المشهد السياسي الإيرانيّ والانتخابات الرئاسية القادمة في ظلّ غياب رفسنجاني
يكيتي ميديا- Yekiti Media
عن عمر يناهز اثنين والثمانين عامًا، يفقد النِّظام الإيرانيّ عرَّابه وأمين أسراره علي أكبر هاشمي رفسنجاني، إثر أزمة قلبية حادّة. كثير من الحسابات والسيناريوهات التي وضعها المحلّلون السياسيون عن مستقبل النِّظام الإيرانيّ بعد وفاة مرشد الجمهورية على خامنئي، كانت تتحدث عن دور رفسنجاني في ضبط إيقاع النِّظام بما له من ثقل سياسي، وقدرة فائقة على التحالف مع جميع التيَّارات السياسية داخل النِّظام، بدءًا من المحافظين إلى المعتدلين، وصولًا إلى الإصلاحيين، لكن لم ينتبه أحد لمستقبل النِّظام الإيرانيّ في ظلّ غياب رفسنجاني وبقاء خامنئي.
اختبر رفسنجاني جميع منابر السُّلْطة في النِّظام الإيرانيّ بعد اشتراكه في الثَّوْرة ما حتى قبل عودة الخميني من منفاه في باريس، بعد قيام الجمهورية تولَّى رئاسة البرلمان الإيرانيّ من عام 1980م إلى عام 1989م، ثم رئاسة الجمهورية من 1989م إلى عام 1997م، ثم رئاسة مجلس الخبراء من عام 2007م إلى عام 2011م، وتوُفِّي وهو رئيس لمجمع تشخيص مصلحة النِّظام. وقد أحدث تطوُّرًا نوعيًّا في الاقتصاد الإيرانيّ بعد الحرب العراقية-الإيرانيّة في ما عُرف بسياسة إعادة البناء والتعمير، وتَبَنَّى سياسة المناطق الاقتصادية الحرة التي جذبت كثيرًا من الطبقة الوُسْطَى ورجال الأعمال الجدد، إلى صفِّه، ومع هذا لم يعادِ رجال البازار الداعم التقليدي لرجال الدين فتحالف معهم سياسيًّا واحتفظ بعلاقات جيدة مع حزب المؤتلفة الإسلامي الممثل لرجال البازار.
كان رفسنجاني يمثِّل رُمَّانة الميزان بين الحرس الثوري بقيادة محسن رضائي والقوات البرية للجيش الإيرانيّ بقيادة صياد الشيرازي إبان الحرب العراقية-الإيرانيّة، بخاصة بعد أن عيَنه الخميني قائمًا بأعمال قائد القوات المسلَّحة في نهايات الحرب العراقية-الإيرانيّة عام 1988م، واستمرت صلته قوية برجالات الحرس الثوري حتى الآن.
على صعيد الأحزاب والتوازنات السياسية أسَّس رفسنجاني حزب كوادر البناء والتعمير الذي أدار الحياة السياسية في إيران من منتصف الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات، وكان الأب الروحيّ لتيَّار الإصلاح وجبهة المشاركة، وكان خاتمي وزيرًا في حكومة رفسنجاني. لم يتعرض رفسنجاني لهجوم علنيّ من أحد سوى أحمدي نجاد عندما هاجمه طاعنًا في ذِمّته المالية، بهدف إبعاده عن الحياة السياسية، وتعبيرًا عن الجفوة التي حدثت بين رفسنجاني وخامنئي، التي زادت عام 2009م إثر عمليات القمع الموسَّعة ضدّ مؤيدي التيَّار الإصلاحي في أعقاب فوز أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية. وعلى الرغم من استبعاد رفسنجاني من انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2013م كصفقة سياسية، فقد احتفظ بمنصبه رئيسًا لمجمع تشخيص مصلحة النِّظام الذي يبتّ في النزاعات التشريعية التي تحدث بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور. الحقيقة أن رفسنجاني شكَّل ركيزة من ركائز النِّظام بعيدًا عن المنصب السياسي الذي يتولاه.
» رفسنجاني والمشهد السياسي الإيرانيّ:
لعب رفسنجاني دورًا كبيرًا في استمرار التحالف بين التيَّار المعتدل بزعامة الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني، وفصائل الإصلاحيين الذين تحدثوا على مدار الأشهر الستة الماضية عن تجاوز مرحلة روحاني، بعد استبعادهم من المقاعد الوزارية في حكومة روحاني ومنح أغلبها لتيَّار الولاية المحافظ المنشق عن جبهة الأصوليين والمتحالف مع روحاني. تفاوض رفسنجاني مع التيَّار الإصلاحي من منطلق سياسة المرحلية، وكيفية إعادتهم إلى صدارة الحياة السياسية الإيرانيّة تدريجيًّا بعد مرحلة الاستبعاد والقمع السياسي التي عاشوا فيها من عام 2009م إلى عام 2013م، ونجح رفسنجاني في ثني الإصلاحيين عن تقديم مرشَّح مستقل لهم في الانتخابات الرئاسة القادمة في مايو 2017م.
على صعيد العلاقة بين روحاني وخامنئي، مارس رفسنجاني دورًا كبيرًا في تحجيم حالة عدم التوافق التي سادت العلاقة بين خامنئي وروحاني العام الماضي، التي بلغت ذروتها في الفترة ما بين مارس وأغسطس الماضيين، وتمثلت مظاهرها في انتقاد الاتفاق النووي والأداء الاقتصادي لحكومة حسن روحاني، مع تمسك خامنئي بإدخال شركات الحرس الثوري في عقود النِّفْط الإيرانيّة الجديدة ورفض صيغة التعاقدات التي اقترحها بيجن زنجنه وزير النِّفْط الإيرانيّ. على أثر هذا الخلاف تبادل التيَّاران المحافظ والإصلاحي تفجير الفضائح المالية، فكانت فضيحة الرواتب الفلكية لمسؤولي حكومة روحاني، مقابل فضيحة توزيع محافظ طهران أراضي الدولة المحافظ على المعارف، ثم خفّت حدّة هذه الصدامات بعد وساطات لهاشمي رفسنجاني وناطق نوري، انتهت بصفقة سياسية تقضي بإبعاد أحمدي نجاد عن الترشُّح في مواجهة روحاني في الانتخابات الرئاسية مقابل توجيه روحاني جهوده إلى الساحة الدولية بهدف خلق تأييد دولي للضغط على الولايات المتحدة لتنفيذ بعض بنود الاتفاق النووي، مع إجراء تعديل وزاري استبعد فيه عددًا من الوزراء الذين يعترض التيَّار المحافظ على أدائهم، وكانوا وزراء الثقافة، والتربية والتعليم، والشباب والرياضة.
هذه الحالة من الهدوء النسبي لم تستمرّ طويلًا، فمع فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، وزيادة التوقُّعات الإيرانيّة بتعطيل الاتفاق النووي، وموافقة الكونغرس الأمريكي على تمديد قانون العقوبات الأمريكية على إيران لمدة عشر سنوات أخرى، تصاعدت حدة الانتقادات الداخلية ضدّ روحاني من جديد، وعاد تلويح المحافظين بتقديم مرشَّح لهم أمام روحاني، وبالفعل أقدم حزب المؤتلفة الإسلامي بترشيح مير سليم، الوزير السابق في حكومة رفسنجاني، لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة.
» سيناريوهات التوازنات السياسية الإيرانيّة في ظلّ غياب رفسنجاني:
لا شك في أن رفسنجاني كان داعمًا لروحاني وتيَّاره، وإلى حدّ ما يقف في مواجهة غُلَواء التيَّار المحافظ المتشدّد، إذ كان يُحسَب على التيَّار المحافظ التقليدي المتقارب مع المعتدلين.
رفسنجاني كان شخصية تجيد سياسة المساومات وحسابات المكسب والخسارة، ولا شك في أن غيابه سيفتح الباب أمام صعود المتشددين من التيَّارين المحافظ والإصلاحي، ومِن ثَمَّ فهناك سيناريوهات متوقَّعة من كل من الطرفين نلخِّصها في ما يلي:
1- سيناريو المواجهة والحسم المبكِّر للمعركة
يعتمد هذا السيناريو على دفع المرشد والتيَّار المحافظ بمرشَّح متشدِّد، مع حجب مجلس صيانة الدستور الصلاحية عن روحاني لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة، ويقوِّي هذا السيناريو قناعة التيَّار المحافظ بفشل الاتفاق النووي، وعدم قدرة روحاني على التعامل مع الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب. في هذه الحالة سيُحكَم على التيَّار الإصلاحي بالانزواء من جديد، وفي هذه الحالة لن يستطيع القيام بردّ فعل قوي في ظلّ غياب رفسنجاني الذي كان يستطيع التحرُّك بين أوساط المحافظين التقليديين، والدعوة إلى ترك مساحة من الحراك السياسي حتى تستمر اللعبة السياسية ولا يصاب النِّظام الإيرانيّ بالجمود. في هذا السيناريو ستزداد إمكانات الحرس الثوري وسيطرته على الاقتصاد الإيرانيّ، وستزداد أطماعه في السيطرة الفعلية على جميع مقاليد السُّلْطة في إيران، بما فيها منصب المرشد بعد وفاة خامنئي.
2- سيناريو استمرار الوضع القائم
بمعني ترشُّح روحاني، وعدم اعتراض مجلس صيانة الدستور عليه، مع تقديم التيَّار المحافظ مرشَّحين ضعاف لتنتهي الانتخابات بفوز روحاني، ويستمرّ التحالف بين المعتدلين والإصلاحيين، ولكن تحت ضغط مستمرّ من المحافظين وتنازلات أكبر يقدِّمها روحاني تتعلق بتركيبة الحكومة القادمة، والتضييق على التيَّار الإصلاحي، ومِن ثَمَّ يُتوقع في هذا السيناريو ابتعاد الإصلاحيين عن روحاني، ولجوؤهم إلى العمل السياسي المنفرد أو السرِّي، الذي من المؤكَّد أن ستتعامل معه الجهات الأمنية التابعة للمرشد أو السُّلْطة القضائية بقسوة، وهو الأمر الذي ظهرت بوادره في تعامل السُّلْطة القضائية مع النائب الإصلاحي محمود صادقي على خلفية اتهام الأخير لرئيس السُّلْطة القضائية صادق لاريجاني بالفساد المالي، ومن ثم فسوف تتجه الأجواء السياسية الإيرانيّة إلى التوتُّر، ولكن على المستوى البعيد نسبيًّا مقارنة بالسيناريو الأول.
3- سيناريو الحكم للشعب
يقوم هذا السيناريو على إدارة انتخابات رئاسية قوية تعتمد على تقديم مرشَّح محافظ قويّ في مواجهة روحاني، وترك مساحة من الاختيار للشعب الإيرانيّ، تُدعَم من خلالها المشاركة الانتخابية وتُدفَع الجماهير إلى استعادة جزء من الثقة بالنِّظام بعد سلسلة الفضائح المالية المتوالية التي تَعرَّض لها. هذا السيناريو على الرغم من ترك مساحة من الحرية الظاهرية للشعب فيه فإن المخرج النهائي للعملية الانتخابية سيكون مضمونًا للمرشد، فهو في كل الأحوال يمكن السيطرة عليه وتوجيهه، وهو في هذه الحالة يضمن بقاء التفاف الإصلاحيين حول روحاني، وعدم خروجهم من اللعبة السياسية الرسمية، ومِن ثَمَّ فسيدعم النِّظام ويوفّر عليه قدرًا من الصدامات الأمنية التي قد تشوّه صورة إيران داخليًّا وخارجيًّا في مرحلة حرجة، يحتاج فيها النِّظام إلى دعم القوى الخارجية، بخاصة الاتحاد الأوروبي، في مواجهة العداء المتوقع من دونالد ترامب.
لا شكّ في أن اختيار أي من السيناريوهات الثلاث مرتبط بشخص خامنئي كبقية السياسات في النِّظام الإيرانيّ، لكن خلف الكواليس كان لرفسنجاني دومًا ثقل يؤخَذ في الحسبان، ليخرج القرار النهائي لخامنئي وهو يحمل في طياته حسابات أخرى لا شك في أن رفسنجاني كان يشكل رقمًا كبيرًا فيها، ومِن ثَمَّ اختيار خامنئي أيًّا من السيناريوهات السابقة سيوضّح ما فقده التيَّار المعتدل والإصلاحي بغياب رفسنجاني، بمعنى أنه كلما كان اختيار خامنئي أكثر تشدُّدًا، ازداد أثر غياب رفسنجاني على التيَّار المعتدل.
مركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية