النظام السوري في محكمة الحريري: رموز أثقل من الجثث!
صبحي حديدي
القفص الخالي من المتهمين، في قاعة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي أنشأتها الأمم المتحدة بقرار من مجلس الأمن الدولي لمحاكمة المسؤولين عن جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري و22 آخرين، يوم 14 شباط (فبراير) 2005؛ ليس القيمة الرمزية الوحيدة التي تصنع مبتدأ (وقريباً: منتهى) هذه المحكمة العجيبة. ثمة، بادئ ذي بدء، عدد المتهمين بالتورط، الذين تمّ إطلاق سراحهم بعد احتجاز؛ أي اللواء جميل السيد (الذي بات اليوم، نائباً ينطق باسم الشعب اللبناني في دائرته الانتخابية)، والعميد الركن ريمون عازار، واللواء علي الحاج، العميد مصطفى حمدان. وثمة، تالياً، واقع المتهمين بالتنفيذ المباشر، في مستويات متنوعة؛ أي مصطفى بدر الدين (الذي قُتل في سوريا لاحقاً، «مجاهداً» باسم «حزب الله» اللبناني)، وسليم عياش، وحسين العنيسي، وأسعد صبرا، وحسن حبيب مرعي.
وفي حديث الأشخاص، دائماً، كان اللواء رستم غزالة، المسؤول الأول للاستخبارات العسكرية التابعة للنظام السوري في عموم الأراضي اللبنانية، والمتهم أيضاً بالتورط المباشر في التخطيط لاغتيال الحريري، وفي التنفيذ أيضاً؛ قد تمت تصفيته في نيسان (أبريل) 2015، بعد عقاب جسدي مبرّح قاتل، على يد أحد زملائه من ضباط النظام السوري، على الأراضي السورية هذه المرّة. قبله كان اللواء غازي كنعان، المسؤول السابق عن استخبارات النظام في لبنان، ووزير داخلية النظام بعدئذ، قد انتحر (أو انتُحر، حسب المفردة التي اشتقها بعض السوريين يومذاك) في تشرين الأول (أكتوبر) 2005؛ على خلفية ما كان يحمل من كنوز المعلومات حول قضية الاغتيال. وقبل غزالة أيضاً، كان اللواء آصف شوكت، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، قد قُتل ضمن مجموعة من الضباط خلال تفجير «خلية الازمة»؛ وكان، منطقياً، على اطلاع واسع حول عمليات النظام الكبرى والأشدّ خصوصية.
وهكذا، على نحو أو آخر، بدا أنّ نظام بشار الأسد، المتهم في الجريمة على قدم المساواة مع «حزب الله» حسب المدعي العام للمحكمة، نورمان فاريل؛ قد «نظّف البيت الداخلي»، وأسكت نهائياً ثلاثة أصوات كان مقدراً لها أن تكون حاسمة في المراحل الأخيرة من المحاكمة. وفي كلّ حال، خلال السنوات التي أعقبت تدخل «حزب الله» العسكري في سوريا لصالح النظام، انتفى الفصل الظاهري بين مصائر الطرفين وباتت العلاقة عضوية على الأصعدة العسكرية والأمنية والسياسية، بل والمذهبية أيضاً؛ في ميادين عديدة كان وجود الجنرال قاسم سليماني، و«الحرس الثوري» الإيراني، والميليشيات العراقية الشيعية في مناطق مختلفة من سوريا، يسبغ عليها صفة رسمية، أو عضوية بالاختيار تارة، وبالقوّة والإجبار طوراً. ولقد بدا أنّ قفص الاتهام في لاهاي كان خالياً من المتهمين، طافحاً في المقابل برموز هي أثقل من جثث المغيّبين من رجالات النظام أو «حزب الله.
قبل هذا الالتحام، كان الانسحاب العسكري للنظام السوري من لبنان هو العاقبة الأولى، الأبعد أثراً أيضاً، محلياً وإقليمياً ودولياً، وراء اغتيال الحريري. وفي أصل التأثير أنّ دخول النظام إلى لبنان، صيف 1976، كان النقلة السياسية والعسكرية الإقليمية الأهمّ في تاريخ «الحركة التصحيحية»، التسمية الرسمية للانقلاب الذي قاده حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970. انسحاب 2005 كان، استطراداً، يستكمل تلك النقلة ولكن نحو الوجهة المعاكسة إذا جاز القول، أي تجريد النظام السوري ـمن سلسلة ثمينة من المغانم والأوراق والقوى والحلفاء وهوامش المناورة الإقليمية. ومن الإنصاف القول إنّ انحطاط نفوذ النظام في لبنان كان قد بدأ مع سحب الملفّ اللبناني من يد عبد الحليم خدّام، نائب الأسد الأب آنذاك، وتسليمه إلى بشار الأسد كجزء من ترتيبات إعداد الفتى لخلافة أبيه (وبالطبع، غنيّ عن القول إنّ الانحطاط لم يبدأ لأنّ خدّام كان أرحم باللبنانيين من الأسد الوريث، بل على العكس تماماً: الأخير كان في طور التلقين وألعاب الهواة، وكان الأوّل أشدّ شراسة وأكثر تشدداً).
غير أنّ وفاة الأسد الأب، في حزيران (يونيو) 2000، خلقت مناسبة دراماتيكة لكي يصحو اللبنانيون على الحقيقة البسيطة التالية: وجود النظام السوري («الشرعي والمؤقت» بالنسبة إلى الرئيس اللبناني إميل لحود يومذاك، والمؤقت ولكن اللاشرعي الذي آن أوان إنهائه بالنسبة إلى معظم اللبنانيين)؛ ينبغي ألا يظلّ على حاله السابقة، بعد أن غاب الأسد، صانعه الأوّل، الأعلى دهاءً ومكيافيللية ودموية من وريثه في السلطة. هذه الحقيقة/ البديهية كانت تقبل، أو تصنع تلقائياً، ذلك الاستطراد البديهي الآخر: إذا تآكل وجود النظام السوري في لبنان ــ سواء نُظر إليه في مستوياته العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية، أو في مستويات أخرى اجتماعية (العمالة السورية، التوترات بين الشعبين، انقسامات اللبنانيين…) أو حقوقية (اتفاق الطائف، القرارات الدولية…) ــ وكفّ عن كونه صانع أوراق القوّة؛ فمن المنطقي، والحال هذه، أن ينقلب إلى عبء على سلطة الوريث، أو ربما كعب آخيل الأخطر في الجسم الذي أطلّ منه الأسد الابن على الكون الخارجي، أي على الجوار الإقليمي والعالم بأسره.
ومن الإنصاف التذكير، كذلك، أنّ أولى إشارات الصحوة اللبنانية تلك، لم تأت من وليد جنبلاط، أو ميشيل عون (وكان، حينذاك، في صفّ كارهي النظام السوري!)، أو «الكتائب»، أو «القوّات اللبنانية»؛ وطبيعي، أيضاً، أنها لم تأتِ من الراحل الحريري نفسه، لأنه كان أحد أخلص حلفاء النظام السوري.
لقد جاءت، ليس دونما مفارقة في واقع الأمر، من مجلس المطارنة الموارنة، الذي أصدر بياناً لافتاً تماماً، في 20 أيلول (سبتمبر) من العام 2000، أي بعد أسابيع قليلة أعقبت توريث الأسد الابن.
في المقابل، توفرت جبهة لبنانية مضادة، تمثلت أساساً في بيان «اللقاء الإسلامي»، الذي ناهض بيان بكركي، ودافع عن شرعية وجود النظام السوري. والفارق بين البيانين لم يقتصر على انقسام حادّ بين «لا» و«نعم» لذلك الوجود؛ بل تجاوز اللونَين الأبيض والأسود إلى تدرّجات للرمادي، عديدة ومعقدة! صحيح أنّ الحال جبّت، في قليل أو كثير، فُرَص اشتعال الحرب الأهلية مجدداً؛ إلا أنها استولدت، على نحو نظير، سلسلة استقطابات سياسية واجتماعية ودينية ومذهبية، سوف تعيد إنتاج كوابيس، الحياة اليومية اللبنانية في حينه. كذلك فإنّ الاصطفاف المسيحي تبدّل مراراً، وحدث أنه استقر (أو بالأحرى: ركد كثيراً) في معادلة العماد عون وتياره المتحالف مع «حزب الله».
وحين اغتيل الحريري كان قد تحوّل إلى الشخصية الأهمّ في المعارضة اللبنانية، وباتت أوراق القوّة العديدة التي يملكها، داخلياً وعربياً ودولياً، بمثابة عوامل ضغط شديد على النظام السوري وحلفائه. وإذا كانت من يد للنظام السوري وراء اغتياله، فالأرجح أنّ «الدماغ» الذي خطّط لليد وحرّكها كان قد زانَ كفّتَي الربح والخسارة على النحو التالي: إذا كان الوجود العسكري والأمني للنظام السوري في لبنان سوف يتقلّص أو يضعف، أو حتى ينتهي بانسحاب تامّ ذات يوم؛ فإنّ الوجود السياسي ينبغي ألا ينحطّ إلى درجة تضع النظام على هامش المسألة اللبنانية، فيخسر الأسد وحلفاؤه آخر ما امتلكوا من أوراق قوّة.
والحال الراهنة العالقة في لبنان تعكس الكثير من ذلك التطلع، حتى إذا لم يكن للنظام السوري اليد الطولى في صناعة المشهد اللبناني الداخلي. وليست مآلات محكمة لاهاي والانقلابات الدراماتيكية التي شهدتها ملفاتها، قضاة وشهوداً ومتهمين، سوى بعض البرهان على أنّ حضور الرموز بدا أثقل بكثير من ركام الجثث التي خرت على مدار 13 سنة.
القدس العربي.. صبحي حديدي.. كاتب وباحث سوري يقيم في باريس