الوضع الكردي السوري الراهن: هواجس وأسئلة مشروعة وآفاق
عبد الباسط سيدا
إلى اين تتجه الأمور في المناطق الكردية السورية؟ وما هي التحديات التي ستواجه الكرد في المناطق المعنية؟
وماذا عن موقع الكرد بصورة عامة من التطورات الجارية حالياً، وتلك المستقبلية المحتملة على صعيد الملف السوري بكل تعقيداته وتداخلاته؟
أسئلة مشروعة تُطرح بصورة يومية على المستويين الشعبي والنخبوي كردياً، وهي تمس مصير ملايين الناس على مختلف الصعد، لا سيما ما يتصل منها بالجوانب المعيشية والأمنية والاستقرار، هذا فضلاً عن الحقوق القومية المشروعة.
أما الغريب اللافت في الأمر من جانب القوى السياسية الكردية، فهو يتمثل في غياب استراتيجية متكاملة على المستوى الكردي السوري، استرتيجية تتمحور حول الأسئلة المعنية، وتقوم على دراسة الظروف والإمكانيات، وتحديد المطلوب، وبلورة معالم البدائل المطروحة عبر استشفاف ملامح القادم المتوقع، أو بتعبير أدق استناداً إلى القراءة المتأنية في الواقع السوري الراهن، وتطوراته المقبلة، وامكانية تعددية احتمالاته.
فالقوى السياسية الكردية السورية، سواء الموجودة ضمن المجلس الوطني الكردي، أم تلك التي تركته، أم التي لم تنضم إليه أصلاً، لأسباب مختلفة؛ ما زالت في مرحلة ردود الأفعال، والانشغال بالخلافات البينية الشللية، التي غالباً ما تتمركز حول الأدوار والامتيازات، ومسائل ثانوية تتسبب في تشتيت الطاقات وبث روحية اليأس. وما يساهم في استمرارية هذا الوضع هو عدم وجود آلية لإجراء مراجعات نقدية شجاعة ناضجة بهدف تقييم وتقويم ما جرى، والوقوف على الأخطاء التي كانت، واعتماد طريقة واقعية للمساءلة والمحاسبة، كل ذلك بقصد تحسين مستوى الأداء، ووضع حدٍ لجهود المسيئين، وإتاحة المجال أمام الكفاءات، خاصة الشبابية لتأخذ دورها المطلوب في ميادين العمل بعيداً من عقلية التوازنات والولاءات، وذلك بعد أن أثبتت تجارب أكثر من نصف قرن عقمها، وعدم جدواها.
أما في ما يتصل بموضوع حزب الاتحاد الديمقراطي، فهو ما زال في سعيه المحموم لفرض هيمنته على المناطق الكردية، ويتصرف وكأنه السلطة الشرعية التي لا بد أن يعترف بها الجميع، عبر ارغامهم على الالتزام بتدابيره واجراءاته. وكل من يخرج على الطاعة المفروضة تلك، عليه أن يواجه التهديد والإبعاد والاعتقال، وحتى التغييب.
ولم يعد خافياً على أحد أن الحزب المعني، التابع أصلاً لحزب العمال الكردستاني، قد استفاد من واقع ضعف الأحزاب الكردية السورية وترهلها، واستغل عدالة القضية الكردية السورية، ليتمكن من استثمار الطاقات البشرية الشبابية لكرد سورية في معاركه، خاصة تلك التي خاضها، ويخوضها، خارج حدود المناطق الكردية، مثل منبج وتل أبيض والرقة ودير الزور وغيرها، وذلك تناغماً مع توجهاته والتزاماته الإقليمية التي لا تتقاطع مع المشروع الكردي الوطني في سورية. بل على العكس من ذلك، فقد تسببت جهود هذا الحزب حتى الآن في إحداث حالة من التوتر والتشنج والتوجس بين العرب والكرد. كما أن تصرفات وسلوكيات الحزب المعني قد أعطت الذريعة للتدخل التركي في منطقة عفرين، والهيمنة عليها.
وهناك مخاوف ملموسة من حدوث سيناريو مماثل في مناطق أخرى في حال حدوث تفاهم أمريكي- روسي، الأمر الذي ستترتب عليه تفاهمات أمريكية- تركية مقابل الحد من النفوذ الإيراني بأذرعه المختلفة، بما فيها حزب العمال الكردستاني، الذي يعلم الجميع أنه ما زال ضمن دائرة التأثير الإيراني رغم كل التفاهمات الاستخباراتية الميدانية مع الأمريكان في سورية.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى التحركات الأخيرة التي وُصفت بأنها محاولة جديدة لإيجاد صيغة من التفاهم بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي، من أجل الاستعداد للاحتمالات القادمة. وهي محاولة تعد امتداداً لمحاولات سابقة فاشلة، ولكنها في جميع الأحوال تحظى باهتمام شعبي، على أمل الوصول إلى صيغة من التوافق الكردي العام، الأمر الذي سيكون في مصلحة الجميع, ولكن التجارب المتكررة غير المشجعة، قد أثبتت باستمرار أن الفاصل بين الواقع والتمني كبير وشائك بكل أسف.
وقد جاءت تهديدات بشار الأسد المتعلقة حول إمكانية اقتحام المناطق الكردية التي هيمن عليها حزب العمال الكردستاني تحت مسمى قسد، لتزيد من الهواجس الكردية على المستوى الشعبي، ولتؤكد أن المستقبل ما زال مجهولاً، وأن الاستقرار النهائي ما زال بعيد المنال، مما سيدفع بأصحاب الكفاءات والإمكانيات المادية إلى التعويل على الهجرة كخيار أول ، وهذا ما ينذر بالمزيد من الاستنزاف والضعف، إن لم نقل الضياع.
الوضعية الكردية السورية لا تتحمل المزيد من الأعباء المرهقة المفروضة من الخارج بناء على حسابات إقليمية ودولية.
وبناء على ما تقدم، نرى ضرورة تحديد جملة من النقاط، نعتبرها صالحة لأن تكون ركائز استراتيجية كردية سورية، تكون متكاملة مع المشروع الوطني السوري العام، الذي يظل الإطار الأنسب لاستمرارية العيش المشترك بين سائر المكونات السورية على اساس احترام الحقوق والواجبات، وطمأنة الجميع من دون أي استثناء أو تمييز. وأهم النقاط التي نراها جديرة بالتمعن والمتابعة هي:
مهما كانت الصيغة التي ستكون عليها سورية مستقبلاً من ناحيتي شكل الدولة (فيدرالية، لامركزية إدارية موسعة..الخ)، وطبيعة النظام السياسي (برلماني، رئاسي، شبه رئاسي…الخ)، فإن المعطيات بصورة عامة تؤكد أن مشروع التقسيم مستبعد. والاحتمال الأرجح هو أن تستمر صيغة مناطق النفوذ إلى إشعار آخر، وذلك ريثما يتم توافق دولي وإقليمي على ماهية الحل في سورية، ولكن في جميع الأحوال، فإنه من المتعذر، بل من المستحيل، فصل الوضع الكردي في سورية عن الوضع السوري العام، لذلك فإن الضرورة والحكمة تقتضيان تأكيد الالتزام بالمشروع الوطني السوري، الأمر الذي سيطمئن الداخل الوطني السوري، ويساهم في تحسين قواعد العيش المشترك، كما أنه يطمئن الجوار الإقليمي.
التوافق على مشروع وطني كردي سوري، يحدد بوضوح المطالب الكردية ضمن إطار الوحدة السورية، وعلى أساس الإقرار بالحقوق، والالتزام بالواجبات، ويمكن في هذا المجال الاستفادة من الوثائق العديدة التي صدرت عن الهيئات واللقاءات السورية التي كانت منذ بدايات الثورة السورية. ويشار هنا بصورة خاصة إلى الوثيقة الوطنية حول القضية الكردية التي أصدرها المجلس الوطني السوري 2012، ووثائق مؤتمر المعارضة السورية في القاهرة 2012، ووثيقة التوافق بين الائتلاف والمجلس الوطني الكردي 2013، هذا إلى جانب الكثير من الأوراق البحثية التي انتجها الأكاديميون والباحثون السوريون المهتمون بهكذا موضوعات، بالإضافة إلى الأوراق التي قدمت ونوقشت في العديد من المؤتمرات واللقاءات التي عقدت في العديد من الأماكن.
فكل هذه الوثائق والأوراق يمكن أن تكون أرضية صالحة لبلورة المواقف، وصياغة وثيقة عامة تكون مقبولة من قبل جميع الأطراف.
أما الإشكالية الأكبر فهي تتشخص في موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي، فهذا الحزب يشكل في واقع الأمر منظمة تابعة لحزب العمال الكردستاني، وهناك العديد من الأذرع التابعة للحزب المذكور هي التي تتحكم بالمسائل الأمنية والإدارية، وتشرف على العمل العسكري ضمن المناطق الإدارية التي أعلن عنها الحزب نفسه بأسماء وواجهات مختلفة.
والسؤال الأساسي المفصلي الذي يطرح نفسه اليوم أكثر من أي وقت مضى هو: هل بلغ أعضاء قيادة هذا الحزب وكوادره من السوريين إلى قناعة باستحالة الاستمرارية في الوضع الراهن. وذلك بحكم ضغط المعادلات الوطنية والإقليمية التي لا تستقيم أبداً مع وجود حزب العمال الكردستاني بهذ القوة ضمن الساحة الكردية السورية؟
هل هناك امكانية لاتخاذ خطوة جريئة يقوم بها هؤلاء، ليؤكدوا الهوية الكردية السورية الوطنية للحزب المذكور بعيداً من المظلة التنظيمية لحزب العمال، وخططه وأهدافه، التي لا تتوافق مع مصالح وتوجهات الكرد السوريين؟
هل هناك امكانية لرسم خط فاصل، ولو بصورة ودية، بين الحزب المذكور وحزب العمال، كمقدمة لاندماج الحزب المعني مع الحياة السياسية الكردية السورية من موقع المعبر عن تطلعات الكرد، لا من موقع القادم المفروض، المكلّف بمهمة ضبط الأوضاع الكردية لصالح أجندات لا تجسد مصالح الكرد والسوريين على وجه العموم؟
أسئلة تطرح بحدة وجدية، والأجوبة الواضحة عنها تمثل الخطوة الفعلية لأي توجه قوي متماسك هدفه توحيد الموقف الكردي السوري.
أهمية المحافظة على أفضل العلاقات مع المحيط العربي والجوار التركي، فالغالبية الغالبة من الشعب السوري هم عرب، وسورية كانت باستمرار جزءا فاعلاً من المحيط العربي- الإسلامي. ووقائع التاريخ والجغرافيا والثقافة المشتركة والتداخل السكاني، والمصالح المتبادلة، كلها تلزم الكرد السوريين عبر مؤسساتهم السياسية والأهلية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني، من تعميق اسس التفاهم والتفاعل مع المكون العربي السوري والمكونات السورية الأخرى جميعها، و مد جسور التواصل والتفاهم مع المجتمعات العربية ، وذلك بهدف مصادرة محاولات بعض المتشددين من الطرفين التي تستهدف دفع الأمور نحو التشنج والتصعيد لصالح توجهات لا تخدم العرب والكرد في الوقت نفسه.
كما أن العلاقة الجيدة مع الجارة تركيا كدولة ومجتمع، بصرف النظر عن الهوية السياسية للحكومة التي تتغير بحكم قواعد النظام الانتخابي الديمقراطي المعتمد في البلد، فهناك حدود برية طويلة، وهناك تداخل سكاني لا يمكن تحاشيه، فمعظم الأسر يتوزع أفرادها وأقاربها على جانبي الحدود، كما أن الثقافة والذاكرة التاريخية والمصالح المشتركة، هي الأخرى عوامل هامة تلزم الكرد السوريين بالحرص على العلاقات الطبيبة لمصلحة الطرفين، ولمصلحة السوريين جميعاً.
فالشمال السوري بأكمله سيستفيد من التجربة الاقتصادية التركية الناجحة، وقدراتها في عمليات إعادة الإعمار والتنمية، كنا أن الجنوب التركي هو الآخر سيشهد المزيد من الأمان والاستقرار، الأمر الذي سيفسح المجال لتسريع وتيرة النمو الاقتصادي في المنطقة المعنية.
هذه هي مجرد أفكار عامة، تحتاج إلى المزيد من التطوير والتحديد، كما تحتاج إلى جهود واعية، حريصة على مستقبل شعبها وأجيالها القادمة، جهود قادرة على التفاعل والعمل المشترك بروحية فريق العمل المنسجم المتآلف، مما سيمكن من تبادل الخبرات والمعارف، والتعامل مع الوقائع والمعطيات بعقلية علمية منهجية، عقلية ترتب الأولويات، وتدرس كل الخيارات، وتحرص على أوسع العلاقات مع الحاضنة الشعبية، التي عادة تتحمل القسط الأكبر من أعباء العمل المطلوب.
أما أن تظل كل الأطراف، سواء على مستوى الأحزاب أم المجموعات أم الأفراد، في دائرة ردود الأفعال، وانتظار ما ستكون عليه الأمور، فهذا معناه أن حصيلة التفاهمات الإقليمية والدولية المتوقعة ستكون على حساب الحلقة الأضعف (القاعدة الشعبية) كالعادة.