الينابيع والسواقي وظاهرة الاستقرار ( منطقة الكوچرات أنموذجاً )
وليد حاج عبدالقادر / دبي
بدايةً وكمدخلٍ رئيس لهذا المبحث الهام في بعديه التاريخي والجيوسياسي لمنطقةٍ جدّ هامة ومتشابكة – لم تزل – في بعدها الديموغرافي – وتشكّلها – المجتمعي، هذه الظاهرة التي يتسلّل بعضٌ من غُلاة القوم – شوڤينيين وبأسلوب ممنهَج تستهدف التشكيك دجلاً في تأريخية وحقيقة الوجود الكُردي في هذه المنطقة، وباعتمادٍ فجٍّ على مبدأ التسويف والتشويه التاريخي، وفق مبدأ اللصق والنسخ انتقائياً، والتأسيس وفق مخيالٌ من وحي جمهوريات إفلاطونية وبخرائط ومن جديد مخيالية، وهنا وبعيداً عن التنظير، وفي العودة إلى بدايات المرحلة العثمانية وتقسيماتها الإدارية، وتحديداً المنطقة التي استهدفها – شخصياً في هذا العرض – وأعني بها جزءاً هاماً من خارطة ولايتي الموصل العثمانية التي تشكّلت عام 1879 وولاية آمد – ديار بكر – ومعها مناطق اتبعت لماردين، وفي تتبعٍ عملي وفق إسقاطات خرائط سايكس بيكو ومعها أيضاً الهجرات – وإن كان توصيف الترحال أدقّ – الدورانية البشرية لسكان المنطقة في نطاقية أملاكهم الميرية والمطوّبة بإسمهم كما سنرى لاحقاً، وكلّ هذا في سياقية الإستقرار بشقّيه المؤقت الموسمي والدائم أو ( الكوچر و ديمانا )، وكذلك أهم العوامل التي ساهمت في تشجيع الاستقرار من بيئة تتوفّر فيها ظروف مناخية مساعدة ومعها وفرة الماء والكلأ وأرض خصبة يمكن أو تمّ استثمارها، وهنا لابدّ من التذكير بنقطةٍ هامة وتتمثّل بمواقف مجموعات عربية كانت في الحدّ الجنوبي وتحديداً في محيط قرى جزعة ومنطقتها، حيث كانوا أشبه بحاجز بشري ويتصدّون لمجموعات الرعي العربية التي تليهم جنوباً ويمنعونهم من التقدم بقطعانهم صوب المناطق الشمالية ذي الغالبية الكُردية كانت وبامتباز، والذاكرة الشعبية لازالت تستذكر – طوشات – عديدة بسبب ذلك، هذا الأمر الذي سنتوسّع فيه لاحقاً وبموضوعية، وهنا وقبل الخوض في العوامل التي سهّلت الاستقرار، ودور الينابيع والسواقي المائية فيها، لابدّ من التعرّض لأهم التجمعات البشرية والحيازات كملكيات قبلية في المنطقة، وهنا وللمصداقية التاريخية التي تفرض علينا بأن لا نتجاهل وقائع هامة قد تفترض في أحايين كثيرة وبخاصية البحوث الإجتماعية ومظاهر التموضعات البشرية بخرائطها، وفي حالات وجود التداخلات القومية سيما في المفاصل والحدود المتعارفة كانت، وخاصةً في حالة بروز – وجود طفرات مجحفة إن في رسم الخرائط الجغرافية وفق سياقات التدخلات الخارجية، وتجيير الخطوط تلك وفق مصالحها وبتفاهمات بينية بما يرضي تشابك مصالح تلك الدول، وهنا وبالرغم من التقسيم وفق ظاهرة القصّ واللصق وبتجاهلٍ حقيقي للبعد الجغرافي البشري وتموضع مجاميع المجتمع على طرفي الخط المرسوم! والى هذا الحدّ من الممكن استيعاب الفكرة كممارسة استعمارية، أما ما لايمكن تقبّله على الإطلاق! هو موقف بعضٍ ممّن تتماس معهم في الجغرافيا والتاريخ وتشاركات أخرى، وأهمها التقاطع البشري بوسمته الإنسانية، ومن ثم تجاهل ذلك الآخر الى درجة أنه يتذكّر وكمثالٍ في خاصية هذا الموضوع، تداخل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين كإيالة – إيلات عثمانية قبل سايكس بيكو، ويتجاهل – ينفي مطلقاً هذا الأمر ومن صميم ذات التقسيم الإيالي العثماني كولاية الموصل مثلاً وما تلاها من إيالات متلاصقة حدودياً وكتلة بشرية تربطها كلّ وشائج التشارك الثقافي والاجتماعي وأيضاً وحدة المصير، وباختصارٍ هنا وفي مسعىً لتوضيح عوامل الاستقرار في محيط دائرة محددة تستهدف أعالي الجبال في منطقة بوطان وتحديداً مناطق نفوذ قبائل ميران الكوجرية والتي وصلت بحدودها الى تخوم شنكال، وهنا وقبل البدء لابدّ من ذكر بعضٍ من التفاصيل عن هذه المجموعة البشرية الكُردية والتي يوعزها بعضهم كامتدادٍ عملي وبتقاطع توصيفي مضافاً لها التعريف الاسمي – ميران – ومدى تطابقها مع طبقة – ميران الميتانية – التي تعني طبقة نخبة الفرسان الأشدّاء عندهم، وفي العودة إلى بعضٍ من التفاصيل واستناداً إلى صفحة – أباسا تاريخ وأصالة – وتتبعها لآلية زعامة ميران لعشائر الكوجر حيث تؤكّد بانه ( .. حتى الربع الأخير من القرن الثامن العشر اتفقت على أن تتوالى ميران الزعامة حيث كان شم آغا ثم رش آغا وحسو آغا الذي قُتل في تل خنزير جنوب ديريك وكانت قبائل الكوجر تأتي من باكور الى روج آڤا لرعي المواشي .. وكانت المنطقة مكاناً لرعي هذه العشائر .. ) و .. ( .. كانت عشائر الكوجر تتألّف من حلفين هماجوخ صور .. ) .. ( .. من ميران وكادويرا وعلكا و حلف شلد تتألّف من طيا وخيركا وكجا وموسى رشا وكان لهم رجاﻻت مشهورين على مدى التاريخ وهنا نذكر على سبيل المثال ﻻ الحصر مصطفى باشا زعيم عشيرة الميران ووالد نايف باشا الذي كان أحد أبرز قادة الدولة العثمانية وكان من القادة المقرّبين إلى السلطان عبد الحميد الثاني وكذلك رشيد آغا من عشيرة طيا الذي رفض منصب الباشوية و .. كلّفه السلطان العثماني بالتصدي للهجوم اليوناني على أراضي السلطنة .. ) .. لكنه ( .. رفض إﻻ أن يقاتل بمقاتليه دون أيّ مساعدةٍ من السلطان الذي أعجب بشجاعته فعرض عليه لقب الباشوية فرفض اللقب .. ) وهنا لابدّ لنا من استذكار ( .. الشيخ المناضل فقير الله من قرية باني شكفتى الذي قدّم الغالي والرخيص من أجل ثورة البارازني الخالد .. ) والذي حُرِم بسبب ذلك من الجنسية السورية وصوردت أملاكه وكلّ أراضيه.. ) وتعدّ قرية سويدية من أكبر قرى الكوجر .. وﻻتزال مناطق الكوجر .. موطن الأصالة في كلّ شيء من حيث اللسان الصافي والعادات والتقاليد الأصلية والمأكوﻻت الشعبية اﻻصلية وهم كما قلت فيهم .. ( : .. الكوجر هم حاضر وتاريخ كما وقاموس الأرشفة واللغة كما الفولكلور، هم أحفاد دوموزي الراعي، انظر في تقاليدهم ونمط غنائهم كما ودبكاتهم كلها مونولوجات الترحال توازي أناشيد القدماء ﻻبل تكاد ان تتلمّس فيهم عادات وتقاليد وإرث ميزوبوتاميا .. ) . هذه المجموعات التي تعيش مع بعضها منذ مئات السنين ومكان سكناها حتى الربع الأخير من القرن الثامن عشر ، هي المنطقة التي تحيط ببحيرة وان بتركيا اليوم و كانت تلك العشائر تنزل السهول لرعي مواشيها إلى الجنوب حيث الأرض واسعة والسهول ملأى بالأعشاب في الربيع والمكان هو شمال شرقي الجزيرة السورية اليوم . وقد اتفقت تلك العشائر على أن تتولّى عشيرة ميران الرئاسة فيها منذ أكثر من مئتي عام حسب ما يورده كبار السن. وتؤكّد غالبية التوثيقات التاريخية وخاصةً اولئك البحاثة المتنقلين والذين زاروا تابعيات السلطنة العثمانية على أنّ ( .. عشائر الكوجر هم من أقدم المكونات في الجزيرة السورية وكانت رحلاتهم من منطقة بحيرة وان في تركيا الحالية إلى سفوح جبل سنجار و كانت منطقة ديريك ولغاية جبل سنجار تابعة لولاية بوتان في العهد العثماني و ممنوعة للعمار لأنها كانت مراعي للكوجر . ). وقد خلدت كثير من المواقع من خلال العديد من ( الأغاني الفلكلورية ممتدة بين ديريك و سنجار ) .. منها : ( .. نهر سويدية) علماً بأن النهر قد يكون قد جفّ رغم وجود أثر لساقية في محيط قرية قولديمان القريبة منها أو لربما يكون المقصد بها قرية سويديكا سفان وقد قيل بأنّ الشخص الراجل ( المسافر أو العابر للمنطقة ) لم يكن باستطاعته أن يمرّ في منطقة سويدية لكثرة الأحراش. و كامل المنطقة كانت مراعي للكوجر لأنّ العائلة الواحدة كانت تملك ما بين ألف إلى ألفي رأس من الأغنام والماعز.
( .. أما عشائر الكوجر فهي : ميران ، دوديرا ، آلكا ، باتوا ، خيركا ـ طيا ، موسى ره شا ، علكا ، كجان . وقد كتب مير جلادت بدرخان في مجلة هوار، أنّ الكوجر كانوا حلفين الأول: جوخ صور وضم : ميران، دوديرا، ألكا، علكا أما الحلف الآخر فكان: شلد و هم : خيركا، طيا، باتوا، موسى ره شا و كجان و بعدها انفردت ميران برئاسة الكوجر، ولزعامة شم آغا و انتقلت الزعامة إلى رش آغا و من بعده حسو رش آغا حيث قُتِل على يد الأكراد الإيزيديين في قرية تل خنزير جنوب مدينة ديريك، ومن ثم تزعم العشيرة آل باشا. ورئيس عشيرة ميران الحالي هو: عبدالكريم إبراهيم نايف مصطفى باشا الذي يقيم في قرية قره جوخ. وقد اعتمد وكعرف عشائري على أنّ كلّ شخص من آل الباشا يقال له رئيس عشيرة. ويعدّ الراحل نايف مصطفى باشا من أشهر رؤساء هذه العشيرة، حيث ولد في عام 1890 وبعد وفاته في عام 1966 دعي ولده إبراهيم الذي كان يدرس في بلغاريا للقدوم الى الديار، حيث توقّف عن متابعة الدراسة، وتولّى رئاسة العشيرة وخلّفه بعد رحيله ابنه عبدالكريم ابراهيم باشا المسؤولية، ومن القرى التي تملكها العشيرة:
ـ قرية كلهي: برئاسة سمير دهام باشا وقرية گركندال: كان الراحل عدنان نواف باشا وقرية تل خنزير فوقاني: صباح عبد الكريم باشا وقرية تل خنزير تحتاني: أولاد مصطفى باشا وقرية گربالات: أولاد عبد العزيز باشا وكلهم أحفاد نايف باشا و لنايف باشا ثلاثة عشر ولداً، و هم : نواف، دهام، مصطفى، عبد الكريم، عبد العزيز، إبراهيم، محمد، علي، شلاش، عكيد، سمكو، عبدي، و حسين و هو أصغرهم .
ومن قرى ميران الأخرى : سي گرا برئاسة خضر كجو، سويدية محمد عليا.
گراصورا عبدي فقه. وقلدومان : سعيد بيكيه. وتبكي عبد العزيز بلي. وبستاسوس، كرزيرو ،شكرخاچ، كانيا دريش ولهم مخاتير. أما خيركا هي: شرك برئاسة مصطفى فياض، علي گاميش فوقاني+ تحتاني+ تقل بقل+ بانيه شكفته و لعشيرة طيا قرية واحدة و هي: گركي حيويل و لكجان قرية واحدة و هي: مرجه. كل القرى التي ذكرناها تكاد تحوي كل مكونات الكُوجر، لكن ميران هم الأغلبية في الجزيرة السورية و باتت العشيرة تعرف: بـ الميران الكوجر . وهناك أيضاً علكا .. و خيركا وطيا. و في كُردستان العراق – استقرّت – مجموعات من كلّ عشائر الكوجر التي ذكرناها بالإضافة إلى كوجر الهاجا. و عدد نفوس العشيرة يتراوح بين ثلاثين و اثنان وثلاثين ألفاً – منقولة من صفحة نايف مصطفى باشا بالفيسبوك.
والآن وعود على بدء، وفي ظاهرة النسبة والتناسب قومياً في هذه المنطقة تحديداً، فقد وثّقت معلومات مؤكّدة حول وجود بعض من العائلات العربية كانت قد استقرّت فيالمنطقة، وكزنار في الخط دفاعي بأقصى الجنوب بعيد وحوالي قرية جزعة لعشائر عربية، حيث كانت تتصدّى لتمدد بعض من العشائر العربية وتحدّ من تمددهم مع قطعان أغنامهم صوب مراعي قبائل ميران في الشمال.
وهنا، وفي عودة إلى حيثيات التنقل ومعها ظهور بوادر الاستقرار ضمن نطاقية هذه المنطقة التي نحن بصددها والمحددة بمسمى مناطق – مراعي قبائل الكوجر، والتي مع الزمن أظهرت تصنيفات وبتوصيفات جديدة، مثل مجموعات نصف الرحل، والرحل ومعها المستقرون وبتصنيفين: ( گوندي وباژاري ) القرويون والمدن، هذه التجمعات التي ارتبطت كلها إن في عوامل ترحالها أو استقرارها بالدرجة الأولى على الماء ومدى وفرته وأيضاً صلاحيتها للاستخدام البشري، وتدلّ الوقائع سيما في منطقة ديريك في المرحلة التي تلت تثبيت خرائط التفاهمات النهائية بين سلطة الإنتداب الفرنسي ودولة تركيا المحدثة، وإن بقيت الحواجز الحدودية المحدثة حتى فترة خمسينيات القرن الماضي مجرد حدود واهية، وكانت مجموعات الكوچر تقوم برحلاتها المعتادة صيفاً الى – بانا .. زوزانا – وشتاءً تهبط من الجبال صوب – دشت – السهول وكلّ ذلك كانت تتمّ بضبط وانتظام وإن شهدت الأعوام المتتالية انخفاض عدد الخيم لابل وحتى أنّ كلّ موسم كان يشهد تأخر بعضهم وإن كانت في غالب الأحيان لعوامل طارئة، حيث عدّ المتخلفون لابل وأصبحوا ركيزة أولية لتزايد عدد بيوتات الاستقرار، والتي كانت تشهد أيضاً ظهور بدايات أولية لأنواع من البدائل السكنية مثل الدور أو المصطبات الخشبية مع بعض من الطين الى إن ظهرت البيوتات البسيطة، وحتى ماقبل عقود من الزمن الحالي كان الكوچر يعدّون البيوت المغلقة أشبه ما تكون بالقبور، وما لبثت أن تطوّرت البيوتات من حيث الشكل وطراز البناء وعوامل ثباتها ومقاومتها للظروف الطبيعية والتي أخذت تتواءم مع مرحلة بداية التحول التام إلى – ديمانا – الاستقرار، ومن جديد كان للماء وسبل حصولها الأسهل دورٌ في بناء تجمعاتها، وعليه لا يستغرب كثرة أسماء القرى المركبة وتواتر اسم – كاني – كلازمة رئيسة فيها مثل (كاني بحني، كاني نعمي، كاني كركي .. وغيرها) ولاتزال الذاكرة الشعبية تحتفظ بعشرات من اسماء الينابيع التي تحيط بها أساسيات بدئية للاستقرار والسكن من حولها، وذلك ابتداءً من أقدم سلسلة جبل – جودي – فقرية عين ديوار لوحدها كان فيها عشرات الينابيع مثل نبعها الرئيس – كانيا عينديوري – وكهنيا – ريلك– و – كهنيا غيدايي وايضا كهنيا تلداري وعين بازوق مروراً إلى كهنيا بانه قسري وكهنيا كاني كركي وكهنيا مامشور وكهنيا كاني بحني وريحانيك وكاني هژيري في مفترق طريق ديريك وبورز وكاني كرك وكاني نعمي وكانيا نبي مروراً الى العشرات من الينابيع في بروج ومحيطها وعلى أطارف جم سفان وبالأخص فيها كانيا وانكي .. وفي الختام ومن جديد: فقد كانت المنطقة من أعالي زوزانا – الجبال – حتى حدود سنجار هي مساحات ومراع لقبائل الكوجر وحتى الرعي لغيرهم كانت محظورة ومع بدايات ظهور ونمو فكرة الاستقرار بشقيه المؤقت والدائم والتي اوجدت ظاهرة اولية في بناء بيوتات الاستقرار وتنامي ظهور وتوسع قرى جديدة ، ولكن ضمن نطاقية طبيعة ونمط استقرار سكان المنطقة الأصلاء وفي جغرافيتها وبالتوكيد على الضد مما يزعمه بعض من أيتام عفلق وصدام كمثال الكاطع وغيره من جهة، وكتوثيق معرفي أيضاً وفي العودة إلى ذاتها القرى والتجمعات البشرية التي كانت موجودة واستحدثت وبمقارنتها مع القرى غير الكُردية وتتالي سنين بنائها وحتى تواريخ هجرات سكانها الى ذات المنطقة.
المادة منشورة في جريدة يكيتي العدد 295