انتكاسة أردوغان وانتصار أوجلان…
هوشنك أوسي
أتت نتائج الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة في تركيا، قريبة من نتائج استطلاعات الرأي التي أشارت إلى تراجع شعبيّة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم منذ 2002 تسع نقاط تقريباً (من 49 إلى 40 في المئة)، على رغم استخدامه كل مؤسسات الدولة في حملته، ودخول رئيس الجمهورية، والزعيم (السابق) للحزب، رجب طيب أردوغان حملته في انتهاك سافر للدستور الذي يلزمه الوقوف على الحياد. وعليه، حصل «العدالة والتنمية» على 40.8 في المئة، وتراجعت مقاعده من 317 إلى 258. وعلى رغم ذلك، أتى خطاب رئيس الحكومة التركيّة، أحمد داوود اوغلو، من على شرفة مقرّ الحزب في أنقرة، ليتحدث عن النصر الكبير! زد على ذلك، إكثار أوغلو من التكبير والبسملة في خطابه، وظهوره كأنّه زعيم جماعة إسلاميّة، وليس زعيم حزب سياسي يذكر برنامجه الداخلي أنه يؤمن بالعلمانيّة!؟
الحقّ أن مفاجأة هذه الانتخابات لم تكن تراجع شعبيّة «العدالة والتنمية» في البرلمان، بل تجاوز حزب «الشعوب الديموقراطي» (الواجهة السياسيّة لحزب العمال الكردستاني) لكل استطلاعات الرأي التي أشارت إلى احتمال حصوله على 10 إلى 11 نقطة، وبالتالي فهو تجاوز حاجز الـ10 في المئة من إجمالي اصوات المقترعين، بحصوله على 13 في المئة، حاصداً نحو 80 مقعداً في البرلمان، ومتجاوزاً حتّى تقديرات وتوقّعات الحزب نفسه! ومع بقاء أكبر أحزاب المعارضة، «الشعب الجمهوري»، مراوحاً مكانه بحصوله على نسبة 25 في المئة وحجزه 135 مقعداً، وزيادة حزب «الحركة القوميّة» المتطرّف عدد مقاعده من 52 إلى 81 مقعداً، وحصوله على نسبة 16.3 في المئة، ينفتح المجال أمام تعقيدات تشكيل حكومة ائتلافيّة لا مناص أمام «العدالة والتنمية» من التصدّي لاستحقاقاتها. وإذا نظرنا إلى حجم الخصومة والتباين في المشاريع والسياسات بين «العدالة والتنمية» و «الشعب الجمهوري»، يبقى الترجيح في تشكيل هكذا حكومة إما بين «العدالة والتنمية» و «الحركة القوميّة»، أو «الشعوب الديموقراطي»، أي العمال الكردستاني!
وإذا رجّح «العدالة والتنمية» وحدة الحال القوميّة مع «الحركة القوميّة»، أطاح بذلك التسوية السلميّة بينه وبين «العمال الكردستاني» التي وصلت الى مرحلة متقدّمة، وخسر أكراد تركيا، وأدخل البلاد في دوامة العنف الدموي، وإطاحة كل الانجازات الاقتصاديّة للعقد ونيّف الأخير. ذلك أن «الحركة القوميّة» ترفض في شكل قاطع هذه التسوية. ويُرجّحُ، في المقابل، تشكيل تحالف مع «الشعوب الديموقراطي» نظراً الى البرنامج السياسي البالغ الاعتدال، والتوافقي، والتركي الوطني، لدى الحزب. والحق ان هذا التشكيل السياسي (الكردي – التركي)، كان أحد المشاريع التي أصرّ أوجلان من داخل سجنه، على تشكليه، منذ 2010 مع بدء المفاوضات بين «الكردستاني» والاستخبارات التركيّة في العاصمة النروجيّة أوسلو، بحيث يكون حزباً سياسياً جامعاً، عابراً للقوميات والإثينات، أو «حزب السقف الوطني» كما كان يسمّيه أوجلان. فهذا الحزب وما حققه يمكن تسجيله باسم اوجلان ومساعيه السلميّة ومرحلة التفاوض مع أنقرة. وكل التراشق السياسي – الإعلامي بين «الشعوب الديموقراطيّة» و «العدالة والتنمية» كان لزوم الاستهلاك الداخلي لدى الجانبين الكردي والتركي، بينما كان هناك، في غالب الظن، تسوية او تفاهم مبرم بين أوجلان وأردوغان، إحدى ثمارها الانتصار الكبير لـ»الكردستاني» في هذه الانتخابات.
وهذا الانتصار يمكن اعتباره ترميماً وسنداً قويّاً لانتكاسة «العدالة والتمنية» في حال استغله الأخير بسرعة قصوى، ولم ينصت لبعض التحليلات او المشورات التي تحاول الدفع به نحو التحالف مع «الحركة القوميّة»، وإدارة الظهر للكرد، لما في ذلك من بالغ الخطر الذي يهدد تركيا برمّتها، في هذه المرحلة البالغة الالتهاب في المنطقة.
حصيلة أي تحالف بين «العدالة والتنمية» و «الشعوب الديموقراطي» ستكون 53 في المئة من إجمالي الأصوات، ونحو 338 من مقاعد البرلمان. صحيح أن هذا التحالف لا يمكنه تمرير طموح أردوغان بتحويل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، داخل البرلمان، باعتبار التحالف لا يمتلك 367 صوتاً من أصل الـ 550، لكنه يملك ما يزيد على النسبة المطلوبة (330 صوتاً) التي تخوّله طرح مشروع الدستور على الاستفتاء الشعبي. وهذه لعبة يتقنها «العدالة والتنمية».
قد يسأل أحدهم: لكن زعيم «الشعوب الديموقراطي» نفى في تصريح له أيّة نيّة للتحالف مع «العدالة والتنمية»؟ الا ان التفاهم أو الاتفاق المبرم بين أوجلان والحكومة التركيّة يتجاوز تصريحات كهذه، أقلّ ما يقال فيها أنها «متسرّعة». ذلك أن «الكردستاني» لا يعنيه كثيراً تحوّل تركيا إلى النظام الرئاسي، بقدر ما يعنيه إطلاق سراح أوجلان، وإيصال التسوية السلميّة إلى نهايتها، بالحصول على جزء من السلطة في أنقرة وإسطنبول، وتوسيع صلاحيّة بلديات المناطق الكرديّة. في المقابل، فـ «العدالة والتنمية» لم يعد يقلقه الإفراج عن أوجلان أو ووضعه في الإقامة الجبريّة، تمهيداً لإطلاق سراحه، ونزع سلاح «الكردستاني» في إطار التسوية، بقدر ما يعنيه جعل نظام الحكم نظاماً رئاسياً، لما في ذلك من تحصين فولاذيّ ودستوريّ لصلاحيات أردوغان وفريقه الحاكم، ما يطيح بأي بصيص أمل، لدى المعارضة العلمانيّة، بخصوص فتح دفاتره القديمة، في ما يتعلّق بقضايا الفساد، ودعم حكومته التنظيمات الإرهابيّة الإسلاميّة كتنظيم «داعش» و «الإخوان المسلمين» في سورية ومصر.
وإذا تحققت هذه الصفقة بين أوجلان وأردوغان، كما يأمل الكثيرون، ينفّذ أوجلان ما وعد به، في كتابه «دفاعي منعطف على مسار الحل الديموقراطي»، وفي الصفحة 173، حين قال: «بقدر ما نسعى إلى إبعاد تركيا من الأخطار الكبيرة المنتظرة، فإننا نود عودتها إلى القوة والعظمة التي كانت تتمتع بها في السابق»، ويضيف: «مع التسوية النهائية ستدخل الإمكانات والقدرات العسكرية للكردستاني في خدمة الجمهورية التركية، وستزول الأخطار المهددة لوجودها، والتي تقودها بعض مراكز القوى العالميّة، مستغلة القضية الكردية منذ 200 عام لاحتلال تركيا وتحويلها ساحة حرب وبؤرة مضطربة». الطموح السلطاني لأردوغان، لا ولن يمكن تحقيقه، إلاّ بعد الحصول على مصادقة وموافقة الأكراد. هكذا فعل أجداده السلاجقة في معركة ملاذكر في مواجهة البيزنطيين، والعثمانيون في معركة تشالدران في مواجهة الصفويين – الفرس. وهكذا فعل أتاتورك، حين أسس الجمهوريّة، عبر الاستعانة بالكرد. فهل يفعلها أردوغان، طالما أن أوجلان، بعد اعتقاله، عرض خدماته على تركيا؟
الحياة