت أتذكّر، وببعض من التفاصيل، وفي ذات التوقيت عن اعتقال – عمي الراحل حج عبدالقادر – وإنه مع أكراد ٱخربن تمّ سجنهم – وفقط همس لنا بأن لا نثيرها في الشارع خوفاً على وظيفة أبي .. نعم : لقد كانت من أكثر العوامل التي اثرت لابل وهيمنت علينا ومن ثم طغيان التحدث باللغة العربية بينياً هي ظروف عمل ابي ولكن قابله في المرحلة الثانية حنين طاغ للغتنا الأم هذا الامر الذي فرضه إصرار والدينا في الاستقرار بحي – تاغا بيرتيا – من جهة واختلاطنا مدرسياً مع أولادهم وبناتهم ولكن ولأعد وباختصار لأؤكّد على دور الأقارب وبشكلٍ خاص بعد انتقال بيت عمي من ديريك إلى قامشلو ومن ثم كثرة التواصل والزيارات حتى أن لكنة اللهجة البوطانية طغت ولفترة طويلة على لهجتنا ، وباختصار هنا : كتجربتي الشخصية وأخوتي ولمن يستسهل أية لغة على لغته الأم وتقديم ٱلاف المبررات سأذكرهم دائماً بأنّ لا لغة في العالم ستضاهي لغة مشاعرك الصادقة والحقيقية ولا لفظ سيكون في روعتها حينما تتكلّم مع أمك بلغتها، ويستحيل أن تفرح هي لو ملكت كل لغات العالم ونسيت لغتها وهذه هي وصيتي لكل أم أو أولاد أن : تشبّثوا بلغتكم وحافظوا عليها ،إن كنتم بالفعل لازلتم تحنون الينا ،وتريدوننا أن توصل لكم عواطفنا الحقيقية وبلغتنا …

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “322”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى