باريس تتكتم على تحرك قواتها الخاصة في منبج وطالبت ببقاء القوات الأميركية
تلتزم باريس التعتيم بالنسبة لتحرك قوات الخاصة (كوماندوز) التي نشرتها شمال سوريا. ورغم الأنباء التي تتناقلها الوسائل الإعلامية الأجنبية حول تحريك بعض وحداتها إلى مدينة منبج التي تهدد تركيا باجتياحها بعد أن سيطرت على مدينة عفرين ومنطقتها، فإن السلطات الرسمية أكانت رئاسة الأركان الفرنسية أو قصر الإليزيه، وصولاً إلى وزارتي الدفاع والخارجية، تمتنع عن التعليق أو الإشارة إلى الخطط التي تعمل بوحيها، خصوصاً للتحركات الميدانية التي تنفذها.
ثمة اعتباران، الأول عسكري والآخر سياسي، يدفعان باريس إلى إضفاء السرية على ما تقوم به في الشمال السوري. فمن الناحية العسكرية، ثمة مبدأ معمول به وقوامه أن السلطات لا تتحدث أبداً عن العمليات التي تنفذها القوات الخاصة التي تتبع «قيادة العمليات الخاصة» وهي بدورها جزء من القوة المسماة «Task Force Hydra» العاملة في سوريا والعراق معاً. ولا يعرف الكثير بالضبط، لكن التقديرات المتعارف عليها تشير إلى نحو 200 رجل مع معداتهم. وتعمل هذه القوة في إطار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية والمشكل أساساً ميدانياً من العسكريين الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين. أما الوحدة النرويجية، فقد عادت إلى بلادها منذ أشهر عدة. وتكمن المهمة الأساسية لهذه القوة في سوريا في دعم «قوات سوريا الديمقراطية» وعمادها «وحدات حماية الشعب» الكردية. أما الاعتبار السياسي، فمرده إلى محاولة باريس عدم إثارة تركيا بعد ردود الفعل العنيفة التي صدرت عن أنقرة، بما فيها عن الرئيس رجب طيب إردوغان إزاء تصريحات الوفد الكردي ــ العربي «مدني وعسكري» عقب لقائه الرئيس ماكرون الخميس الماضي، وتأكيده أن باريس سترسل قواتها إلى منبج لحمايتها من عملية عسكرية تركية محتملة.
حقيقة الأمر، أن باريس سعت لاحتواء غضب أنقرة وتهديداتها. لكن التسريبات التي خرجت من قصر الإليزيه تركت الباب شبه مفتوح أمام مساعدة فرنسية إضافية لوحدات حماية الشعب في منبج. وقالت الرئاسة في 30 الشهر الماضي، إن فرنسا «لا تنوي القيام بعملية عسكرية في شمال سوريا بمعزل عن التحالف الدولي ضد (داعش)»، لكنها في الوقت عينه «لا تستبعد إعادة ترتيب قواتها، في إطار التحالف، من أجل تحقيق الأهداف» التي تسعى إليها. من هنا، فإن إعادة انتشار القوة الفرنسية مع القوة الأميركية بما في ذلك في منبج، ينطبق عليه «الاستثناء» الذي تحدثت عنه المصادر الرئاسية وتفصله وسائل الإعلام التركية والروسية في حين تصمت عنه باريس. وبحسب المعلومات التي توافرت لوكالة «الأناضول» التركية، فإن باريس نشرت قواتها الخاصة، إضافة إلى منبج، في خمسة مواقع: عين العرب «كوباني»، عين عيسى، الرقة، معمل الإسمنت التابع لشركة «لافارج»، وأخيراً في جبل ماشتنور. ونقلت وكالة الأنباء الروسية عن صحيفة «يني شفق» التركية، أن باريس نشرت 50 عسكرياً وضابطاً في منبج، وقد وصلوا إليها جواً يوم الجمعة الماضي. وأكد هذه التطورات رزان جيلو، مسؤول الدفاع في المناطق الكردية، الذي نقلت عنه أمس وكالة «كردستان 24 نيوز» تأكيدات مفادها، أن فرنسا نشرت وحدات لها في منبج وتل أبيض أول من أمس.
ما يزيد من أهمية التحرك الفرنسي، أنه يتزامن مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب المفاجئ عزمه على إخراج القوات الأميركية من سوريا «في أسرع وقت»؛ وهو ما أعاد ترمب التأكيد عليه أول من أمس. وأمس، أفاد قصر الإليزيه عن حصول اتصال هاتفي بين ماكرون وترمب بعد اتصال سابق تم قبل أسبوع، وفي الحالتين كان الوضع في الشمال السوري أحد الموضوعات التي جرى بحثها.
تفيد مصادر واسعة الاطلاع في باريس، بأن فرنسا والولايات المتحدة أبلغتا الرئيس إردوغان «رفضهما» خططه في المناطق الكردية، وكلف السفير الفرنسي في أنقرة إبلاغه موقف العاصمتين. وليس سراً أن باريس «تتخوف» من خروج أميركي من سوريا؛ إذ إنها تعتبر أن ورقة الوجود العسكري الأميركي في شرق وشمال سوريا، وتحديداً في مناطق سيطرة وحدات حماية الشعب هي «الورقة الوحيدة» التي يمكن استخدامها جدياً من أجل إحداث نوع من التوازن مع الحضور الروسي ــ الإيراني والتأثير على مستقبل سوريا. وتذكر المصادر الفرنسية بترحيبها بـ«الخطة» التي كشف عنها وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون في خطاب مشهور في مدينة ستانفورد، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وفيه حدد بدقة الأهداف الأميركية، مشدداً على استمرار الحضور العسكري الأميركي لما بعد القضاء على «داعش». وبحسب الإليزيه، فإنه «من المهم جداً» أن الحرب التي بدأتها واشنطن وباريس معاً ضد «داعش يجب أن تستكمل معاً» حتى القضاء نهائياً على «داعش». وفي هذه الرؤية، تلعب «قوات سوريا الديمقراطية» دوراً رئيسياً، وبالتالي فإن الطرفين الأميركي والفرنسي لا يريدان أن تفضي العملية التركية إلى «حرف» تركيز الأكراد عن الحرب ضد «داعش» الذي انكسر، لكن لم يتم القضاء عليه نهائياً.
من هذا المنطلق، فإن إعادة انتشار الوحدات الأميركية والفرنسية في محيط منبج يراد لها أن تكون «رسالة» واضحة لأنقرة لإفهامها أن «منبج غير عفرين». وتستبعد مصادر دبلوماسية في العاصمة الفرنسية أن «تغامر» تركيا بعملية عسكرية ضد منبج مع علمها بوجود قوات أميركية وفرنسية داخلها وفي محيطها. ورغم التوتر الذي تصاعد في الأيام الأخيرة بين باريس وأنقرة، فإن المصادر الفرنسية تؤكد أن الحوار مع تركيا «متواصل».
إذا تأكدت رسمياً المعلومات الخاصة بتعزيز باريس حضورها العسكري في منبج ومنطقتها، فإن هذا يعني أن الرئيس ماكرون عازم على مساعدة الأكراد الذين جاءوا إليه طالبين أن تبر باريس بوعود المساعدة التي أغدقتها عليهم منذ أيام الرئيس هولاند. وفي الأسابيع الأخيرة، تعالت الأصوات التي تندد بـ«الخيانة» الفرنسية والتي تدعو الرئاسة للتحرك باعتبار أن الأكراد ساعدوا فرنسا عندما طلبت منهم ذلك في ملف الإرهاب والجهاديين الفرنسيين وحان الوقت لترد باريس الجميل. لكن ماكرون يجد نفسه مدفوعاً للسير فوق حبل مشدود وعليه في الوقت عينه أن يمد يد العون للأكراد وفي الوقت نفسه تلافي القطيعة مع أنقرة. وما يزيد من صعوباته «الضبابية» التي عادت تغلف الخطط الأميركية وتضارب المعلومات التي تصل إلى باريس بين ترمب المستعجل في الخروج وبين وزارة الدفاع الداعية إلى البقاء في سوريا إلى أجل. ولعل أسوأ سيناريو يمكن أن يواجه باريس هو أن تجد نفسها «وحيدة» في مواجهة المخططات التركية في المناطق الكردية.
الشرق الأوسط