آراء

المعارضة السورية: أخطاء لا بد من الاعتراف بها

عبدالباسط سيدا

ما تواجهه المعارضة السورية اليوم حصيلة تراكم جملة مقدمات، أدّت بتفاعلاتها الداخلية، والأخرى الخارجية وتمظهراتها البنيوية، إلى وضعية لا تُحسد عليها. والعامل الأهم افتقار المعارضة إلى أحزاب قوية كان من المفروض أن ترسم الخط السياسي للثورة، وتقدّم رؤيتها المطمئنة لسورية المستقبل، وتضع الاستراتيجيات والتكتيكات للتعامل مع مختلف التحديات. وفي المقابل، لم تتمكّن القوى الثورية الشبابية من بناء الأطر السياسية الناضجة المستقرة التي كانت ستسدّ الفراغ إلى حدٍّ ما. وقد تنبهنا كمعارضة إلى هذين الأمرين منذ البداية. وسعينا وفق إمكاناتنا لجمع سائر الطاقات ضمن إطار المجلس الوطني السوري، على أمل أن يتمكّن من التعويض. لكن المجلس نفسه ارتكب مجموعة أخطاء نتيجة غياب الخبرة السياسية المطلوبة لمواجهة تعقيدات المرحلة، وصعوبة اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وعدم وجود آلية واضحة للمتابعة والمحاسبة والمساءلة. وأدّت هذه العوامل، وربما غيرها، إلى أخطاء استراتيجية في التقديرات والأداء.

 وبفعل نشوة المشاركة الشعبية الواسعة من مختلف المكوّنات السورية في الثورة، والتطلّع المشروع الحالم نحو سورية التي نريدها، إلى جانب الوعود المعسولة للأشقاء والأصدقاء، ارتكبت أخطاء مؤثرة، فاعتقدنا أن الأمور لن تأخذ سوى أشهر عدة، وربما سنة على أكثر تقدير، لتنتصر الثورة. وما ترتّب على هذا تجسّد في نزعة اتكالية تكتفي بالمظاهر، وتُهمل الجوهري، في انتظار نصر مقبل.

 لم نقرأ المواقف الدولية والإقليمية كما ينبغي. ولم نتوقف كثيراً عند موقع النظام من المعادلات الإقليمية وتفاعلاتها الدولية، لم نُشغل أنفسنا كثيراً بمآلات التغيير. كما لم نستوعب أبعاد الاستراتيجية التي اتبعها النظام في مواجهة الثورة، وكان محورها منذ اليوم الأول الربط بين الثورة والإرهاب، وبذل المستحيل لحصر المعركة بين النظام والإسلام السياسي السنّي.

 كنا ننطلق من مسلّمة حقنا المشروع في القطع مع سلطة الاستبداد والإفساد، ولم ندرك استحالة ترجمة هذا الحق في عالم المصالح من دون مصالح.

ونتيجة تفاؤلنا غير المسوّغ بنصرٍ قريب لم نول الاهتمام الكافي أمور تنظيمية عدة، كانت ستشكّل أوراق قوتنا الأساس. فعسكرياً، وبعدما فُرضت العسكرة على الثورة لأسباب لسنا بصدد تناولها الآن، لم نتمكّن من بناء الجسم العسكري المنظّم، الملتزم بسياسات المجلس ومن ثم الائتلاف، وإنما ظلّت العلاقة بيننا وبين القوى العسكرية – الميدانية مناسباتية مجاملاتية، يشوبها العتب وعدم الرضا أحياناً، وتتحدد غالباً ملامحها الفعلية استناداً إلى حسابات الجهات الداعمة. وأفسح هذا الأمر في المجال لمجموعة من الذين استغلوا الفوضى الميدانية لتسويق أنفسهم والحصول على مواقع قيادية، ما أضعف الأداء غير المقبول أصلاً، وأدّى إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء ندفع، وسندفع، ثمنها راهناً ومستقبلاً.

 وداخلياً وإدراياً لم ننجز المطلوب، سواء في المجلس أو الائتلاف، ولم ننظّم الأمور كما كان يجب. وفي الكثير من الزيارات إلى الداخل، كنا نواجه واقعاً لا بد من أن يعالج: فالمناطق المحررة كانت في حاجة إلى إدارة فعلية تحت مظلة المؤسسة المعترف بها شعبياً ودولياً، ولكننا تقاعسنا لقصور ذاتي أولاً، ولنقص في الموارد المالية ثانياً، مفسحين في المجال لمجالس إدارة محلية وهمية تحصل على إمكانات مادية لافتة من دون ضوابط تضمن النزاهة والجدية. هكذا غدت مرتعاً للطفيليين ومقتنصي فرص الأزمات. هذا فيما المجالس الفعلية التي تعمل على الأرض حُرمت الإمكانات المطلوبة، ما أضعفها وأفقدنا الصدقية. وفي أكثر من لقاء مع ممثلي هذه المجالس كنا نواجه هذه الحقيقة المرة بكل أسف. هذا ما واجهناه في أعزار، وباب الهوى، وأتارب، ومنبج، وتل أبيض، وغيرها من المناطق المحررة آنذاك.

 والأمر نفسه يصح في علاقاتنا بقاطني المخيمات في دول الجوار. فعلى رغم زياراتنا الكثيرة إليها للاطلاع على واقع أهلنا واحتياجاتهم، والتخفيف عنهم قدر الإمكان، وضمن حدود المستطاع، لم نتمكّن من ضبط العلاقة مع المخيمات وفق المطلوب. لم نشكّل لجان دعم الثورة فيها، ولم نعمل على إيجاد آلية فعالة لتحقيق التواصل بيننا وبين الأهل هناك، ولم نستثمر المخيمات في التواصل مع الداخل، أو نضع برنامجاً دورياً لاستمرارية الزيارات، وعقد الندوات الحوارية مع الأهل للاستماع إلى آرائهم، ووضعهم في صورة آخر المستجدات. وهذا من أبسط حقوقهم علينا، كونهم من أبناء الثورة وضحاياها، يدفعون ضريبة باهظة تتمثل في معاناتهم اليومية.

 أما الجاليات، فأهملناها بصورة مرعبة بخاصة في زمن الائتلاف، ولم نعمل على استثمار طاقاتها الهائلة لخدمة الثورة. فجاليتنا الكبيرة في الولايات المتحدة كانت، وما زالت، مستعدة للقيام بدور فعّال في التواصل مع مراكز القرار والأبحاث والإعلام الأميركية، وهذا ما تلمّسناه وعشناه مباشرة أثناء زياراتنا الكثيرة. كما أن جالياتنا في أوروبا لم تحظَ باهتمامنا المطلوب، على رغم ما ساهمت به من جهود لافتة مقدّرة في العامين الأولين للثورة، وتأكيداتها المستمرة في لقاءاتنا المباشرة معها لاستعدادها وقدرتها على المساهمة الفاعلة.

 وكانت جالياتنا الكبيرة في دول الخليج مؤهلة لأداء دور متميّز يمكّن الثورة من المحافظة على استقلاليتها، وبناء مؤسساتها بقدراتها الذاتية، ولكننا تركنا الميدان لأصحاب المشاريع الفردية أو الشللية العصبوية، ما انعكس سلباً وتسبّب في تشتت القوى الميدانية، وتنامي التشدد والتطرف إلى حدٍّ كبير.

 هكذا، نشأ شرخ كبير بين المجلس والشعب، وتفاقمت الحال حتى بات الاستقواء بالدعم الإقليمي هو المتحكّم في العمليات الانتخابية غير الموفقة التي اعتمدت أسلوباً لاختيار قيادات الائتلاف خصوصاً. فعوضاً عن الاستناد إلى دعم شعبنا في الداخل، وأهلنا في المخيمات والمهاجر، وُظفت العلاقات مع هذه الجهة الإقليمية أو تلك، أو حتى مجرد الإيحاء بوجود هذه العلاقة، لإقناع أعضاء الائتلاف بطرق شتى لاختيار هذا الشخص أو ذلك للمواقع القيادية، وما نجم عن هذا التوجه ترسيخ انطباع مفاده أن أياً كان يستطيع أن يتزعّم المعارضة بناء على علاقاته الإقليمية، والدعم الذي يحظى به أو يوحي.

 ومع تصاعد الخلافات البينية ضمن الائتلاف، وتراجع شعبيته، وخفوت الاهتمام الدولي به، حاولت أكثر من جهة تجاوزه، بل سعت لتكرار تجربة تجاوز المجلس، مستفيدة من واقع ضعفه، ورغبة بعض القوى الإقليمية والدولية في تجاوز تمسّكه، على رغم كل شيء، بثوابت الثورة، بخاصة على صعيد الإصرار على إبعاد بشار الأسد ومجموعته عن أية عملية سياسية مقبلة تكون أساساً لحل سياسي كنا، وما زلنا، نرى فيه الحل لمعالجة الوضع السوري.

 وما جرى في القاهرة وموسكو أخيراً لا يخرج كثيراً عن نطاق هذه المساعي التجاوزية، وهذا على رغم الخطوات الانفتاحية التي بدأها الائتلاف مع قوى المعارضة الأخرى خارج إطاره، لا سيما هيئة التنسيق.

 غير أن حصيلة الاجتماعين المذكورين أكدت للجميع أن الائتلاف، على رغم قصوره ونواقصه، يبقى الجسم الأهم والأبرز للمعارضة. فهو يضم القوى الأساسية على اختلاف توجهاتها، حيث يوجد مثلاً لا حصراً، إعلان دمشق و «الإخوان المسلمون» والمجلس الوطني الكردي والمنظمة الآشورية والكتلة التركمانية والكتلة الكردية الوطنية المستقلة، إلى جانب ممثلي الحراك الشبابي وممثلي هيئة أركان الجيش الحر والشخصيات الوطنية المعروفة بتاريخها الطويل في المعارضة.

 غير أن ذلك كله لا يعفي المعني من مسؤولياته، ولا يسوّغ أخطاءه أو يخفف حدتها. فالتقوقع على الذات، والاكتفاء بالسلبية السياسية، لم ولن يمكّناه من التعامل مع التحديات بفاعلية.

وما نحتاج إليه أكثر من أي وقت مضى تجاوز السلبيات المذكورة، ومعالجة آثارها، والانفتاح بعقل وقلب مفتوحين على قوى المعارضة الجادة الأخرى، بغية التوافق على مبادرة سياسية واقعية، تحترم تطلعات وتضحيات الشعب السوري وتمنح أجيالنا المقبلة الأمل والثقة بمستقبل أفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى