آراء

الهوية الوطنية السورية في مرحلة ما قبل الثورة منذ الاستقلال (1946-2010 )

فؤاد عليكو

مقدمة: قبل البحث في الهوية الوطنية السورية لابد بداية من تحديد مفهوم الوطن والوطنية على ضوء الدراسات الحديثة والتي تتفق في جوهرها ومجملها على تعريف الوطن بذلك الحيز الجغرافي المحدد الذي يسمى الدولة والتي ترتبط أفرادها المتواجدين ضمن هذه الجغرافيا المحددة دولياً بعقد اجتماعي متفق عليه دستورياً ويعرف بالحدود، بعيداً عن التصنيفات العرقية أو الدينية أو المذهبية ودون إلغاء لها بطريقة قسرية، بينما يسمح لأفراد تلك التجمعات بالإندماج الطبيعي مع توفير المناخ المهيأ لذلك وهو ما يطلق عليه المنظرون الأوربيون بنظرية (البوتقة الصاهرة) ، والتي تعتمد عليها أوروبا في عملية الدمج المجتمعي ، نتيجة ظروف الهجرة المستمرة من جميع أنحاء العالم إلى أوروبا بحثا عن الأمان ولقمة العيش من جهة ، وحاجة أوروبا إلى الأيدي العاملة والطاقات الشابة من جهة أخرى، وهذا ما دفع بهم إلى خلق مناخ وأجواء طبيعية مريحة للفرد المهاجر، كي يتمكن من الاندماج في المجتمع الأوربي وتقبل الهوية الوطنية لتلك الدولة وفلسفتها في الحياة الاجتماعية، بعيداً عن اللغة العنصرية والإجراءات القسرية الممارسة في الكثير من دول العالم الثالث، حيث يمارس الحكام فيها فرض هويتهم الخاصة بهم على بقية مكونات المجتمع بطريقة قسرية ووفق دستور خاص بهم ومفصل على مقاسهم وإعتماد العنف في معظم الأحيان للوصول إلى تلك الغاية وهذا ما يطلق عليه بالصهر القومي أو الديني.

والوطنية تعريفاً هو احساس الفرد أو الجماعة لذاته وبانتمائه لذلك الحيز الجغرافي والذي يطلق عليه الوطن في اطار الحدود المرسومة له دولياً ومن هنا نستطيع القول، أن العناصر الثلاث ( الانتماء- الشعور- الولاء المشترك) أساسية في تحديد الهوية الوطنية وبفقدان إحداها تعني طغيان شعور الإغتراب على هذا الفرد أو الجماعة لهذا الوطن المفترض ضمن هذه الجغرافيا المرسومة، وبالتالي يدفع بهذا الفرد أو المجموعة المهمشة بالبحث عن الهوية الوطنية خارج تلك الجغرافيا وهذا ما يمهد السبيل لتفكيك كيان هذا الوطن لحظة تحيين الظرف المناسب.

الهوية الوطنية السورية منذ التأسيس 1918:

من المعروف أن سوريا ضمن حيزها الجغرافي الحالي والمعترف به دولياً قد تشكلت نتيجة التقسيمات الاستعمارية بموجب اتفاقية سايكس/بيكو 1916م وملحقاتها تحقيقاً لمصالحها في توزيع تركة الامبراطورية العثمانية بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى دون أي اعتبار للمكونات المجتمعية وخصوصياتها واختلاف هوياتها العرقية والدينية وولاءاتها الوطنية الخاصة بها، وكانت سوريا بحدودها الحالية من نصيب المستعمر الفرنسي، لذلك حاولت فرنسا منذ البداية التأسيس لهوية سورية جديدة على أنقاض الهوية العثمانية الجامعة والتي كانت تعتمد في تحديدها على العامل الديني أي الهوية الإسلامية الجامعة دون إلغاء للهويات الفرعية سواءً أكانت قومية أم دينية أم مذهبية رغم ما تخللت تاريخها الطويل (500عام) من اضطرابات محلية هنا وهناك وممارسات قسرية زجرية أحياناً أخرى، لكن في معظمها بقيت محافظة على هويتها الفرعية بشكل مقبول إلى حد ما، فلم يكن العربي يخجل من انتمائه العربي في الدولة العثمانية ولا الكردي ولا المسيحي ولا الشيعي والعلوي وكانت هناك مساحة معينة من التسامح والولاء المشترك للدولة تمارس بين هذه المكونات بطريقة مقبولة حتى بدايات القرن العشرين تزامناً مع اشتداد النزعة القومية التركية ضد المكونات القومية الأخرى في الدولة العثمانية كالأرمن والعرب والكرد مما خلق والحالة هذه رد فعل مواز من جانب هذه المكونات وحصول اضطرابات كبيرة فقدت بموجبها الهوية الوطنية الإسلامية الجامعة أسسها المعتمدة طيلة الفترة السابقة مما مهدت الأرضية للبحث عن الهويات الخاصة بها، وهذا ما مهدت الأرضية لمشاركة هذه المكونات في الاصطفاف إلى جانب دول الحلفاء ضد الدولة العثمانية في الحرب أملاً في الخلاص وتحقيق الهوية الوطنية الخاصة بهم واستغل الحلفاء هذا التذمر لديهم وأغدق عليهم الكثير من الوعود بغية الوقوف إلى جانبهم في الحرب، لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر فلقد تبخرت معظم الوعود والتفاهمات حول ذلك ووجد الجميع أنفسهم أمام أوطان تاريخية مقسمة وفق خرائط أعدت وفق مصالحهم ضاربين عرض الحائط رغبات الشعوب في بناء كياناتهم الخاصة بهم.

ضمن هذا الواقع المرير والشعور بالإحباط حاول الفرنسيون بداية مراعاة المكونات المجتمعية السورية ككل والتأسيس لدولة سوريا الإتحادية وذلك بتقسيمها إلى عدة مناطق مراعاة لتللك الخصوصية، لكن سرعان ما تخلوا عنها نتيجة التجربة الفرنسية الضحلة بتطبيقات النموذج الفدرالي وكذلك مقاومة العديد من مكونات المجتمع السورية لهذا التقسيم، لذلك لجأت إلى تطبيق نموذجها في الحكم أي الدولة المركزية والإعتماد على الأكثرية السنية العربية في إدارة الحكم ووضع دستور مستنسخ تقريباً من الدستور الفرنسي والدفع باتجاه تطبيق نظرية (البوتقة الصاهرة) بالنسبة للمكونات الأخرى القومية والمذهبية كالكرد والعلويين والدروز مع مراعاة الخصوصية الثقافية والدينية للمسيحيين والسريان في حدودها الدنيا.

ولم يسعف الفرنسيون الوقت الكافي لترسيخ مفهوم المواطنة السورية حتى كانت الحرب العالمية الثانية وسقوط باريس بيد الألمان وفقدت فرنسا وبريطانيا دورهما الدولي وبرزت أمريكا والاتحاد السوفيتي كقوتين عالميتين تتصدران المشهد العالمي وتقرران مصير المستعمرات البريطانية والفرنسية والألمانية وبنتيجتها استقلت سوريا 1946م وتبوأت المشهد السياسي السوري قوى برجوازية مدنية متمثلين بالكتلة الوطنية وحزب الشعب وحاول الطرفان التأسيس لدولة وطنية ديمقراطية تعددية لكن الوقت لم يسعفهم حتى بدأت سلسلة الانقلابات العسكرية بعد ثلاث سنوات من الاستقلال( 1949-1954)، وبرزت حينئذ على السطح في أواسط الخمسينات ثلاث قوى سياسية سورية متناقضة أيديولوجيا فيما بينها، لكن جميعهم لم يملكوا مشروعاً وطنياً سورياً بالمعنى الحقيقي للكلمة بقدر ما يعتبرون هذه البقعة الجغرافية المسمى سوريا جسرا لعبور مشاريعهم خارج الحدود وهذه القوى هي :

1-التيار الإسلامي متمثلا بجماعة الإخوان المسلمين.

2-التيار اليساري متمثلا بالحزب الشيوعي السوري.

3-التيار القومي العربي.

-الإخوان المسلمون: تأسست هذه الجماعة في مصر 1928م وطرحت شعار الإسلام هو الحل والدعوة لتوحيد الأمة الاسلامية في جميع أنحاء العالم تحت ظل الخلافة الإسلامية المنشودة وأسست فروع لها في جميع أنحاء العالم الإسلامي مع إبقاء مركز القرار في مصر حتى اليوم، وبذلك عملت الجماعة وفق هذا المنهج في عمله السياسي في سورية واعتبار كل دولة ينشط فيها بمثابة جسر لخدمة المشروع الإستراتيجي الإسلامي العالمي، وبذلك لم يعطوا أهمية لتأسيس المشروع الوطني السوري ضمن الحيز الجغرافي المرسوم دولياً،.وقد تعرض الإخوان لعمليات القمع السلطوي في فترة الوحدة 1958_1961 وكذلك في زمن البعث 1979-1982م، لكنهم أعدوا تنظيم صفوفهم منذ بدايات الثورة السورية ولهم رصيد شعبي مقبول في الوسط السوري وهناك توجه لديهم للتفكير وطنيأ والتأسيس لدولة المواطنة لكل السوريين ومحاولة التحلل من الارتباط بالحركة الإخوانية العالمية والعمل سورياً والتضامن مع قضايا المسلمين عالمياً.

-الحزب الشيوعي السوري: تأسس الحزب في عام 1924م بعد انتصار البلاشفة في روسيا وتأسيس الاتحاد السوفيتي 1917م وسعي السوفييت لتأسيس منظمات سياسية يسارية في مختلف أنحاء العالم على مقاسها ورفع شعارها الأساسي ( ياعمال العالم اتحدوا) والسير وفق نهجها ورؤيتها في تحليل السياسة الدولية وبناء تحالفاتها الإقليمية والدولية، وقد نشط هذا الحزب بشكل ملحوظ ابان الاستعمار الفرنسي وفي فترة الخمسينات توسعت القاعدة الجماهيرية له بين العمال والفلاحين، لكن بقي اهتمامه بالمشروع الوطني السوري والهوية الوطنية السورية محدودا بقدر اهتمامها بالقضايا الطبقية والقضايا العالمية في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ونضالات الطبقة العاملة العالمية مقتضيا بسياسة الاتحاد السوفيتي في كل شاردة وواردة إلى درجة اتهمت بالتبعية من قبل المناوئين لسياسته ، وقد انقسم هذا التيار على نفسه في بداية السبعينات وحتى اليوم والانشطار مستمر ووقف عدد من هذه التيارات إلى جانب النظام ضمن الجبهة الوطنية التقدمية والقسم الآخر تعرضوا للسجون والقمع منذ بداية الثمانينات وحتى اليوم وهذا التيار وقف بقوة إلى جانب الثورة السورية ولا يزال ، وقد تحلل من ارتباطه مع القوى اليسارية العالمية وهم الآن من القوى الوطنية الداعمة للتأسيس، (الهوية الوطنية السورية)

-التيار القومي العربي:نشأ هذا التيار في بدايات القرن المنصرم، من خلال جمعية الفتاة العربية، وتعاونوا مع الحلفاء ضد الدولة العثمانية وكان يحدوهم الأمل في الإستقلال وتأسيس الدولة العربية الواحدة من الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق، لكن كل أحلامهم تبخرت، فما أن وضعت الحرب أوزارها حتى نكث الحلفاء بوعودهم ووجد العرب أنفسهم أمام وطن مقسم وأجزاء مبعثرة ومنح البريطانيون اليهود فلسطين لتأسيس دولة خاصة بهم 1917.ثم تبلور هذا التيار العريض في ثلاث أطر سياسية رئيسية بعد الإستقلال (حزب البعث العربي-حزب الاشتراكي العربي- حركة القوميين العرب)، ثم اندمج الحزبان الأول والثاني 1952 بحزب واحد أطلق عليه حزب البعث العربي الاشتراكي، وبعد أن حصلت الوحدة بين سورية ومصر تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة حتى بدأ عبد الناصر بحل جميع الأحزاب والتيارات السياسية وتوحيدها تحت اسم الاتحاد الاشتراكي العربي ومارس سياسة القمع المفرط بحق الإخوان المسلمين والشيوعيين معا لرفضهما سياسة عبد الناصر الفردية، وما أن انهارت الوحدة في عام 1961م حتى نشطت هذه الأحزاب المنحلة والمقموعة مجددا في فترة الإنفصال القصيرة، حتى كان انقلاب حزب البعث 1963م وإقصاء جميع الكتل السياسية عن المشهد بما فيه حلفائهم في الإنقلاب (حزب الاتحاد الاشتراكي العربي )، إما بسياسة القمع والترهيب أو بسياسة التفتيت والترغيب خاصة في مرحلة حافظ الأسد 1970- 2000م ومن بعده ابنه السائر على خطى الوالد نفسه ، رغم معرفتنا باستخدامهما هذا الفكر مطية لتمرير أجنداتهم الخاصة بهم.

ولعل الضرورة تقتضي إلقاء نظرة خاصة على فكر حزب البعث لأنه الحزب الذي طبع الحياة السياسية السورية بطابعها الخاص طيلة نصف قرن من الزمن.

يتبع في العدد القادم…

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “266”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى