انظروا: المتدخّلون يتناهشون مناطق النفوذ في سورية
عبـــدالوهــــاب بدرخــــان
قُصفت داريّا بوابل من قنابل النابالم، قبيل إخلائها، وقال شهود عيان أن الحرائق بدت ليلاً من دمشق أشبه بفوّهة بركان مشتعلة. لم يقل أحد، ولا الأمم المتحدة، أن نظام البراميل المتفجّرة عبّأ براميله بسلاح محظور دولياً، ولو من قبيل توثيق الواقعة.
الأرجح، أن التعب الدولي من انتهاكات النظام جعل التنبيه الى جرائمه بلا معنى أو مغزى، فهي كثيرة ويومية. غير بعيد من داريّا، في المعضمية، قبل ثلاثة أعوام، كان القتل بالسلاح الكيماوي، وتعاون الأميركيون والروس على لفلفة الجريمة آنذاك، والأرجح أنهم سيتعاونون على حماية النظام القاتل بعدما حمّله التحقيق الدولي مسؤولية واقعتين كيماويتين بأدلة قاطعة.
كانت لداريّا رمزية خاصة بدلالة تجربة العيش المشترك بين أبنائها مختلفي الانتماءات، ففيها تجلّت «سلمية الثورة» بأبهى حللها في تقديم الورود الى جنود السلطة، وفيها انكشف باكراً الوجه العنفي الحاقد للنظام بقتل حامل الورود غياث مطر بعد اعتقاله، وفيها كذلك ارتكب النظام المجازر المنهجية الأولى قبل أن يشرع في حرب إبادة ضد المدينة، وفيها أخيراً سجّل عسكريون وشبان اضطرّوا للتعسكر واحدة من تجارب الصمود الإنساني الأكثر إذهالاً.
كانوا مقاومة شعبية حقيقية، ذات هوية وطنية، ولا ارتباطات خارجية لهم، ولا أسلحة ثقيلة، ولذلك كان وجودهم على مقربة من دمشق مصدر إزعاج لا للنظام وإيرانييه فحسب، بل حتى لفصائل أخرى قريبة وباتت الآن تحت ضغوط براميل النابالم تمهيداً لإخلائها بدورها.
بالنسبة الى إعلام نظامَي بشار الأسد وملالي إيران، شكّل الانتهاء من عقبة داريّا خطوة متقدّمة في «تأمين دمشق»، بعد القلمون والزبداني، والتأمين هذا اسم مرادف لاقتلاع السكان والتغيير الديموغرافي.
هو استنساخ دقيق لنموذج الإرهاب والمجازر الإسرائيلي في إخلاء المَوَاطن من أهلها، ومن ثَمّ التصرّف بما يسمّى «أملاك الغائبين» والسهر على تهويد الأماكن.
قبل داريّا، مورس النهج «التهويدي» في حمص، ويستكمل الآن – بالنابالم – في حي الوعر، الرقعة الأخيرة منها خارج سيطرة النظام.
لكن هذا النظام قبل طوعاً تقزيم وجوده في الحسكة، بعدما طردته منها قوات «حزب العمال الكردستاني»، وليس «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، وفق التسمية التي اعتمدها محافظ الحسكة.
وفي هذه الواقعة أيضاً، سيكون للتغيير الديموغرافي أثره القاسي في الناس، تحت أنظار الروس الذين تولّوا «التوسّط» بين النظام والأكراد. وهو تغيير يتمّ في سياق يخدم أجندة النظام، إذ يقبل سيطرة الكرد طالما أنهم سيهجّرون العرب.
وما دام الـ «بي كي كي» السوري تسبّب بنفي قسم كبير من مواطنيه الأكراد غير المتوافقين معه سياسياً وتهجيرهم، فماذا يُتوقّع منه حيال العرب، وقد هجّر منهم مَن هجّر، وعلى رغم نفيه المتكرّر لم يستطع أحدٌ منهم العودة الى قريته أو بلدته.
لوقائع مثل داريّا والحسكة أبعادٌ «مستقبلية» باتت تنبثق من قذارة الحرب وأهداف اللاعبين فيها، ويمكن أن تضاف إليها الحالات الميليشياوية التي فرضت نفسها على مناطق المعارضة، كما دأب الإيرانيون على نشرها في «مناطق النظام» حتى أن الروس الذين ازدروها في بداية تدخّلهم، لم يجدوا مناصاً من التعامل معها وأصبحوا يستقبلون وجوهها في قاعدة حميميم. هذه وقائع أقلّ ما يقال فيها أنها لا تسابق «الحل السياسي» وتضاعف صعوباته وتعقيداته فحسب، بل إنها ماضية في قتله وفي تغيير الوقائع على الأرض، الى حدّ أن القرار الدولي 2254 الذي لم يظهر إلا في العام الخامس للصراع، أُفرغ من مضمونه في غضون شهور قليلة.
وإذ يُنظر بيقين الى «داعش» على أنه خطر زائل لا محالة بعدما وفّر لجميع من ساهموا في ظهوره حقولاً للقتل والتدريب وتجريب الأسلحة، فالمؤكّد أن «داعش» لا مستقبل له في سورية أو في العراق، لكن ما يحصل على الأرض ماضٍ في صنع مستقبل لمن أوجدوا التنظيم واستغلّوه تحديداً في إفساد قضية الشعب السوري.
فمن داريّا التي أعادت إنعاش حلم الأسد والإيرانيين في «سورية المفيدة»، الى الحسكة التي أكّدت وجود تفاهم أميركي – روسي على منح الأكراد كياناً خاصاً بهم، الى جرابلس التي دشّنت دخول تركيا منطقة النفوذ التي أفردها لها الروس والإيرانيون، الى مواصلة الأميركيين والروس بحثهم عن «هدنة شاملة» في حلب وعن أفضل تنسيق لنشاطاتهم الجوية وأفضل تمييز ممكن بين معارضتين معتدلة ومتطرفة، وإلى استمرار النقاش والخلاف حول «مصير الأسد» فيما تتمسك به موسكو وطهران وتستعد أنقرة لتطبيع العلاقة معه وتسلّم واشنطن بوجوده في مرحلة «قصيرة» لا يريدها الأسد نفسه، بل لا يعترف بأي صفة «انتقالية» لها… يبدو أن الطرف الوحيد الذي لن يتاح له أن يقرّر مصيره هو الشعب السوري، وإذ كانت تركيا حتى أمس قريب أشبه بحصن أخير لقضية هذا الشعب، أقلّه بحكم موقعها الجغرافي، فإن التحاقها باللاعبين الخارجيين الآخرين مرشحٌ لأن يُضعف التزاماتها تجاه المعارضة.
لا شك في أن الدخول التركي الى الأراضي السورية، لمقاتلة «داعش»، صار مقبولاً أميركياً بعدما نالت تركيا قبولاً روسياً – إيرانياً، بل قُبل معها أيضاً «الجيش السوري الحرّ» الذي كانت أميركا أمعنت في إهماله وتهميشه يوم كان قادراً على صدّ اختراق «داعش» وانتشاره، ثم مانعت لاحقاً أي دور له في محاربة الإرهاب، كأنها لا تجد له مكاناً في «سورية المستقبل» كما تتصوّرها، ولذا فضّلت الاعتماد على «بي كي كي» السوري لأنها حجزت له مكاناً في «سورية المستقبل» كما تتصوّرها.
تم تحريك هذا الفصيل من «الجيش الحرّ» تحت الإمرة التركية، ووفقاً للصيغة التي اشترطتها أميركا منذ 2014، أي لمقاتلة «داعش» لا لمقاتلة النظام. هذا يناسب المعايير الروسية، ولا يقلق إيران، وإن كان مجرد ذكر «الجيش الحرّ» يثير كل الحساسيات داخل الحلقة الضيّقة للنظام، وحتى لدى جمهوره. لكن حسابات الحلفاء برهنت في محطّات عدة، أنها لا تكترث بهواجس الأسد وزمرته.
في أي استراتيجية يمكن وضع التحرّكات الدولية والإقليمية الراهنة، وهل هي منسجمة مثلاً مع نص القرار 2254 الملتزم «وحدة سورية»، أو حتى مع «المبادئ» الثلاثة التي ادّعاها «التفاهم الثلاثي» الروسي – الإيراني – التركي (وحدة سورية أراضيَ وسيادةً، حكومة وطنية موسّعة، إعطاء الشعب السوري الفرصة لتقرير مصيره…)؟ الواقع، أن الأمم المتحدة اتّبعت مع أمينها العام الحالي خطّ العمل في موازاة ما تتفاهم عليه أميركا وروسيا اللتين عطّلتا كل سلطة مبدئية أو أخلاقية للمنظمة الدولية كما ألزمتا المبعوث الأممي بمراعاة إيران والنظام على حساب الأطراف الأخرى.
لكن المتدخّلين الخارجيين جميعاً، كما نظام الأسد، لم يُثبتوا يوماً احترامهم وحدة سورية. إيران أولاً لاستحالة تحقيق مطامعها في سورية موحّدة، وإيران مع النظام بعدما بانت صعوبة استعادته الحكم على كل البلد، ثم روسيا التي أدركت سريعاً أن سورية تجزّأت قبل تدخّلها، وأن خيارها الوحيد حماية «سورية المفيدة» كمشروع إيراني – أسدي يمكن أن تحافظ على مصالحها فيه، أما الولايات المتحدة فانتزعت نفوذاً عبر إدارة المعارضة وكبحها في الجنوب وتمكين الأكراد في الشمال، ومن خلال الدورَين الروسي والأميركي حصلت إسرائيل على «حقّها» في التدخل، وإذا لم تكن تبحث عن منطقة نفوذ فلأن لديها الجولان وتريد اعترافاً بأنه لم يعد محتلاً، بل أصبح «حلالاً لها»، وأخيراً انضمّت تركيا الى اللعبة وهي تعلم أن لـ «البازار» الذي يرحّب بها قواعد وشروطاً لا تتلاءم بالضرورة مع كل ما تسميه «ثوابت» لا تحيد عنها.
نعم، قد يشكّل تقاطع مصالح أنقرة وطهران ودمشق ضد الكرد قاعدةً لتقاربها، لكن المشروع الكردي يحظى بتفاهم أميركي – روسي وبتشجيع إسرائيلي، وبالتالي فإن ما تستطيعه الدول الثلاث المتضرّرة هو إبطاء هذا المشروع وحصر تداعياته عليها.
ولا شك في أن نظام الأسد يمثّل هنا الحلقة الأضعف، فهو، على قول بعض القريبين، لم يعد معنياً إلا بـ «قصر المهاجرين» (مقرّ حكمه)، أما انزلاق سورية أكثر فأكثر الى مستنقع التقسيم فلا يشغله، لأن التقسيم حصل في رأسه منذ اندلاع الأزمة.
الحيـــــــاة