المواطنة السورية المفقودة: كيف دمر إحصاء عام 1962 حياة الكرد السوريين وهويتهم
Yekiti Media
- ملّخص تنفيذي: يصادف يوم 5 تشرين الأول/أكتوبر 2019 الذكرى السنوية الـ57 لإجراء الإحصاء السكّاني الاستثنائي في محافظة الحسكة – شمالي شرق سوريا- والتي تشكّل إحدى المناطق الغنية بتنوعها من حيث القوميات والأديان الموجودة فيها، حيث تتواجد فيها ديانات قوميات مختلفة مثل السريان الآشوريين والكرد والعرب والأرمن والشيشان وغيرهم.
وقد حدث الإحصاء بشكل فعلي في محافظة الحسكة فقط دون باقي المحافظات السّورية، بموجب المرسوم التشريعي رقم 93 والمؤرخ في 23 آب/أغسطس 1962، والذي صدر فعلياً من قبل ما سُمّي آنذاك بـ “حكومة الانفصال”، وقد استند ذلك المرسوم القاضي بإجراء الإحصاء في محافظة الحسكة إلى المرسوم التشريعي رقم (1) والمؤرخ في 30 نيسان/أبريل 1962 وعلى القرار الصادر عن مجلس الوزراء المنعقد برئاسته رقم (106) والمؤرخ في 23 آب/أغسطس 1962، وتضمّن المرسوم الذي بات يُعرف حالياً باسم “إحصاء الحسكة 1962” في مادته الأولى ما يلي: “يجري إحصاء عام للسكان في محافظة الحسكة في يوم واحد يُحدّد تاريخه بقرار من وزير التخطيط بناءً على اقتراح وزير الداخلية.”
وبحسب معلومات حصرية حصلت عليها “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” من مصادر رسمية داخل مديرية النفوس في محافظة الحسكة فإنّه وحتى مطلع العام 2011 كان عدد فئة “أجانب الحسكة/أصحاب البطاقة الحمراء” والمسجلين ضمن قيود المديرية قد بلغ (346242) فرداً، ومع نهاية شهر أيار/مايو 2018 بلغ عدد الحاصلين على الجنسية السّورية من نفس الفئة (326489) فرداً، فيما لا يزال هنالك (19753) فرداً من فئة أجانب الحسكة غير حاصلين على الجنسية السورية بعد.
وأمّا بخصوص فئة المكتومين فقد نفى المصدر التصاريح التي تقول بعدم معرفة الحكومة السوريّة عدد فئة مكتومي القيد، إذ أشار إلى أنّ المديرية في الحسكة كانت تعتمد على سجلات “المخاتير” خلال العقود السابقة والتي كانت تمنح وثائق لفئة “مكتومي القيد” مثل “شهادة التعريف” على سبيل المثال، وقد وصل عدد فئة مكتومي القيد حتى العام 2011 لأكثر من (171300) فرداً، حصل حوالي (50400) فرداً منهم على الجنسية السّورية بعد تصحيح وضعهم القانوني من فئة المكتومين إلى فئة أجانب الحسكة وبالتالي إلى فئة المواطنين السوريين. ولكن هنالك حوالي (41000) حالة لم تستطع تصحيح وضعها القانوني بسبب مشاكل صادفتها المديرية أثناء إدخال ملفاتهم إلى قيود فئة أجانب الحسكة. ومازال هنالك أقل من (5000) شخص لم يقوموا بالمجيء إلى دوائر النفوس من أجل تصحيح وضعهم القانوني.
وبالمحصلة فقد بلغ مجموع عدد المجردين/المحرومين من الجنسية منذ عام 1962 إلى العام 2011 إلى أكثر من (517) ألفاً من الكرد السوريين. وقد تمّ تمييز الهويات الشخصية التي حصل عليها أجانب الحسكة بشفرات خاصّة، حيث تمّ وضع الرقم 8 بعد رقم الخانة/القيد: لتصبح كالتالي: ××/8.
وبعد اندلاع الاحتجاجات السلمية في سوريا، والمطالبة بإجراء إصلاحات شاملة في البلاد صدر المرسوم التشريعي رقم (49) بتاريخ 7 نيسان/أبريل 2011، إذ نشر موقع مجلس الشعب السوري مرسوماً تشريعياً معنوناً بـ (منح الجنسية العربية السورية للمسجلين في سجلات أجانب الحسكة) جاء في مواده ما يلي:
المادة 1: يُمنح المُسجلون في سجلات أجانب الحسكة الجنسية العربية السورية.
المادة 2: يُصدر وزير الداخلية القرارات المتضمنة للتعليمات التنفيذية لهذا المرسوم.
المادة 3: يُعتبر هذا المرسوم نافذاً من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.
وبعد عدّة أشهر من صدور المرسوم رقم (49) من العام 2011، نُشرت أخبار بخصوص قرار وزاري يقضي بمعاملة فئة مكتومي القيد نفس معاملة الأجانب (فيما يخصّ الحصول على الجنسية)، إلّا أنّه وعند مراجعة العديد من الأشخاص المكتومين لدوائر السجل المدني/النفوس، كان الرد يأتيهم بعدم إنكار القرار والتأكيد على صدوره، ولكن عدم معرفة الجهة التي سوف تتولى تنفيذه.
وعلى خلاف المواطنين السوريين المتمتعين بالجنسية السورية، فإنّ الكرد السوريين الذين تمّ حرمانهم من الجنسية بموجب الإحصاء الاستثنائي عام (1962)، عانوا/وما زالوا يعانون الحرمان من أبسط الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية فضلاً عن الاقتصادية، بل إنّ البعض منهم أتى إلى هذه الدنيا وفارق الحياة دون أن يُدرك معنى المواطنة، ودون أن يُفلح في الحصول على الجنسية السورية أو على شهادة ولادة أو شهادة وفاة.
وتعرّض الكرد في سوريا خلال العقود الماضية إلى انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، شأنهم شأن غيرهم من السوريين، إلا أنهم علاوة على ذلك يعانون كجماعة من التمييز على أساس الهوية، ومن ذلك القيود المفروضة على استخدام اللغة الكردية والثقافة الكردية. ويرى الكثير من الكرد أنّ القضيَّة الكرديَّة في سوريا، لا يمكن حصرها في مسألة المجرَّدين من الجنسيَّة فحسب، لأنها قضيَّة حقوق قوميَّة سياسيَّة ثقافيَّة اجتماعيَّة، يُطالب بها الكرد وحركتهم السياسيَّة، ضمن دولة القانون والمؤسسات السورية، وهذه الحقوق مُصانة وفق المواثيق والعهود الدوليَّة لحقوق الإنسان.
- منهجية التقرير:
هذا التقرير هو ثمرة جهود امتدّت لعدة أشهر – منذ بداية عام 2018 وحتى شهر آب/أغسطس منه- من قبل فريق عمل منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، إذ اعتمد التقرير في منهجيته على (54) شهادة ومقابلة بالمجمل، منها (38) مقابلة تمّ إجراؤها بشكل مباشر مع شهود عيان ومجردين/محرومين من الجنسية من فئتي الأجانب والمكتومين من قبل باحثي المنظمة الميدانيين، إضافة إلى (8) مقابلة تمّ إجراؤها عبر الانترنت مع شهود آخرين، وقد توزعت الشهادات والمقابلات على معظم المناطق الجغرافية التي يقطنها المجردون/المحرومون من الجنسية ابتداءً من مدينة ديريك/المالكية ومروراً بالقامشلي/قامشلو وعامودا والدرباسية ورأس العين/سري كانييه والحسكة المدينة وغيرها من القرى والبلدات، إلى جانب مقابلات مع المنتشرين منهم في عدد من بلدان اللجوء مثل تركيا وكردستان العراق وأوربا وغيرها ..
واعتمد التقرير أيضاً على (8) شهادات ومقابلات مع محامين وباحثين ومختصّين في قضايا الجنسية والكرد السوريين بشكل عام.
كما قام الفريق العامل على التقرير بمراجعة عشرات المصادر والمراجع التي كتبت عن الموضوع منذ العام 1962، والاقتباس من (63) مصدر منها لغرض الاستفادة من الجهود المبذولة في هذا الميدان والبناء عليها.
- مقدمة:
تسعى منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” من خلال هذا التقرير الموسّع إلى توثيق وسرد حيثيات الإحصاء الاستثنائي في العام 1962 من جهة، وتسليط الضوء على معاناة عشرات الآلاف من الذي جرّودا/حرموا من الجنسية -وخاصة من فئة مكتومي القيد- سواءً المتواجدون منهم داخل الأراضي السورية أو المتوزعون في دول اللجوء. كما يسرد التقرير معاناة 49 عاماً (ما بين العام 1962 والعام 2011) من الحرمان من الجنسية السّورية والعواقب الكارثية التي خلّفها هذا الحرمان، من خلال سرد قصص ضحايا إحصاء عام 1962.
وقد حدث الإحصاء بشكل فعلي في محافظة الحسكة فقط، شمالي شرق سوريا، وذلك بتاريخ 5 تشرين الأول/أكتوبر 1962، بموجب المرسوم رقم (93) المؤرخ في 23 آب/أغسطس 1962، والذي صدر فعلياً من قبل ما سمّي آنذاك بـ “حكومة الانفصال” التي كانت تُطلق على نفسها اسم “القيادة العربية الثورية العليا للقوات المسلّحة”، والتي عقبت انتهاء الوحدة ما بين سوريا ومصر، إذ كانت الخطوات التنفيذية الأولى لقيام الوحدة قد بدأت بتاريخ 30 كانون الثاني/يناير 1958، بعد أن زار الرئيس السوري آنذاك “شكري القوتلي” وأعضاء مجلس الوزراء القاهرة.
وفي 1 شباط/فبراير 1958، أعلن “صبري العسلي” -رئيس الوزراء في عهد شكري القوتلي- بتكليف من قبل الرئيس المصري آنذاك “جمال عبد الناصر”، قيام “الجمهورية العربية المتّحدة”، وذلك من شرفة قصر “شويكار” في القاهرة، حيث كان يقيم الوفد السوري.
وانتهت الوحدة بتاريخ 28 أيلول/سبتمبر 1961، من قبل “القيادة العربية الثورية العليا للقوات المسلّحة”، والتي أوكلت إلى “مأمون الكزبري” تشكيل الحكومة الجديدة، مخوّلة إياه سلطة إصدار المراسيم الخاصّة بتسمية الوزراء وتشكيل الوزارة، ثم جاءت وزارة “عزّة النص” بتاريخ 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1961 -بعد حوالي أسبوع واحد من تبنّي دستور مؤقت للبلاد- بعد ذلك عقد “المجلس التأسيسي والنيابي صباح يوم الخميس 14 كانون الأول/ديسمبر 1961، جلسته الثانية برئاسة “مأمون الكزبري” لانتخاب رئيس للجمهورية، وترشّح لهذا المنصب كل من “خالد العظم” و”ناظم القدسي”، ليفوز الأخير برئاسة الجمهورية.
وعلى إثر ذلك قدّم “عزة النص” رئيس مجلس الوزراء استقالته بتاريخ 22 كانون الأول/ديسمبر 1961، وتم تكليف “معروف الدواليبي” بإنشاء الوزارة التي استلم فيها “جلال السيد” نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للزراعة، و”رشاد برمدا” وزيراً للدفاع والتربية والتعليم، و”أحمد قنبر” وزيراً للداخلية، و”مصطفى الزرقا” وزيراً للعدل والأوقاف.
قام بعدها “عبد الكريم النحلاوي” بمحاولة انقلاب أخرى وذلك بتاريخ 28 آذار/مارس 1962، تسلّم الحكم على إثرها بمرسوم أصدره القائد العام للجيش والقوات المسلّحة وأُلقي القبض بعدها على الرئيس “ناظم القدسي” وسياسيين آخرين. لكنّ هذه الحركة لم تلقَ تأييد كافة قطعات الجيش، ودفعت ضباطاً للوقوف في وجهها ومقاومتها، وتزعّم هذه المقاومة العميد “بدر الأعسر” قائد المنطقة الوسطى في حمص، تلا ذلك عقد مؤتمر في حمص لضباط يمثّلون معظم قطعات الجيش، وانتهت الأمور باستسلام بعض الضباط الذين قاموا بالمحاولة الانقلابية وفرار بعضهم الآخر وتحويل آخرين إلى المحاكم. بعد ذلك تمّ إطلاق سراح “ناظم القدسي” بتاريخ 13 نيسان/أبريل 1962، وإعادته إلى القصر الجمهوري ليبدأ سلطة ثانية.
وبتاريخ 16 نيسان/أبريل 1962 وقّع “ناظم القدسي” مرسوماً بقبول استقالة رئيس الوزراء “معروف الدواليبي” ومرسوماً آخراً يقضي بتكليف “بشير العظمة” رئيساً
للوزارة الجديدة، التي شغل فيها “رشيد حميدان” وزيراً للعدلية والأوقاف، و”عبد الحليم قدور” وزيراً للداخلية، استقال بعدها “قدور” ليشغل منصب وزير الداخلية “رشاد برمدا”، وتلا ذلك إعادة تشكيل الوزارة مرة أخرى ليصبح “عزيز عبد الكريم” وزيراً للداخلية، إضافة إلى تعديلات وزارية أخرى.
خارج عواصف السياسة وأعاصيرها، عاشت سوريا في هذه المرحلة، تحت رحمة عواصف وأعاصير الطبيعة، فقد داهمت السيول المتجمعة في تركيا، وبعض المناطق السورية بلدة “ترب سبي/القحطانية/قبور البيض” في منطقة القاملشي/قامشلو واجتاحتها يومي 18 و 19 نيسان/أبريل 1962، وغمرت المياه أغلب أحياء البلدة، وخلّفت هذه الكارثة نحو20 ضحية و10 مفقودين، كما أسفرت عن تهدّم أكثر من 100 منزل، وتصدّع نحو 50 آخرين وتشريد آلاف السكان، تمّ إيواء عدد كبير منهم في المدارس وتحت الخيام.
وبالعودة إلى الإحصاء، فقد استند المرسوم التشريعي رقم (93) في 23 أغسطس/آب 1962 -القاضي بإجراء الإحصاء في محافظة الحسكة- بالاستناد إلى المرسوم التشريعي رقم (1) والمؤرخ في 30 نيسان/أبريل 1962 على القرار الصادر عن مجلس الوزراء المنعقد برئاسته رقم (106) والمؤرخ في 23 آب/أغسطس 1962، وتضمن المرسوم الذي بات يُعرف حالياً باسم “إحصاء الحسكة 1962” في مادته الأولى ما يلي:
“يجري إحصاء عام للسكان في محافظة الحسكة في يوم واحد يُحدّد تاريخه بقرار من وزير التخطيط بناءً على اقتراح وزير الداخلية.”
بالمحصلة أدى الإحصاء إلى نتائج كارثية على العائلات والأشخاص الذين حُرموا من التمتّع بالجنسية السّورية على مدار السنوات والعقود اللاحقة، خاصة مع دوران عجلة الحياة وولادة أجيال عقبها أجيال، وكانت النسبة الساحقة من هؤلاء المجردين هم من الكرد السوريين، لتصبح هذه القضية واحدة من أعقد الملفات التي فشلت الحكومات السورية المتعاقبة بالتعاطي معها، ورفع الغبن عن الفئات التي وقع عليها.
وكان على الأكراد أن يثبتوا أنهم يعيشون في سوريا منذ عام 1945 على الأقل وإلاّ فقدوا جنسيتهم السورية، وأجرت الحكومة الإحصاء في يوم واحد، ولم تمنح السكان ما يكفي من وقت أو معلومات عن العملية.
وبتاريخ 13 أيلول/سبتمبر 1962 أصدرت حكومة “بشير العظمة” دستوراً للبلاد، وبعد أربعة أيام من إصدار الدستور -أي بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر 1962- استقالت وزارة بشير العظمة، وشكّل “خالد العظم” الوزارة الجديدة، شغل فيها “أسعد الكوراني” وزيراً للعدل والأوقاف، و “عزيز عبد الكريم” وزيراً للداخلية.
انتهى “عهد الانفصال” عملياً بعد انقلاب 8 آذار/مارس 1963، ساعد في ذلك التنظيم العسكري الذي تشكّل في مصر إبان “عهد الوحدة”، المؤلف من الضباط “محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وأحمد المير وعبد الكريم الجندي”.
يمكنكم الاطلاع على كامل التقرير (56) صفحة بصيغة ملف PDF من خلال الضغط هنا. المواطنة السورية المفقودة – كيف دمر إحصاء عام 1962 حياة الكرد السوريين وهويتهم_0