المفاوض وحقول الألغام
محمد رمضان
’’أستانا’’ هجمة البيدق و’’ جنيف’’ كش ملك لم يكن حوار أستانا يحمل مقوّمات التفاوض في أبسط صوره بكلّ المقاييس سواءً من حيث التمثيل أو الأطروحات أو الظهور فلا جدول أعمال معلن ولا المقررات أعلنت تباعا ، كما لو أنّ الزمن أعاد السوريين إلى عصر السينما الصامتة ، أمّا الجانب البروتوكولي فقد انجلى الغرور الروسي المنتشي بنشوة الانتصار، و المقيت في قالبه الاستعراضي المشين ، ماضٍ في إثبات قوته وعزمه على فرض الحلول الأحادية الجانب بالإكراه على طرفي النزاع السوري وعنوة على العالم المتحضّر والامبريالي معاً ،وجاء التحضير للخطوة التالية بما يليق بقوته وإصراره على اقتياد الجميع صوب مقصلة جنيف واحداً تلو الأخر.
وقد وصل التهديد إلى حدّ تشكيل الوفود ، وبما فيه الدعوات المزاجية للأطراف الإقليمية والدولية التي تزحف وترغي وتزبد للحفاظ على ماء الوجه ليس إلّا ، وبالمناسبة كلُّ طرفٍ من طرفي النزاع السوري يحمل تحت أبطه مجموعة أطراف محلية وإقليمية ، الأمر الذي يسبّب لجميع الأطراف إرباكا غارقاً في الإحباط المنعكس بجلاء على مفردات الخطاب أولاً وعنفوان المطالب تالياً ، ممّا جعل الغشّ طاغياً على صورة المستقبل المحتمل لطالما كان وردياً في ثنايا تصريحات المعارضة طيلة الفترة السابقة قييل آستانا ، وبالتوازي النظام ليس أفضل حالاً من المعارضة فالوفد المدجّج بطموحات الميليشيات الطائفية الخارجة عن السيطرة، وطموحات وأطماع الأنظمة الإقليمية الجامحة والعصية على الترويض في حظيرة النظام السوري المتهالك ، ممّا جعل وفد النظام العتيد فريقاً احترافياً لا يهمه الانتماء بقدر ما يهمه كيفية احتواء التناقضات أو على الأقلّ خلط الأوراق بما يكفي لخلق حالة جديدة مفتوحة على الاحتمالات فقط لكسب المزيد من الوقت ليس إلّا ، وبما أنّ وفد النظام وفد استعماري بامتياز، من البديهي استخدام العبارات التي تدعو المعارضة إلى التحلّي بالروح الوطنية كما لوأنّ النظام يحمل كلّ سمات الوطنية ، بيد إنّ الحالة الروسية المحدثة التي دفعت بالبيادق إلى الصفّ الأول فتقت قرحة النظام لإملاء دروس الوطنية والانتماء والتضحية والتماهي مع الوطن وصولاً إلى فرض نفسه حاضنة للمعارضة وليس نداً أو ضداً لها.
ومن شأن هذا الخطاب استفزاز المعارضة واقتيادها إلى المزيد من التخبّط والإعباء والأخطاء والانقسام على الذات ، فالوفد المعارض بكلّ عيوبه وأخطائه وتجاوزاته وسوء خطاباته وتعدّد مشاربه وتناقضاته الفكرية والعرقية يجد نفسه مضطراً أكثر من أيّ وقتٍ مضى الوقوف على الواقع بالجدية والموضوعية اللازمة و بجسامة التحديات الأخذة بالتعقيد ، ولن يغيّر من الوضع سوى المزيد ،وقواعد اللعبة باتت مفضوحة تماماً كالتالي ،التوجه الإسلامي لا يملك سوى الاستقواء بمقولة وضع اليد على الزناد والرهان على قوة إيمان الحاضنة الشعبية من جهة، والتفاوض من الناحية الأخرى عسى ولعلّ الزمن ياتي بجديد ولا جديد في الأفق وهم يعلمون ذلك.
أمّا المعارضة اللبرالية ومن لفّ لفهم لا تجد أمامها سوى إعادة النظر في خطابها حيال النظام، وربما باتت مقتنعة أكثر من أيّ وقتٍ مضى أنّ التفاهم مع النظام أفضل الطرق للحفاظ على ماء الوجه ،ولاسيّما بعد حشر أفراد منصتي القاهرة وموسكو في بنية المعارضة ،،وما تبقى في المشهد الهيئة التفاوضية السابقة والتي باتت تفقد السيطرة على ممثلي الجماعات المسلّحة التي طالما استغلها في المحافل الدولية ، أمّا الطرف الأكثر تيها وضياعاً وافتقاراً إلى أدنى مقوّمات القوة والمنعة والذريعة هو الطرف الكردي المقحم في السرد منذ البداية وظلًت بذات الآليات ونفس الأطر كما لو أنّها تسعى إلى إثبات أنّ الفشل إنجازٌ بحدّ ذاته ، ويزداد تهميشاً وتيهاً كلّما زادت عديد الجولات التفاوضية نظراً لحالة البلاد والجمود الذي تمتاز به.
وبكلّ اسى وأسف المفاوض الكردي لا يمتلك أيّ دعمٍ إقليمي أو وطني أو دولي أو حتى شعبي ، فهو موجود فقط من أجل إثبات انّ الوطنية صفة حميدة وعليه الإثبات عبثاً بانّ الغباء ظرف تاريخي وليس موهبة فردية أو ضمير جمعي، ولا يمتلك شيئاًعدا الكابوس المتكرر كلّما استفاق وجد نفسه شاهد زور على التغني بالوحدة الوطنية والحفاظ على وحدة أراضي دولة مزقّتها الصراعات الفكرية لأبناء الجلدة الواحدة ،وأطماع القوى الإقليمية والدولية التي استجلبتها أيادي الذين يعتبرون أنفسهم الأمناء على تراب هذا الوطن المحرّم على القسمة ،فالمفاوض الكردي يفتقر إلى جماعة مسلّحة لممارسة الابتزاز في أدنى مستوياته كما يفعل غيره ، والأنكى لم نجد مظاهرة كردية واحدة في شوارع أوروبا داعمة لمطالب الوفد االكردي العتيد كما يبدو حتى الدعم الشعبي أضغاث أحلام أكل عليها الدهر وشرب ، و لم نجد يوماً مفاوضاً كردياً قادراً على استخدام أدوات النفي والجزم والنهي بمهنية لغوية أو سياسية ، إنّما يتكىء على أدوات الرجاء والتمني والالتماس من كافة الأطراف ، ولربّما من الإنصاف القول بأنّه يمتلك روح المكابرة فقط الذي يؤهّله للوصول للجولة الاخيرة ، ريثما يسقط بالضربة القاضية ،فعندما تضطرّ الفسيفساء المتناقضة على محيطها عقد التفاهمات تحت شتّى المبررات ليس آخرها الوطنية والقومية والدينية ، إذن ليس للكردي سوى الحلم المرعب والمهين كلّما اقترب من الفجر استفاق عليه ،،، كش ملك ،،والعودة إلى المربعات الأولى لإعادة صياغة التاريخ وخياناته والجغرافية وغدرها ، وهنا تكمن قوة المجلس الوطني الكردي في تعامل مع قواعد اللعبة وسط حقول الألغام من جميع الجهات وحتى من البيت الكردي نفسه.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي يكيتي ميديا