المناظرة.. أسسها وطرق استخدامها
إدريس شيخة
إنّ الصراع على السلطة والاختلاف حول النظريات الكونية، عبر التاريخ، أفرزا للمجتمعات المتعايشة معها كوارث دموية، كان لابدّ لها أن تنتهي بدمقرطة هذه الحالة من حيث النتيجة، فحينما يصل الصراع والجدال والنقاش إلى الحدود العقيمة، ويثير المتنافسين مواضيع جدلية تجاذبية، ضمن نطاقٍ ضيق، ثم تسود الحالة الفردية، في نشر الرأي بين الأتباع، ضمن لقاءات مستقلة محاولين التأثير بإقناع الرعية بصوابية المواقف، كلٌّ من جانبه، لجأ حكماء تلك الأقوام إلى اختراع علمٍٍ ،بحدّ ذاته، يكون هو الحل في نهاية المطاف ؛ إذا وجدت الرغبة في حلّ النزاع بالطرق الديمقراطية، ألا وهي المناظرة.
والمناظرة هي فن الحوار ؛ لجعل الشخص متمكناً من موقفه بسهولةٍ لإثبات أمورٍ تتعلّق بإقناع الأتباع بوجهة النظر، بشكلٍٍ مباشرٍ ، وأمام الجماهير، وتكون عادةً ضرورية لحسم الأمور بين المتنافسين على العموم ؛ بغرض تنمية القدرات لاستخراج الحقيقة و استغلال الوقت بتقصير مدة التنافس ومنع الكوارث، وتسيير أمور الرعية على وجه السرعة.
وهناك العديد من نماذج المناظرة المختلفة والمستخدمة في جميع أنحاء العالم، ولكنّ معظمها يشترك في بعض الميزات الأساسية، على غرار عناصر المناظرة (المقولة والحجج والدحض) .
وطرفا التناظر: الطرف المؤيد للمقولة، والذي سيدعو إلى اعتماد القرار، وطرف معارض يدحض القرار .
تكمن نقاط الاختلاف بشكلٍ أساسي في :عدد المتناظرين ، وطول الخطاب، وفترات مناقشة الخصم، وترتيب وطول المداخلات والدحض، ودور كلّ طرف متناظر، والمصطلحات التقنية، والتحكيم.
(تعتمد بعض أنماط التناظر على التصويت بدلاً من التحكيم).
و من بين نماذج المناظرة، نذكر:
– المناظرة بأسلوب أكسفورد.
– المناظرة البرلمانية.
– مناظرة البرلمان البريطاني.
– مناظرة البرلمان الآسيوي.
– مناظرة السياسة.
– مناظرة هارفارد .
– مناظرة لينكولن – دوجلاس .
– مناظرة كارل بوبر
– بطولة العالم لمناظرات المدارس
– بطولة العالم لمناظرات الجامعات
و نستطيع أن نسمّي الحوار الهادف أو المناظرة نقاشاً. والنقاش له آداب وضوابط من أهمها: النقاش مع المخالفين بِخُلُقٍ رفيع، وتَقَبُلْ أرائهم بسعة صدر دون الانزعاج ممن يخالفنا الرأي، بل باحترام الرأي والرأي الآخر، فليس المقصود بالنقاش التغلب على الآخرين أو إفحامهم. بقدر ما هو سعيٌ دؤوبٌ وراء الحقيقة للحفاظ على أي كيان من الانهيار على كافة الصُعُد ، فالغاية من النقاش إثبات صحة الفكرة وليس إثبات الذات.
وتكون المناظرات أو الحوارات الرسمية ذات قواعد محددة، تسمح بتوزيع الأوقات وتفاعل المتحاورين وتفاعل الجمهور أحياناً ،
حيث يواجه كلّ طرفٍ الطرف الآخر بدعوى يدّعيها ويسندها بجملةٍ من الأدلة المناسبة التي من شأنها ترجيح كفة أحد المتحاورين على حساب الآخر، فعلى الأغلب يُستدعى أربعة أشخاص وجمهور متنوع، ويقوم مدير الحوار بتوزيع الوقت بين المتحاورين والجمهور، حسب القضية المحددة ، وتجري المبارزة السلمية بين المتحاورين علناً إما باللقاء المباشر أو عبر الانترنيت «أونلاين».
فمع تزايد شعبية الإنترنت وتوافره، وصعوبة التواجد في قاعة واحدة للمتنافسين، يمكن اتخاذ المواقع الخاصة للمناظرة عبر الانترنيت، كوسيلة بديلة للقاء المباشر، وهي تهدف إلى تطوير قدرة المتحاورين على الاتزان وتقديم الحجج البنّاءة، واستخدام المنطق والأدلة، وتطوير القدرة على بناء وتقديم الخطب الفعّالة، والتشجيع على العمل الجماعي ؛ بتوطيد مفهوم الحفاظ على الجسد من الانهيار في الاذهان، لبثّ روح التفاؤل في هذا الجسد والعمل بخطاب واحد من شأنه الاستمرار في البناء والإعمار على كافة الأصعدة، وإخراج الجميع من الجمود والترهل.
ولنلقي الضوء على بعض المناظرات الأكثر شهرةً كأمثلة للتطبيق على مجتمعاتنا في المجالات السياسية على الخصوص ولعلّ أهمها : مناظرات أكسفورد
جرت مناظرة أكسفورد ،حول التطور ، عام 1860 في متحف جامعة أكسفورد في أكسفورد بإنجلترا في 30 يونيو 1860 بعد سبعة أشهر من نشر كتاب «أصل الأنواع» لتشارلز داروين. شارك العديد من العلماء والفلاسفة البريطانيين البارزين، بما في ذلك توماس هنري هكسلي، المطران صموئيل ويلبرفورس، بنيامين برودي، جوزيف.
أهم ما تمثّله هذه المناظرة اليوم هو تراشق الكلمات بين ويلبرفورس وهكسلي عندما قام ويلبرفورس بسؤال هكسلي ما إذا كان قد انحدر من القردة من سلالة جده أم من جدته، يقال أنّ هكسلي أجابه بأنه لن يخجل من كونه ينحدر من قرد، لكنه سيخجل إن كان له أي علاقة برجل استخدم مواهبه وقدراته لإخفاء الحقيقة…
والمناظرة بأسلوب أكسفورد، مستمدّة من مجتمع المناظرة لاتحاد أكسفورد في جامعة أكسفورد، هي شكل من أشكال المناظرة التنافسية تتميز باقتراح محدد بشكل واضح يقترحه أحد الأطراف ويعارضه الطرف الآخر.
يُعلن عن الفائز في المناظرة بأسلوب أكسفورد إما بتصويت الأغلبية أو أي فريق استطاع التأثير بشكل أكبر على الجمهور المصوت . تتبع المناظرات حسب أسلوب أكسفورد هيكلية رسمية تبدأ بالجمهور الذين يدلون بأصواتهم قبل المناظرة على اقتراح شكل البدء بالمناظرة، وهي متعددة، وتكون الآراء حول هذه المقترحات إما مؤيد أو معارَض أو ترك الأمور للجنة إدارة المناظرة، بعد أن يقدّم كل مشارك كلمة افتتاحية مدتها سبع دقائق، وبعدها يأخذ المشرف أسئلة من الجمهور مع تحديات بين الفريقين.
أخيرًا، يقدّم كلّ مشارك حجة ختامية مدتها دقيقتان، ويقدّم الجمهور تصويتهم الثاني (والأخير) لحسم الموقف في شكل البدء بالمناظرة .
ثم يبدأ الخطاب الارتجالي، وهو أسلوب لا يتضمّن أي تخطيط مسبقًا، وفريقان لكلّ منهما متحدث أول وثاني. في حين أنّ غالبية الحكّّام سوف يسمحون للمناظرين بالاستشهاد بالأحداث الجارية والإحصائيات المختلفة (التي قد يشكك الخصم في مصداقيتها)، فإن البحث الوحيد المسموح به هو مقال أو أكثر من المقالات المقدمة للمناظرين إلى جانب القرار قبل المناظرة بفترة وجيزة.
تبدأ هذه المناظرة بخطاب إيجابي بنّاء من المتحدث الأول، متبوعة بخطاب سلبي؛ ثم خطاب إيجابي ثم سلبي للمتحدث الثاني على التوالي، مدة كل خطاب سابق ست دقائق، وتليها دقيقتان من الاستجواب الشامل.
ثم، هناك دحض لإيجابية وسلبية المتحدث الأول، ودحض للمتكلم الثاني السلبي والإيجابي، على التوالي. هذه الخطب تستغرق كل منها أربع دقائق، لا يمكن طرح أي نقاط جديدة في الجدال خلال عمليات النقض.
و من آداب الحوار الأكثر عدلاً :
1_الابتعاد عن التعميم فاستعمال عبارات عمومية تسمح بترك الباب مفتوحاً للاستثناءات ولا تترك مجالاً لتداول الكلام والأفكار؛ ويمكن أن نترك كلمة «مطلقاً»، و «دوماً»، واستعمال كلمة «بعض» بدل كلمة «كثير»، وكلمة «أحياناً» بدل كلمة «دوماً» استعمال عبارات أقل مجابهة «كثير منهم» فهي أفضل من «معظمهم».
2_الابتعاد عن الأفراد والشخصنة والتركيز على الفكرة والموضوع،.لا يجوز في أدب الحوار أن يقال للآخر «أنت مخطئ» بشكل مباشر، ومن الممكن القول «فكرتك غير صحيحة أو غير دقيقة»، وكقاعدةٍ عامة الحوار يجب أن يدور حول الأفكار والوقائع وليس حول الأشخاص، فالهجوم والانتقاد كذلك على الفكرة وليس الشخص وكذلك الدفاع عن الفكرة وليس الشخص.
3_لا ينفع الحوار حول الأمور الثابتة التي يصعب دحضها وينبغي تجنب المبالغات في الأمور المؤكدة أيضاً.
4_توثيق المصادر والأرقام والتواريخ.
5_التفريق بين الحجة والرأي، إن كان ما يطرحه المحاور مجرد رأيه ؛ فعليه التنبيه لذلك والاعتراف به لو تعرّض للسؤال وإلا أضعف موقفه، ولا يجوز في أدب الحوار أن يلبس رأيه لبوس الحجة أو الحقيقة.
6_كسب القلوب والمواقف قد يكون أهم من إثبات الفكرة، ولذلك يكون استعمال العبارات اللطيفة والمحببة عند طرح ما نخالف به الآخرين وهذا له دوره عندما يوجد جمهور للحوار كما في مناظرات الرئاسة الأمريكية، التي يهتمّ فيها المتناظران بكسب المستمعين وليس إقناع الخصم.
7_اكتساب النقاط والمواقف الإيجابية والمشتركة والتأكيد عليها التزام الواقعية والحكمة؛ لأنه لا حاجة لإثبات كلّ نقطة ليكون الحوار ناجحاً، فالحرب قد ينتصر فيها من لم ينتصر في كل معاركها.
8_التسليم للخصم أثناء الحوار ببعض النقاط لصالحه أمر جيد ولا يؤثر على النتيجة العامة وهو أكثر حضارية وأقل استثارة للعداوات.
أهم قاعدة أن نتذكّر أنّ الحوار ليس مشاجرة،، فإنّ اللهجة التي فيها احتقار ستؤدّي إلى الغضب لذا يجب انتقاء الكلمات التي تؤدّي إلى كبح جماح الغضب.
9_تحديد مجال الحوار فقد نختلف مع الآخر في أكثر من مجال، فتحديد المجال يقلّل من مدة الحوار ومن تشعبه، ويرجح سهولة الوصول لثماره، وقد يكون الخلاف حول إثبات أمور هل هي موجودة أم لا، وبالمقابل قد يكون هو حَوَّلَ تفسيرها وتأويلها ، ولكل من الحالتين أسلوبها وأدلتها فالأول إثبات مصادر والثاني براهين استنتاجية.
وعلى هذا يمكننا القول إنّ خلاصة هذه المناظرة هي البقاء كعنصر قائد وثق فيها الشعب الذي أيد هذا الكيان واعتبره الممثل الأكثر مصداقيةً ليقود بمقدرات عيشه إلى بر الأمان.
المصادر
موقع مناظرات قطر، فوائد المناظرة بتاريخ 28/2/2018 نسخة محفوظة 16 أغسطس 2017 على موقع واي باك مشين..
[٢٠/٩, ٩:٥٦ م] بهجت شيخو ١: لغات أخرى] (2001). “Darwinism & Religion: a Revisionist View of the Wilberforce-Huxley Debate”. Lecture delivered at كلية ايمانويل، كامبريدج on 26 February 2001. مؤرشف من الأصل في 2008-12-11. اطلع عليه بتاريخ 2008-02-14.^ Frank A. J. L. James (2005). “An ‘open clash between science and the church’? Wilberforce, Huxley and Hooker on Darwin at the British Association, Oxford, 1960”. في David M. Knight & Matthew D. Eddy (المحرر). Science and Beliefs: From Natural Philosophy to Natural Selection. Ashgate. ص. 171–193. ISBN:978-0-7546-3996-1.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “312”