المعارضة السورية واللحظة السياسية الراهنة
علي العبدالله
تعيش المعارضة السورية خارج اللحظة السياسية الراهنة، بما تنطوي عليه من فرصٍ ومخاطر؛ فاستجابتها لمستدعيات اللحظة ضعيفة، إن لم تكن معدومة، فمواقفها وممارساتها تشي بأنها ليست في المكان والزمان المناسبين للردّ على التحديات، والتمهيد للخروج من عنق الزجاجة الذي حشرت نفسها فيه في السنوات الأخيرة.
لم تكن المعارضة السورية يوماً في حالةٍ أسوأ مما هي عليه الآن، حيث طغت على سلوك كوادرها ثلاث ظواهر مدمّرة: تقديس ذواتهم، تقديس أحزابهم؛ وتقديس عصبيتهم القومية والمذهبية. تجلّت الظواهر الثلاثة في سلوك كوادر المعارضة وقادتها في رفض النقد لرأيهم، والربط بين شخوصهم وآرائهم، واعتبار النقد مساً بهم وبكرامتهم، ورفض أيّ نقدٍ لأحزابهم أو قياداتهم، واعتباره تطاولاً وتجنياً على أمل الشعب ومنقذه؛ والردّ بعنفٍ على مطلقه قبل دراسته والتدقيق في مدى صحته وفرص الاستفادة منه في إصلاح خطط حزبهم وممارساته وتطويرها، فالنقد يعني عندهم تجاوزاً للخطوط الحمر يجعل من مطلقه عدواً، ورفض أيّ نقدٍ لمكوّنات عصبيتهم القومية والمذهبية، واعتباره طعناً بأقدس المقدّسات. وقد انعكس هذا سلباً على أحكامهم وتقديراتهم ومواقفهم، ما رتّب مزيداً من الاختلافات، وكرّس انقساماتٍ حادّة بينها، وحوّلها إلى جزر متباعدة و متخاصمة، وشل قدرتها على التوافق على تصوّرٍ وهدفٍ مشتركين، وصياغة رؤية جماعية، خريطة طريق، لمواجهة التحدّيات الماثلة التي لا قدرة لأيّ جهة منفردة منها على التصدّي لها، والخروج من إسارها، وعلى إدارة الصراع بخططٍ تكاملية مبنية على التعاون والتنسيق و التشبيك بين قواها و إمكاناتها، وفق رؤية وطنية مشتركة، تتجاوز الذاتية والحزبية والعنصرية والمذهبية على طريق إقامة الدولة العصرية، القائمة على الدستور وسيادة القانون والمواطنة وتحقيق العدل والمساواة وإطلاق الحريات العامة والخاصة وحماية حقوق الإنسان. لقد بات حالها حال سرب طيور تعرّض لإطلاق نارٍ من صيادٍ فتبعثرت صفوفه المنتظمة، وطار كل طير في اتجاهٍ، بحثاً عن النجاة.
لقد ترتّب على سيادة هذه الذهنية جمودٌ في المواقف، وتصلّب في العلاقات، وتراشق بالاتهامات وتنابذ بالألقاب، وتلاشي ثقافة الأولويات التي تفترض تحديد المهمّات والمعارك في ضوء تأثيرها على الصراع، وتسجيل نقاط للسيطرة على مجرياته، وتوجيه الوقائع والعوامل لخدمة استراتيجيتها؛ والتمييز بين القوى في ضوء المشتركات والتقاطعات وإقامة التحالفات، بناءً على نسب التوافق والتباين والمدى الممكن للعمل المشترك، حيث لا وجود للتطابق الكامل، بل حالات بين الصفر والمئة؛ ما يستدعي صياغة تحالفاتٍ بدلالة البرامج والخطط، تحالفاتٍ مرحليةٍ تختلف في هدفها واستمرارها من حالةٍ إلى أخرى، وفق تطورات الصراع والالتزام بالاتفاقات والبرامج المشتركة؛ والدفع باتجاه تشكيل جبهةٍ وطنية موحّدة، بالتوافق على رؤية سياسية وقيادة وطنية جامعة تحظى بالقبول. ولنا في مواقف وممارسات قوى المعارضة شواهد وقرائن صادمة على هذه الذهنية، بدءاً من سيادة ثقافة التكفير لدى حركات الإسلام السياسي، وتحديد الخصوم والأصدقاء وفق معيار الكفر والإيمان، ثقافة تعبّر عن نفسها بأشكالٍ متعدّدة من استنكار الترحّم على شيوعي ومعايدة المسيحيين، إلى توجيه تهمة الردّة على المخالف، وتبرير قتله والاستحواذ على ماله وسبي أطفاله ونسائه، علماً أنّ ليس في القرآن الكريم ما يشير إلى الحكم بقتل المرتدّ. وصولاً إلى التحفظ اليساري على حركات الإسلام السياسي، ونعتها بالرجعية واليمينية، وبلوغ التحفّظ تخوم وضع العلّة في الإسلام ذاته، مروراً بالحرب التي لا تنتهي بين الناصريين والإخوان المسلمين، وكأننا في ستينيات القرن الماضي، والصراع بين الشيوعيين على تفسير الماركسية ودروس التجربة الشيوعية في العالم، وصراع ديكة بين رموز التيار الديمقراطي، والسجال بين الأحزاب العربية والكُردية على الأسبقية والأحقّية، الذي غالباً ما ينطوي على نزعاتٍ عنصرية بتحقير الطرف الآخر والحطّ من إنسانيته.
هذا كلّه مع تمسّك كلّ طرفٍ بأفكاره ومواقفه التقليدية، من دون اعتبارٍ للتغيرات والتحوّلات العاصفة التي شهدها العالم، وانعكست سلباً أو إيجاباً على الأوضاع المحلية، بمستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما كشفته الأيام من نواقصٍ ونقاط ضعفٍ، وأخطاءٍ في مرجعياته وبرامجه وممارساته. حالة سلفية فجّة تختلف عن بعضها بالمدى الزمني الذي تعود إليه، فالإسلاميون يطابقون بين الإسلام وقراءاتهم له، ويعتبرون حركاتهم صنو الإسلام، ويقومون بدور القاضي بالحكم على عقائد الناس ومحاسبتهم، علماً أنّ القرآن الكريم حسم موضوع الحساب والعقاب، وأنّ مكانه وزمانه هما الآخرة، وليس في جعبة الناصريين غير الولاء لشخص جمال عبد الناصر. والشيوعيون يكرّرون أدبياتٍ كتبت عن عالمٍ مختلف، والديمقراطيون ضاقوا ذرعاً بمحدّدات الديمقراطية وقيودها التي لجمت نرجسيتهم، والأحزاب العربية والكُردية، كلٌّ يرى شعبه الأعرق وينبش التاريخ، ويجمع المعطياتٍ ليعلن أنه الأحقّ بالسيادة وامتلاك الماضي والحاضر والمستقبل، في تجاهلٍ تام للتاريخ المشترك، ودور الطرف الآخر في تاريخه وإنجازاته، وما رتّبه ذلك من حقوق ومصالح وفرص للتعاون والتكامل، بعيداً عن إنكار مصالح الآخر وحقوقه.
تقتضي اللحظة السياسية الراهنة ممارسة السياسة على أصولها وقواعدها، وكسر الحلقة المفرغة والخروج بحلولٍ سياسية وطنية، معقولة وعملية، بما يسمح باحتواء التناقضات، وتخفيف حدّة الانقسامات والتوترات، والتأسيس لإطار عملٍ مبنيٍّ على الالتزامات المتبادلة، وإعطاء الأولوية للأهداف الوطنية، بعيداً عن المحاور والولاءات الضيقة و التحيّزات المدمّرة، فالمهمة كبيرة وصعبة في ضوء دمار الدولة والمجتمع، وتفكّك عرى الوحدة الوطنية وحالة الإحباط واليأس السائدة بين السوريين عامةً، والتي ترتبت على سياسات النظام قبل الثورة وخلالها، وما يدفع باتجاهه سياسياً واجتماعياً، وغياب الفكرة الحافزة والافتقار إلى مركز تفكيرٍ يعمل على تنظيم الأفكار والتصوّرات والخطط المطروحة، وجسر الهوة بين المواقف لتشكيل مرجعيةٍ وطنيةٍ، تحظى بقبول شعبي، وتجديد الثقة بين المعارضة والجماهير السورية.
تحتاج هذه المهمة السياسية الصعبة، والحيوية في آنٍ، لمراجعةٍ شاملة وموضوعية لأفكارنا ومواقفنا وممارساتنا، عبر لعب دور النفس اللوّامة، وفق المصطلح القرآني، ومواجهة أنفسنا والكشف لها أولاً عن نقاط ضعفنا وقوتنا وتجاوزاتنا على المنطق والحقيقة، وعلى الآخرين وإعادة النظر بمواقفنا وسلوكنا في ضوء هذه المراجعة الذاتية وتصحيح علاقاتنا مع الآخرين بموجب محصّلتها، والتعامل بشفافيةٍ عاليةٍ مع القوى الأخرى، فالشفافية أساس الثقة بين الأفراد والجماعات، وقاعدة متينة لثقة الجماهير بشكلٍ خاص، ومدخل لتعزيز روح إيجابية بين الجميع، والتقدّم إلى الأمام على طريق إنجاز الخطط وتحقيق الأهداف. وهذا يستدعي وضع أنفسنا في موقع الآخر، وتصوّر طبيعة التصرّف، أو الخيار الممكن لاكتشاف مدى منطقية وموضوعية تصرّفه قبل الحكم عليه، وأن لا تكون أحكامنا حادّة ونهائية واعتماد ثقافة التفهّم وتقدير الظروف المحيطة، وثقافة التسامح التي تنطوي على حدّين متعارضين: الاختلاف والتفهم والتعاطي معاً. والكفّ عن لعب دور الشرطي بمراقبة الآخرين وإحصاء أنفاسهم وأقوالهم وممارساتهم في لحظات الضعف، وإلقائها في وجوههم عند أيّ اختلافٍ أو تباينٍ بالرأي، والكفّ عن تضخيم الذات والجماعة الخاصة والتواضع مع الآخرين، بما يسمح بترك باب التعاون والتنسيق مفتوحاً مع الجميع.
بداية الانخراط في هذا المسار صعبة وثقيلة على النفس. ولكن يمكن تسهيل العملية واحتواء الحرج باعتماد صيغةٍ وضعها المفكر المستقبلي الكندي، إدوارد دي بونو، لإدارة نقاشٍ ناجح لحلّ مشكلة وقوف عوامل شخصية وذاتية وراء احتداد المناقشات في الندوات وجلسات البحث، وتضييع الوقت والجهد في السجالات المريرة، وتعريض فرص إنجازٍ مناسب في وقتٍ مناسب للضياع، فوضع خطةً تقلّل من أثر هذه العوامل على جهود الباحثين، ونتائجها قائمة على وضع أربع قبعات افتراضية بأربعة ألوان وبالترتيب نفسه، يعتمر المتحاورون والباحثون قبعة افتراضية باللون نفسه، عند كلّ مرحلةٍ من مراحل النقاش أو البحث. أول قبعة باللون الأبيض، يسرد كلّ مشاركٍ خلال هذه المرحلة ما يعرفه عن موضوع النقاش أو البحث من معطيات وأرقام ووثائق، تقديم معلومات وحقائق. وثاني قبعة باللون الأصفر، يسرد كلّ مشاركٍ خلال هذه المرحلة النقاط التي يراها إيجابية لتبنّي الفكرة موضوع النقاش أو البحث. والثالثة باللون الأسود، يسرد كلّ مشاركٍ النقاط التي يراها سلبيةً في حال تبنّي الفكرة موضوع النقاش. ورابع القبعات باللون الأخضر، يسرد كلّ مشاركٍ خلال هذه المرحلة وجهة نظره في الموضوع والبدائل والحلول التي يراها، من دون أن يردّ على ما طرحه الآخرون. ثم تعطى التسجيلات أو الأوراق للجنة صياغة فتحرّرها على شكل بحثٍ متكامل، يعكس ما قاله المشاركون.
هل ينجح مأزقنا الراهن في هزّ جمودنا وتصلّبنا وافتتاننا بذواتنا، ويدفعنا إلى مراجعة قناعاتنا وأسلوب إدارتنا قضيتنا وصراعنا مع النظام وداعميه الروس والإيرانيين؛ أم نبقى في خنادق متقابلة، وأصابعنا على الزناد.