آراء

الهوية الوطنية السورية في مرحلة ما قبل الثورة منذ الاستقلال ( ١٩٤٦- ٢٠١٠ )

فؤاد عليكو

تتمة العدد السابق

حزب البعث والهوية الوطنية: منذ أن عقد حزب البعث مؤتمره الأول 1947م في دمشق، رسم لنفسه خطاً سياسياً تجاوز في طرحه كل التيارات العربية الموجودة آنذاك والتي كانت تدعو إلى الوحدة العربية في قسمه الآسيوي على أبعد تقدير، ورفضت الاعتراف بالحدود السياسية المرسومة دولياً واعتبرت اتفاقية سايكس/بيكو كارثة حلت بالعالم العربي لذلك لابد من رفضها والعمل على توحيد العالم العربي ورسم الحزب لنفسه حدوداً عربية افتراضية اعتبرها الوطن العربي واعتبار سوريا الحالية قطراً عربياً يجب الإنطلاق منه نحو توحيد بقية الأقطار العربية في دولة واحدة ، ووضع الحزب لنفسه دستوراً متكاملا في معنى الوطن والهوية الوطنية والمواطن العربي متجاوزا بكل ماهو وطني سوري حيث يؤكد في المادة  الأولى من المبادي العامة للحزب على تعريف الحزب بمايلي:

المادة (1):- حزب (البعث العربي الاشتراكي) حزب عربي شامل تؤسس له فروع في سائر الأقطار العربية وهو لا يعالج السياسة القطرية الا من وجهة نظر المصلحـة العربية العليا.

ثم حدد تعريفا للوطن العربي كوحدة سياسية واقتصادية غير قابلة للتجزئة بأي شكل من الأشكال كما هو مدون في المادة الأولى من المبادئ الأساسية من دستور حزب البعث:

1- الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية ان يستكمل شروط حياته منعزلا” عن الآخر.

ثم حددوا خارطة الوطن العربية افتراضية بطريقة اعتباطية بعيدة كل البعد عن المنطق وغير قابلة التحقيق كما هو وارد في المادة 7 من المبادئ العامة.

المادة (7) :- الوطن العربي هو هذه البقعة من الأرض التي تسكنها الأمة العربية، والتي تمتد ما بين جبال طوروس وجبال بشتكويه وخليج البصرة والبحر العربي وجبال الحبشة والصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط.

ثم يأتي بعد ذلك التحديد للخارطة على تعريف المواطنة حيث ورد في المادة 10 من المبادئ العامة كمايلي:

المادة (10) :- العربي هو من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية.

وبإلقاء نظرة بسيطة على هذه الخارطة الافتراضية يدرك بجلاء مدى سذاجة وعاطفية القائمين على رسم هذه الحدود الخيالية واستحالة تحقيقها على أرض الواقع المعاش ويكشف مدى بعد هذا الحزب عن التأسيس للحالة الوطنية السورية، كما أن النظر إلى  تعريف المواطن يدرك عمق الفكر الإلغائي لكل المكونات المعاش في هذه الجغرافية المترامية الأطراف عندما عرف المواطن العربي بثلاث عناصر ( اللغة ، السكن في هذه الجغرافية والرغبة في العيش فيها، الإيمان بالانتماء للأمة العربية). ومن يعارض هذا الفلسفة القومية أي إذا دعا مكون ما إلى التعبير عن ذاته والمطالبة بخصوصيته القومية يعتبر ذلك تكتلا عنصرياً ويحق للدولة العربية المنشودة إبعاده وتهجيره قسراً إلى خارج الوطن العربي كما هو وارد في المادة 11 من المبادئ العامة:

المادة (11) :- يجلى عن الوطن العربي كل من دعا او انضم الى تكتل عنصري ضد العرب وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية.

لم يكن الغاية من استعراض هذه الفقرات عن فكر حزب البعث تسليط الضوء على هذا الفكر والذي يحتاج إلى دراسة خاصة ، بقدر ما كان الهدف منه توضيح الصورة للقارئ مدى ابتعاد حزب البعث عن مفهوم الوطنية السورية، خاصة إذا علمنا أن هذا الفكر سيطر على الحياة السياسية بالكامل وطبع بطابعه طيلة نصف قرن، لدرجة أصبحت من البديهيات فيما إذا فكر مجموعة ما تأسيس حزب سياسي في سوريا، أن يقترن التسمية بالهوية العربية وخارطة الوطن العربي المرسومة من قبل البعث وأن يطالب بالوحدة العربية من المحيط إلى الخليج وأن يستخدم في تعبيره السياسي (القطر السوري) وتجاهل الحزب البحث في الهوية الوطنية السورية كلياً.

الحركة الكردية السورية:تعود إرهاصات الفكر القومي الكردي إلى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين  من خلال تأسيس جمعيات ونوادي كردية ثقافية وإصدار الصحف باللغة الكردية، ومن المؤكد أن   نمو الشعور القومي العربي والكردي  بتوقيت متزامن جاء كرد فعل طبيعي على السياسة القومية لجمعية الاتحاد والترقي التركية ذات التوجهات العنصرية ، وانتعشت آمال الكرد بداية باتفاقية سايكس/بيكو وتوجت هذه الآمال  في معاهدة سيفر 1920م وذلك بتأسيس كيان قومي خاص بهم، إلا أن التحولات والتحالفات السياسية التي أعقبت ذلك غيرت المعادلة الكردية رأساً على عقب وذلك في معاهدة لوزان 1923م واستفاق الكرد على وطن ممزق بين أربع دول في المنطقة( تركيا-إيران –عراق –سوريا) دون أي اعتراف من أي دولة من هذه الدول حتى بوجودهم القومي كمكون ضمن الخرائط الجديدة،  ولم تدم الصدمة طويلا حتى قاموا بثورات وانتفاضات  عمت مختلف أجزاء كردستان ولم تهدأ حتى الآن وفي عام 1927م عقد مؤتمر في منطقة بحمدون بلبنان وبمساعدة من الأرمن الطاشناق وأعلنوا عن تأسيس جمعية الاستقلال (خويبون)، وشرعت الجمعية بالعمل على القيام بالثورة في منطقة جبل آكري في تركيا 1927م بقيادة الجنرال احسان نوري باشا، لكن الثورة اخمدت 1930م  بالتنسيق مع الايرانيين والروس، ثم توجهت بنضالها إلى مساعدة جمهورية مهاباد في كردستان إيران  بسبب طابعها النضالي العام كردستانياً رافضاً الحدود المصطنعة القائمة، لكن بعد انهيار جمهورية مهاباد تغير المشهد السياسي إلى حد كبير،وسيطرت الحالة القطرية على الحركة الكردستانية، فكان تأسيس أول حزب كردي سوري 1957م أثناء فترة الانتعاش السياسي الديمقراطي في سورية وكان توجه قادة الحزب وطنياً سورياً  رغم أنهم رفعوا شعار تحرير وتوحيد كردستان في البداية، لكنهم تخلوا عنه بعد فترة وجيزة، إذ أدركوا صعوبة العمل تحت مثل هذا الشعار  وصعوبة التوفيق بين التوجه الوطني السوري والتوجه الكردستاني العام، وبدأوا بالمطالبة بالحقوق القومية في إطار الدولة السورية  مع تأييد نضالات إخوانهم الكرد في الأجزاء الأخرى، لكن قيام الوحدة المصرية / السورية كان قاسيا بالنسبة لهم أيضاً، وتعرضوا للاعتقال والسجون أسوة بالإخوان المسلمين والشيوعيين ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم لم تخلو سجون الأنظمة المتعاقبة على سدة الحكم في سورية من النشطاء الكرد .وترافق ذلك بسلسلة طويلة من المشاريع العنصرية تهدف جميعها إلى صهر الكرد في بوتقة القومية العربية حسب ما كان يكررها منظروا البعث وقرارات مؤتمراتهم.

كان الهدف من هذا السرد التاريخي لتاريخ الحركة الكردية والعربية لفت النظر إلى ملاحظة هامة وهو أن الحركة الكردية كانت سباقة في التعامل مع المشروع الوطني السوري والبحث عن الهوية الوطنية السورية، لكن النظرة السياسية العربية لم تتغير مطلقاً، حيث بقيت النظرة ثابتة طيلة هذه الفترة االطويلة وهو أن الحركة الكردية حركة انفصالية في العمق طالما يطالب بالحقوق القومية الكردية ويتناقض مع المشروع القومي العربي، حسب تفسير وتحليل ورؤية البعث للقضية الكردية في سوريا.

خلاصة القول لم تتمكن الحركة السياسية السورية بمختلف أطيافها من تأسيس الهوية الوطنية السورية  الجامعة والدولة الوطنية والمواطنة السورية، لكن ارهاصات مشجعة تفرزها وقائع الثورة السورية، رغم كل المآسي التي مرت ويمر به الشعب السوري من قتل وتهجير وتدمير على يد مروجو الفكر العروبي وكشف الغطاء عن زيف ادعاءاتهم في الوحدة والحرية، كما كشف الغطاء أيضاً عن زيف العمق العربي المنشود، حيث أثبتت الوقائع الفاقعة والمرة من أن الشعب السوري يقف وحيداً أمام آلة النظام العسكرية المدمرة للبشر والحجر طيلة خمس سنوات ومعظم الدول العربية تقف متفرجاً على مأساة الشعب السوري دون تقديم أية مساعدة تذكر عدا عن أن بعض الدول منها وقفت وتقف بقوة إلى جانب النظام حتى اليوم، وفي مقابل هذا الواقع المأساوي نجد  بصيص من الأمل وهو أن كثيراً من النخب السياسية العربية بدأوا بالتفكير جدياً  للتأسيس للمشروع الوطني السوري  بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية  والتأسيس لتنظيمات تحمل أسماء وطنية فقط، بعيداً عن صيغ الأوطان الافتراضية  أو المشاريع خارج الجغرافيا السورية والتي لم تجلب سوى خيبات الأمل لشعبها.

 

المقال منشور في جريدة “يكيتي” العدد 267

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى