بعد ست سنوات من الثورة السورية: عودة الأحزاب الكُردية السورية إلى العمل السري
حسين جلبي
رغم مرور ستين عاماً على تأسيس أول حزب كُردي في سوريا، تلاه ظهور عشرات الأحزاب الكُردية السورية، إلا أنها لم تنجح في تحقيق أياً من الأهداف التي وضعتها لنفسها، كما لم تقم جميعها سوى بأنشطة محدودة في سبيل تحقيق تلك الأهداف، كان سقفها القيام بمظاهرة واحدة ضد نظام الأسد في دمشق. لقد شهدت السنوات الست التالية للثورة السورية، قيام تلك الأحزاب بافتتاح مكاتب علنية لها في المدن والبلدات الكُردية لكن دون أن تدفع ثمناً لذلك، إذ لم يتخذ معظمها حتى قراراً بالنزول جدياً إلى الشارع للتظاهر، إلا أنها قامت بذلك في وقت متأخر للغاية، عندما تعرضت إلى تهديد وجودي، لتعود بعد ذلك مرغمة إلى عهد العمل السري، خاصةً بعد تعرض مكاتبها لعمليات إقتحام وإغلاق وحرق، وعجزها عن الدفاع عن نفسها والوقوف في وجه ذلك سوى بإصدار البيانات، فقد عادت ثانية ًلإتخاذ البيوت الخاصة، وأقبية بعض الأبنية مقراتٍ للقيام ببعض الأنشطة، مثلما كانت تفعل عند إحياء المناسبات القومية الكُردية. لم تسجل الأحزاب الكُردية السورية في تاريخها الطويل إذاً، انجازاً كبيراً يمكن أن يُسجل لها، من هنا سيعالج هذا البحث السؤال الذي لم تتوضح إجابته بعد: هل كانت حصيلة عمل الأحزاب الكُردية السورية متناسبة مع عمرها، الذي يمتد إلى ستة عقود من الزمن؟ أم أن تلك الأحزاب كانت ضعيفةً، وفوق ذلك كانت التحديات أكبر منها، بحيث أنها لم تستطع لذلك تقديم أي شيئ للقضية الكُردية، وبالمحصلة العودة مرغمةً إلى مواقعها السابقة؟
تأسيس الحزب الديمقراطي الكُردي في سوريا
لقد كان تأسيس الحزب الديمقراطي الكُردي(1) في حزيران 1957 خطوةً متقدمة، توجت مرحلة طويلة من التعبيرات البسيطة عن القومية الكُردية خلال أربعة عقود من تأسيس سوريا، شهدت تأسيس أندية وجمعيات ثقافية كُردية(2)، وكذلك اصدار صحف خلال الانتداب الفرنسي على سوريا، وانفتاحاً امتد إلى العقد التالي لخروج القوات الفرنسية من البلاد، تصدى من خلالها مؤسسو الحزب، و هم نخبة من المثقفين والوجهاء الكُرد لمهام قومية مُلحة، انطلاقاً من تصديهم لمسؤولية تمثيل الكُرد سياسياً.
لقد لفت تأسيس الحزب الديمقراطي الكُردي، في مرحلة شهدت صعود الوعي القومي العربي خصوصاً، رداً على مرحلة طويلة من الانكار الأنظار إلى وجود “مشكلة كُردية” في سوريا، الأمر الذي دفع السلطات إلى اعتقال قيادة الحزب كخطوة أولى، و من ثم البدء بسلسلة من الإجراءات الهادفة إلى صهر الكُرد قومياً أو تهجيرهم إلى خارج البلاد، خاصةً بعد وضع الملازم محمد طلب هلال خطة مكونة من إثنتي عشرة نقطة في عام 1962، صدرت في كتيب بعنوان: “دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الاجتماعية، السياسية”، استند فيها إلى مشاهداته وتجربته في العمل المخابراتي في محافظة الحسكة. كان من المستحيل في مثل تلك الظروف القومية المشحونة ممارسة الكُرد أنشطة سياسية علنية، خاصةً إذا كانت تهدف إلى الحصول إلى الاعتراف بالقومية الكُردية، أو الحصول على حقوق الكُرد في سوريا، الأمر الذي أبقى النشاط السياسي الكُردي سرياً، حيث لم يتم منح ترخيص لأي حزب كُردي، من بين عشرات الأحزاب التي تشكلت على أنقاض الحزب الكُردي الأول، الذي كان قد تعرض إلى انشقاق خلال وجود قيادته في السجن، وبذلك كان المقر الغير معلن للحزب الكُردي هو بيت سكرتيره، المعروف من قبل الجميع والذي يُدار منه الحزب، لكن ذلك المقر كان يتحرك حيثما تحرك السكرتير.
الخروج من نفق العمل السري
لكل ذلك، كان الظهور العلني الوحيد للأحزاب الكُردية في سوريا خلال أكثر من نصف قرن، هو ظهور غير مباشر، تمثل بالفرق الفولكلورية الحزبية، التي تتدرب أشهراً بشكل سري، انتظاراً لعيد نوروز الذي تلقى فيه الكلمات الحماسية، وتقدم فيه العروض المسرحية والدبكات الفلكلورية على خشبات مسارح يجري اقامتها في الطبيعة، عدا ذلك لم تشهد المنطقة قيام حزب كُردي بافتتاح مكتب له، أو رفع لافتة أو راية تخصه، إلا أنه يمكن ذكر “قاعة الدكتور نور الدين زازا في القامشلي، التي افتتحها الحزب الديمقراطي التقدمي الكُردي في سوريا(3) في 15 تموز 2009، في الذكرى الثامنة والخمسين لوفاة رائد الصحافة الكُردية الأمير جلادت بدرخان، وقد حملت القاعة اسم أول رئيس لأول حزب كُردي سوري.
بعد بدء الثورة السورية منتصف آذار 2011، تغيرت قواعد اللعبة في سوريا وانقلبت الأمور فيها كُردياً رأساً على عقب، وذلك انطلاقاً من الساحات التي تشهد إحياء عيد النوروز، فقد فاجأ نظام الأسد المحتفين الكُرد في 21 آذار2011 بإرسال مسؤوليه إلى مواقع الإحتفالات لتهنئتم بالعيد، حيث جلس هؤلاء، جنباً إلى جنب مع مسؤولي الأحزاب الكُردية تحت ظلال العلم الكُردي، كما قام النظام من جهةٍ أُخرى بالانقلاب على نفسه، عندما بث إعلامه فقرات من الاحتفالات بالعيد، حتى أن الأمور وصلت إلى درجة الحديث عن “حصول الكُرد على حقوقهم الثقافية”، الأمر الذي كان يشكل في حقيقته انحناءً من النظام أمام عاصفة الثورة، التي كانت مرشحة للتصاعد.
الأحزاب الكُردية السورية والثورة السورية
بسببٍ من “أقدميتها التاريخية”، اعتبرت الأحزاب الكُردية السورية نفسها البيئة الحاضنة للحراك في المدن والبلدات الكُردية والقائد الحقيقي له، وبالتالي الأحق بالحصول على ثماره. لكن تلك الأحزاب لم تنزل إلى الشارع “لقطف تلك الثمار”، بل اختارت المنابر مكاناً لانتظارها، فحاولت ممارسة القيادة من خلال البيانات، مع مشاركة بعض كوادرها في المظاهرات بصفتهم الشخصية، لذلك كانت بيانات الأحزاب، وبسبب عدم مشاركتها في الإعداد للنشاطات تأتي متأخرة دائماً خطوةً على الأقل عما يجري في الشارع، إلا أنها حاولت رغم ذلك استخدام ذلك الحراك لتهديد النظام به، وتهديده كذلك بالمشاركة فيه. في 24 نيسان 2011، اتخذت “أحزاب الحركة الوطنية الكُردية” مما اسمته “الأعمال الاستفزازية بحق المجموعات الشبابية” مناسبة لتهديد النظام بالمشاركة في الاحتجاج، وهو الموقف ذاته الذي أعلن عنه القيادي في حزب يكيتي الكُردي في سوريا، فؤاد عليكو، عندما قال بعد يوم من البيان السابق(4): “ندين بشدة تصرفات الأجهزة الأمنية، ونؤكد بأننا سوف ندافع عن أنفسنا وشبابنا بكافة الوسائل السلمية، وسيكون لنا تحرك عاجل خلال الأيام القادمة، قد يكون ذلك قبل يوم الجمعة، من خلال تحرك يشمل كافة مناطق التواجد الكوردي”، وهو ما ذهب إليه سكرتير يكيتي السابق اسماعيل حمي، الذي ذكر في 29 نيسان 2011 بأن(5): “المنظمات الشبابية للحركة الوطنية الكُردية في سوريا تشارك بفاعلية في المظاهرات، وأنهم يتحاورون مع الحركة الوطنية الكردية لإصدار بيان للنزول إلى الشارع، إلا أن بعض الأطراف ترى أن الوقت لم يحن بعد للنزول إلى الشارع بشكل رسمي كحركة سياسية وطنية كردية، غير أنهم يؤكدون أنهم سيخرجون في الوقت المناسب”. لكن “أحزاب لجنة التنسيق الكُردية(6)” قررت رسمياً المشاركة في الأعمال الاحتجاجية في بيانٍ أصدرته في 7 حزيران 2011، جاء فيه: “إن الواجب يدعو الجميع للوقوف إلى جانب المحتجين والمتظاهرين في حقوقهم الوطنية المشروعة وعلى امتداد مساحة الوطن السوري، ولذلك فإن أحزاب لجنة التنسيق الكُردية تعلن مشاركتها في الحراك الجماهيري الاحتجاجي السلمي، بغية تحقيق طموحات الجماهير وتطلعاتها نحو غد أفضل، ينعم فيه الجميع بالحرية والمساواة”.
بعد الإعلان عن تأسيس المجلس الوطني الكُردي في منتصف تشرين1 2011، في احتفالية ضخمة جرت في قاعة كُبرى بالقامشلي، أصبح للأحزاب الكُردية، ولأول مرة مقر مؤقت ثابت دام ساعات، ليتبع ذلك تأسيس مجالس محلية للمجلس الوطني الكُردي في المدن والبلدات الكُردية، وتأسيس مقرات للأحزاب الكُردية يتابع الحزبيون فيها ما يحدث في الشارع.
محاولة تحريك المياه الراكدة
أفرزت الثورة السورية ظاهرة جديدة هي التنسيقيات، التي أخذت على عاتقها التحضير للمظاهرات والدعوة لها وتنظيمها. لقد ولدت التنسيقيات الكُردية من رحم الثورة، حيث ظهرت إلى الوجود منذ أيامها الأولى، وأخذت زمام المبادرة من الأحزاب الكُردية وكانت متقدمة عليها في طرحها، إذ اتخذت من الشارع منطلقاً لأنشطتها. فقد عمل الشبان الكُرد على تأسيس التنسيقيات منذ الأيام الأولى للثورة السورية، والتي قامت بالدعوة إلى المظاهرت، وطرح الشعارات المتضامنة مع المدن السورية، والتي تلامس نبض الشارع الكُردي في الوقت ذاته، وتطالب بتحقيق أهداف الشعب الكُردي. لقد كان الشباب الكُردي المستقل هو أول من بادر إلى الدعوة للتظاهر ضد القمع الذي يمارسه نظام الأسد بحق السوريين، وطالب بانهاء عقود القمع والانكار بحق الكُرد، فبعد عدة لقاءات بين مجموعات من المثقفين والنشطاء، تلك المجموعات في تنسيقية أُطلق عليها اسم: “شباب الإنتفاضة الكُرد ـ جوانن سرهلدانة”، وأصدرت بتاريخ 29 آذار 2011 بلاغاً بعنوان: “بلاغ من شباب الانتفاضة”(7)، وجهته إلى: “كافة أطياف الشعب السوري وقواه الديمقراطية”، قال فيه شباب الانتفاضة: “نعلن نحن الشباب الكُردي السوري تضامننا مع إخوتنا المنتفضين في درعا الباسلة واللاذقية وعموم الأماكن الأخرى من البلاد”، ثم أنهوا بلاغهم بدعوة: “الشباب للتظاهر السلمي والحضاري في قامشلي وكوباني وعفرين وحلب ودمشق، وكافة المناطق ذات التواجد السكاني الكُردي في جمعة التلاحم ـ جمعة الشهداء، بعد صلاة الظهر في الأول من نيسان، ونؤكد ثانية على سلمية تظاهراتنا، ونحذر السلطات من مغبة استعمال العنف أو الرصاص الحي أو استعمال العملاء والبلطجية والتفكير بإعادة أحداث السلب والنهب السابقة للمحلات والمتاجر الكُردية “، الأمر الذي لاقى استجابةً في القامشلي وعامودا.
لكن الأحزاب الكُردية، التي لم تدعو إلى المظاهرات ـ كما ذُكر ـ شاركت فيها بعناصر منها بصفتهم الشخصية، ثم أخذت تستهدفها اعتباراً من تأسيس المجلس الوطني الكُردي، الذي دعا بعض التنسيقيات للإنضواء في المجلس كجزء منه، لتدخل هذه في شدٍّ وجذب مع بعضها البعض خلفيته صراع على الشرعية، ومن جهةٍ أُخرى مع الأحزاب الكُردية التي ترى نفسها الأجدر بقيادة المجتمع الكُردي، ومع حزب الاتحاد الديمقراطي الذي لا يرى أحداً غيره، لتصبح بذلك محلاً للاستهداف، وتصاب بداء تلك الأحزاب المتمثل بالإنشقاقات، وهو ما أدى إلى ضعفها، إلى أن جاءت الهجمة الكبيرة من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي عليها، حيث تم إغلاق واحراق عدد من المراكز الثقافية والتعليمية التي كانت تمارس من خلالها انشطة مدنية.
قطع الطريق على الحِراك الكُردي
في الأيام الأولى للثورة السورية، وقبل ترجمة الحراك إلى مظاهرات في المناطق الكُردية، تبارى حزب الاتحاد الديمقراطي، ورئيسه صالح مسلم بشكل لافت للانتباه في إصدار سلسلة من البيانات(8)، لم يكن يفصل بينها أحياناً سوى ساعات للتعليق على ما يجري في البلاد، كان من ذلك إصدار صالح مسلم رئيس حزب البيدا بياناً في 17 آذار 2011، أي بعد يومين من مظاهرات سوق الحميدية، و في اليوم التالي لإعتصام وزارة الداخلية، وقد أعرب في بيانه عن تضامن حزبه مع “المعتقلين وأسرهم، ومع المتظاهرين وكُل حراك جماهيري ديمقراطي”، وطالب السلطة السورية بتغيير ما أسماه “ذهنيتها التسلطية”، ثم أصدر مسلم بياناً آخر في 20 آذار تحت شعار “سوريا ديمقراطية وإدارة ذاتية ديمقراطية للشعب الكُردي”، تلاه إصدار اللجنة التنفيذية لحزبه بياناً بعد ثلاثة أيام، تحدثت فيه عن مداهمة الأمن السوري لجوامع في درعا قائلةً: “إن مداهمة أُناس مدنيين مسالمين في دور العبادة أمر لا يتواكب مع أخلاق المجتمع السوري، وثقافة منطقة الشرق الأوسط ولا الأعراف الدولية، وخاصة أنهم يطالبون بأمور ديمقراطية مشروعة، إلى أن خطى الحزب خطوة كبيرة، متقدماً بها على الأحزاب الكُردية، إذ أنه وبعد أسبوعٍ من خروج المظاهرات في القامشلي وعامودا، أصدر الاتحاد الديمقراطي بياناً في 6 نيسان 2011، قال فيه بإنه سينظم: “يوم غد مسيرة جماهيرية في مدينة قامشلو، وذلك لمطالبة السلطات السورية بإطلاق سراح المعتقلين الكُرد، وجميع معتقلي الرأي والضمير في البلاد، كما وتأتي المسيرة تضامناً مع انتفاضة الشعب السوري في مختلف المدن والمناطق السورية”. لقد ناشد حزب البيدا في ندائه: “جميع الكُردستانيين في قامشلو والمناطق المحيطة بها للمشاركة بكثافة في المسيرة، والتي من المزمع أن تنطلق من دوار العلف”.
لكن هذه الدعوة بسقفها المرتفع، وبكل ما تضمنته من أهداف كبيرة وواضحة، كانت الأولى والأخيرة في هذا الإتجاه. فبعد أن ظن حزب الاتحاد الديمقراطي بأن بياناته القياسية المتتالية قد جعلت منه المرجعيةً الكُردية، وظن بأتها خلقت انطباعاً عنه لدى الجميع، من انه حزب يتبنى أهداف الكُرد وسيدافع عنها، وبعد أن اعتقد بأن دعوته للتظاهر ستكون بمثابة عصا موسى، التي ستنجح في ابتلاع الحراك الثوري، بما فيه من متظاهرين وشعارات، كانت حصيلة دعوته متواضعة للغاية، إذ كانت أعداد المشاركين في مظاهرته تكاد لا تُذكر، مقابل الأعداد الكبيرة التي شاركت في المظاهرة العامة التي دعا إليها ونظمها شباب التسيقيات. لقد فشل ترويج البيدا المكثف لنفسه، ولم تنجح بياناته، بما تضمنتها من أهداف من ملامسة نبض الشارع الكُردي، ولم تدفع بالتالي الشبان الكُرد إلى الإرتماء في أحضانه والإنضواء دون تفكر، تحت الشعارات والرايات الحزبية التي فاجأ الجميع برفعها، مناقضاً دعوته للتظاهر شكلاً ومضموناً.
مخطط الاستفراد بالمنطقة
من أجل التغطية على تواضع أعداد أنصاره، تخلى حزب الاتحاد الديمقراطي مؤقتاً عن مغامرة التظاهر منفرداً، إلا إذا كان ذلك لصرف الأنظار عن المظاهرات الأُخرى والتشويش عليها، فقد انضم أنصاره إلى المظاهرات التي تجري في المدن والبلدات الكُردية، لكن مع العمل على مزاحمة المتظاهرين على الشعارات التي يرفعونها، ومحاولة فرض أهداف وشعارات لا علاقة لها بالثورة السورية، ولا بأهداف الشعب الكُردي في سوريا عليهم، الأمر الذي خلق تذمراً بين الكُرد، وجعل الأصوات ترتفع مستنكرةً رفع الأعلام والرايات الحزبية في المظاهرات، لقد حدثت حالات قام خلالها أنصار البيدا بالوصول إلى مقدمة المظاهرات، خلال تركيز كاميرات البث المباشر للقنوات التلفزيونية عليها، ثم مفاجئة الجميع برفع صور رموزهم وشعارات في محاولة لاعطاء الانطباع بأن المظاهرة تخص الحزب، والمشاركين فيها جميعهم هم من أنصاره.
قبل الوصول إلى هذه المرحلة، كانت خطة حزب الاتحاد الديمقراطي تقوم على خنق التحضيرات للتظاهر في مهدها، و في حال عدم التمكن من ذلك، مهاجمة المتظاهرين بالهراوات لإفراغ الشوارع منهم، تمهيداً للمرحلة الأخيرة المتمثلة بمحاصرة الأحزاب الكُردية في مكاتبها، و من ثم اقتحامها ونهبها وتخريبها وحرقها. في ليلة 8 آب 2011 وقع محمود جاندي أبو والي، مع رفيقه محمد يوسف برو في كمين في بيت جاره المناصر لحزب الاتحاد الديمقراطي، عندما دعاهما الجار للتباحث في مظاهرة الغد، إلا أنه جرى خطفها وضربهما خارج المدينة، وبقيا في حالة مزرية حتى صباح اليوم التالي حيث جرى اسعافهما. لقد جرى اغتيال أبو جاندي(9) بعد عامٍ من ذلك التاريخ، وبذلك اختصرت حياته تعامل البيدا مع الحراك الثوري الكُردي.
بقيت الأحزاب الكُردية السورية محتفظة بهدوئها، تراقب ما يحدث في الشارع الكُردي دون أن تبادر إلى اتخاذ قرار النزول إلى جانب المتظاهرين. لقد كانت مطمئنة إلى رصيدها الوطني، وتراهن على ضعف حزب الاتحاد الديمقراطي وعدم جماهيريته، وعلى أنه يقوم بعزل نفسه من خلال أفعاله، فانكبت بالتالي على ترتيب أوراقها كقيادة للحراك وكمرشحة وحيدة لزعامة المنطقة، مستهينة خلال ذلك بالأخطار التي تتربص بالشارع الكُردي، غير مدركة بأن ذلك الشارع هو خط الدفاع الأول عنها، وبأن انهياره سيؤدي إلى وصول الخطر إلى أبراجها العاجية، حيث تقيم مطمئنة، تراقب منها باستخاف ما يجري.
كانت امكانيات حزب الاتحاد الديمقراطي لا تسمح له في البداية في إفراغ الشوارع من المتظاهرين، لذلك حدث تعاون بينه وبين المخابرات السورية، التي قدت له العون المباشر أو سكتت على ما يمارسه من عنف. في عفرين، تجمع آلاف الكُرد أمام المصرف الزراعي بالمدينة، للتظاهر في يوم الجمعة 3 شباط 2012، إحياءً لذكرى مجزرة حماة التي ارتكبها نظام الأسد الأب في عام 1982، تفاجأ الجمع الذي كان يرفع علم كُردستان، الذي يرمز إلى الكُرد وعلم الاستقلال الذي يرمز إلى الثورة السورية، واللافتات المطالبة بإسقاط النظام وبالإعتراف الدستوري بحقوق الشعب الكُردي في سوريا، تفاجأ هؤلاء بوجود المئات من الملثمين الذين كانوا يحملون العصي والهراوات والسكاكين والشنتيانات، ويرفعون أعلام حزب الاتحاد الديمقراطي وصور زعيم حزب العمال الكُردستاني عبدالله اوجلان، وهم يطلبون منهم باللغة الكُردية فض التجمع، ويهددونهم باستعمال السلاح في حال عدم الإنصياع، بعد قليل بادر الملثمون وبشكل مفاجئ بالهجوم على المتظاهرين، على مرأى ومسمع عناصر المخابرات التابعين للنظام السوري، والذين كان بعضهم يعتلي سطح مبنى المصرف الزراعي. بادر الملثمون إلى ضرب المتظاهرين بما يحملونه من عصي وهراوات، وقاموا بطعن البعض بالسكاكين، في حين أخذ عناصر الأمن يعتقلون العشرات من المشاركين.
في جمعة تظاهر أُطلق عليها اسم “‘إخلاصنا خلاصنا”، حدث تصعيد كبير أمام جامع قاسمو في 4 أيار 2012، فبعد أن بدأ الناس بالتجمع بأعداد كبيرة أمامه كالعادة، وبعد الانتهاء من الصلاة التي كانت إيذاناً بانطلاق التظاهرة، وعندما همّ المصلون بالخروج للانضمام إلى الجموع الغفيرة أمامه، فوجئوا ببعض الشبان المنتمين إلى حزب الاتحاد الديمقراطي، وقد دخلوا إلى حرم الجامع وهجموا عليهم لمنعهم من الخروج، مما اضطروا للعودة إلى الجامع مرة أُخرى. لم يكتفِ المعتدون بذلك، بل هاجموا مع زملاء لهم المتظاهرين في الخارج، واعتدوا على بعضهم بالضرب، وأحرقوا علم كُردستان وأعلام الثورة التي كانوا يحملونها، ومزقوا وأحرقوا صور الشهداء واللافتات التي كان الجمع يرفعها وحطموا الأجهزة الصوتية، محاولين خلال ذلك إرغام الموجودين على ترديد الشعارات التي كان حزب البيدا يرفعها ويرددها، وهكذا انفض التجمع على تلك الحال قبيل انطلاقة التظاهرة.
تطور الأمر إلى أسوأ من ذلك بكثير في 9 تشرين2 2012 في كوباني، فعندما اقتربت تظاهرة المدينة من خط النهاية في ذلك اليوم، تفاجأ المتظاهرون بأنصار حزب الاتحاد الديمقراطي الحاملين السكاكين والهراوات وقد اعترضوا طريقها، بدأ هؤلاء بتوجيه الإهانات للمتظاهرين وتخوينهم، ثم طالبوهم بإنزال علم الثورة، كما رددوا الشعارات المنددة بالجيش الحر. لقد أدى ذلك إلى حدوث تصادم بين الطرفين، تدخل بنتيجته مسلحي البيدا وأطلقوا الرصاص الحي وبشكل عشوائي على المتظاهرين، وهو ما أدى إلى إصابة ستة أشخاص بجراح، تم نقلهم إلى مشافي كوباني، باستثناء الشاب ولات محمد صالح محو الملقب بـ”ولات حسي”، الذي أُسعف إلى تركيا لخطورة وضعه، حيث قُتل في مشفى هناك.
فتح وإغلاق المكاتب الحزبية
كان من انعكاسات الثورة السورية على المناطق الكُردية، قيام الأحزاب بافتتاح مكاتب لها في المدن والبلدات الكُردية، وذلك بعد عقود من الحرمان، كان الحزب الكُردي يتوارى خلالها خلف فرقه الفلكلورية، وخلف النشاطات العامة التي تحدث في عيد نوروز بشكل خاص. بعد أن قام حزب الاتحاد الديمقراطي بالسيطرة على شوارع المدن والبلدات الكُردية، بحيث انعقد الأمر في النهاية لأنصاره فيها، خاصةً بعد مطالبته كل من يرغب بالتظاهر الحصول أولاً على ترخيص منه، انتقل البيدا إلى مزاحمة الأحزاب الكُردية في المكاتب التي افتتحتها لنفسها، والتي كانت المظهر العلني الذي يدل على وجودها، هذا مع عدم تنفيذ عدد من الاتفاقات التكتيكية التي جمعته مع تلك الأحزاب، ووقع عليها معها في إقليم كُردستان(10)، وكانت تشكل اعترافاً من قبل البيدا بها.
كان مسلحي البيدا(11) يقتحمون مكاتب الأحزاب الكُردية بحجة رفعها علم الثورة “علم الاستقلال” في البداية، معتبراً إياه علم جبهة النصرة والكتائب الإرهابية، بعد ذلك أخذ يستهدف تلك المكاتب بسبب رفعها العلم القومي الكُردي، والذي قال عنه بأنه علم جنوبي كُردستان “إقليم كُردستان العراق” وأحياناً علم الحزب الديمقراطي الكُردستاني، الذي يعتبر أقدم وأكبر الأحزاب في إقليم كُردستان. في مرحلة تالية أخذ الحزب يقوم بإنزال اللوحات الاسمية للأحزاب الكُردية المعلقة على جدران المكاتب الحزبية وعلى أسطحتها، بحجة أن الأحزاب المعنية غير معترفة بها، وغير حاصلة على الترخيص من قبل “الإدارة الذاتية الديمقراطية” المعلنة من قبله. أخيراً أخرج البيدا كل ما في جعبته دفعة واحدة، إذ لم يسلم مكتب لحزب كُردي سوري، رفض الخضوع له من حريق متعمد أقدم عليه “مجهولون” تحت جنح الظلام. لقد وصل الأمر بحزب الاتحاد الديمقراطي إلى حد ملاحقة الأحزاب الكُردية حتى خلال الاجتماعات الصغيرة التي تعقدها فرقها الحزبية في البيوت الخاصة.
كان الحزب الديمقراطي الكُردي في سوريا “البارتي” ينظم احتفالاً في منتصف حزيران 2013 أمام مكتبه الذي افتتحه في عفرين، بمناسبة الذكرى الخامسة والستين لتأسيس أول حزب كُردي في سوريا(12)، تفاجأ رفاق الحزب والجماهير المحتفلة بمجموعة يصل تعدادها إلى حوالي المائة شخص وهم يحملون شعارات “شبيبة الثورة ـ جوانين شورشكر” ويرفعون صور زعيم حزب العمال الكُردستاني عبد الله اوجلان، ويحملون في الوقت ذاته العصي والسكاكين، وهم يحاولون اقتحام منصة الاحتفال، ويطلبون من المتواجدين في المكان الهتاف لاوجلان ووحدات حماية الشعب، وعندما فشلوا في فرض اجندتهم، طالبوا بإنهاء الاحتفال، وهجموا على الجمع لتفريقه، أصدر حزب البارتي بياناً بالواقعة بعد انتهائها، تحدث فيه عن أن حزب البيدا نفسه كان مدعواً لحضور تلك الفعالية كضيف، ولكنه رفض الحضور ولجأ إلى نصب حواجز مسلحة على الطرق المؤدية إلى مقره، حيث اعتقل عناصره رفاق البارتي خلال توجههم إلى مكان الحفل.
تدحرجت الاعتداءات على مكاتب الأحزاب الكُردية مثل كُرة النار، وذلك بحجة رفعها علم الثورة، ففي الدرباسية، وفي الوقت الذي كانت المدينة تشهد اشتباكات بين الجيش الحُر وقوات النظام السوري، قامت مجموعة مسلحة تابعة لحزب البيدا باقتحام مقر حزب يكيتي الكُردي في سوريا في 8 تشرين2 20122، الذي كان ينضوي معه تحت مظلة الهيئة الكُردية العليا، وقد قام المهاجمون بانزال علم الثورة المعلق على سطح المقر. اعتبر حزب يكيتي العملية تتنافى مع “أبسط قواعد التفاهم المشترك، وتصعيداً لا مبرر له، وخرقاً فاضحاً لاتفاقية هولير، التي تتضمن التزام الهيئة الكُردية العليا بأهداف الثورة السورية “. بعد حوالي شهرين من ذلك، و في بداية عام 2013 تعرض المكتب نفسه لاعتداء مسلح، حيث تمت محاصرته من قبل مسلحي البيدا، وراح هؤلاء يطلقون النار في الهواء بشكل استفزازي، ويهددون باقتحامه.
دخلت المنطقة، بعد عددٍ من الاقتحامات المسلحة العلنية لمكاتب الأحزاب الكُردية، إلى مرحلة تعرضها لحرائق متعمدة “مجهولة” خاصة في الليل، لم تسلم مقار المؤسسات المستقلة التي أسسها نشطاء المجتمع المدني من عمليات الحرق الممنهج تلك. بدأت المحرقة الكُبرى لمكاتب الأحزاب والمنظمات الكُردية المستقلة ليلة ارتكاب حزب الاتحاد الديمقراطي مجزرة عامودا، والتي راح ضحيتها ستة من الكُرد، بالإضافة إلى عشرات المعتقلين والمحتجزين والمختفين عن الأنظار، والهاربين من الملاحقة إلى خارج البلاد. لقد أمعن البيدا في حرق مكاتب الأحزاب، بشكل علني ـ استعراضي أحياناً، ففي فجر يوم 28 حزيران 2015 هاجمت مجموعتان مسلحتان تابعتان له مكتبين للحزب الديمقراطي الكُردي في سوريا “البارتي” في القامشلي، يقعان في الحيين الشرقي والغربي من المدينة، أقدمت المجموعتين المسلحتين على اضرام النيران في المكتبين، وأحرقتهما وسط ذهول المواطنين الذين حاولوا التدخل لإطفاء النيران المشتعلة، لكن المسلحين أقدموا على اطلاق الرصاص لارهابهم وثنيهم عن ذلك، فأتت الحرائق على محتوياتهما.
تتالت اعتداءات “المجهولين” على الأحزاب الكُردية السورية، في 21 كانون2 2014، أقدم هؤلاء على إطلاق النار على مكتب حزب “البارتي” في مدينة ديرك. أما في كوباني فقد أقدم المجهولون أنفسهم على تمزيق العلم الكُردي وعلم الثورة السورية المرفوعين على سطح مكتب “البارتي” وإحراقهما، بالإضافة إلى كتابة شتائم على الجدران، متهمين من خلالها أعضاء الحزب بالخيانة. في عامودا أقدم المجهولون على إضرام النار في مكتب الحزب الديمقراطي التقدمي في سوريا، بعد تصريحات أدلى بها قادته، انتقدوا من خلالها حزب البيدا، رغم كون الحزب المستهدف من المقربين منه.
شرعنة ملاحقة الاحزاب الكردية
استمر حزب الاتحاد الديمقراطي في معاملة الأحزاب الكُردية بطريقة الاعتداءات العشوائية، إلى أن أصدرت الإدارة الذاتية الديمقراطية المعلنة من قبله “قانون الأحزاب السياسية في كانتونات الجزيرة ـ كوباني ـ عفرين”(13) في 177 نيسان 20144 في عامودا، والذي طالب الأحزاب الكُردية بالتقدم بطلبات ترخيص إلى “لجنة شؤون الأحزاب السياسية” المكونة من مسؤولين في إدارة الحزب، مشترطاً “عدم تعارض مبادئ الحزب المعني أو أهدافه أو برامجه أو سياساته أو أساليب ممارسة نشاطه مع المبادئ الأساسية للعقد الاجتماعي أو مقتضيات حماية الأمن، وعدم انطواء وسائل الحزب على إقامة تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية”، هذه الشروط التي من شأنها جعل كل الأحزاب، في حالة الإلتزام بها نسخةً من حزب البيدا أو على الأقل تابعة له، بإعتبار العقد الاجتماعي، الذي يدعو القانون المذكور إلى عدم تعارض برامج الأحزاب معه هو من منتجاته أصلاً، ويراعي مصالحه قبل أي شيء آخر، كما أنه يعطي أفضلية للبيدا في الشؤون العسكرية، من خلال وجود قوات حماية الشعب والآسايش، وغيرهما من التشكيلات العسكرية والأمنية التي ترتبط به ايديولوجياً، وتعتبر جزءاً من منظومته، مقابل منع الأحزاب الأُخرى من امتلاك مثل تلك القوة.
لكن الأحزاب الكُردية الأساسية، والتي لطالما تعرض أعضاؤها للملاحقة من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي، ومكاتبها للاقتحامات والحرائق من قبل مسلحيه ومجهوليه رفضت التقدم بطلبات للحصول على تراخيص، لأنها لا تعترف أصلاً بالإدارة الذاتية الديمقراطية التي فرضها الحزب من طرف واحد بقوة السلاح، في حين تقدمت أحزاب صغيرة، تدور في فلك البيدا بطلبات ترخيص، وقد سارعت الإدارة إلى منحهم تراخيصاً، لإحاطة نفسها بحزام من الأحزاب الشكلية، والتي بدأت تحصل على دعم مالي بعد ذلك. وهكذا بدأ البيدا بملاحقة الأحزاب التي لم تعترف به وبإدارته، وبإغلاق مكاتبها ومنع نشاطاتها واجتماعاتها في كل مكان، في الشوارع العامة، في المكاتب وحتى في البيوت الخاصة، مستنداً إلى وجود “قانون” كتبه على مقاسه، ينص على المعاقبة بالسجن والغرامة لكل من أسس حزباً مخالفاً لقانون الأحزاب، كما طالت العقوبة كل من انضم إلى مثل ذلك الحزب، كان الخطف والحجز والاخفاء والضرب أهم وجوهها.
بينما كان الحزب الديمقراطي الكُردستاني ـ سوريا يتهيأ للاحتفال بالذكرى السنوية السابعة والخمسين لتأسيس أول حزب قومي كُردي في سوريا، وهو الحزب الذي تعتبر كل الأحزاب الكُردية السورية نفسها امتداداً له، قامت قوات الآسايش التابعة لحزب البيدا بمحاصرة مكتب الحزب في كوباني في 14 حزيران 2014، ونزعت اللافتة الموجودة على مدخله، بذريعة أن الحزب غير مرخص وممنوع من ممارسة النشاط السياسي. في بلدة سريه كانية قام عناصر الآسايش بمحاصرة مكتب حزب الوحدة الديمقراطي الكُردي في سوريا “يكيتي” بتاريخ 25 حزيران 2014 مستخدمين حوالي عشرين سيارة نقلتهم إلى المكتب، وطالبوا بإلغاء فعالية مقررة للتنديد بالحزام العربي، الذي نفذته حكومات سورية متعاقبة، وهدفت من ورائه إلى تعريب الشريط الحدودي السوري ـ التركي والسوري ـ العراقي الذي يشكل الكُرد معظم ساكنيه، حيث تذرعت الآسايش بعدم توفر ترخيص لتلك الفعالية. في 2 أيلول 2015 قام عناصر من الآسايش بإطلاق النار أمام مكتب حزب يكيتي الكُردي في سوريا في بلدة كركيلكي، وذلك في معرض طلبهم ترخيص المكتب من كوادر الحزب المتواجدين هناك، بعد شهرين من ذلك، في 28 تشرين1 2015 قامت قوات الآسايش بمحاصرة مكتب حزب يكيتي في بلدة تل تمر، وقام عناصرها بإجبار المتواجدين فيه على إخلائه، كما أمهلوا الحزب أربعاً وعشرين ساعة لإغلاق المكتب نهائياً بسبب عدم وجود ترخيص للحزب.
بعد فشل حزب الاتحاد الديمقراطي في دفع الأحزاب الكُردية إلى الإعتراف بإدارته رغم كل ما فعله بها، وبالتالي بعد فشله في إرغامها على التقدم إلى تلك الإدارة بطلبات ترخيص، عاد مجهولي البيدا إلى سابق عهدهم، في العمل تحت جنح الظلام على اقتحام المكاتب وحرقها، هذا إلى جانب متابعة آسايش الحزب عملها الدؤوب نهاراً في التضييق على الأحزاب والاعتداء على مكاتبها وكوادرها وأعضائها، إلى أن وصل الأمر بالبيدا إلى إرسال أنصاره تحت عناوين مختلفة إلى مكاتب الأحزاب للهتاف ضدها، وكتابة الشتائم وعبارات التخوين بحق قياداتها(14). في 10 نيسان 2015 حاولت مجموعة من أنصار البيدا اقتحام مكتب المجلس الوطني الكُردي في الدرباسية، لكن رفاق الحزب المتواجدين في المكتب منعوهم، فقام المهاجمون بإلقاء زجاجة مولوتوف على المبنى وأزالوا العلم الكُردي الذي كان مرفوعاً عليه، بالإضافة إلى كتابة كلمة “خونة” على جدرانه. بعد اسبوعين من ذلك، أقدمت قوات الآسايش على إغلاق مكتبي حزبي يكيتي والديمقراطي الكُردستاني في بلدة تل تمر بحجة عدم وجود رخصة عمل. أما المجهولون فقد عادوا ثانية إلى عملهم في حرق المكاتب الحزبية باستعمال وسائل جديدة أحياناً، فقد رصدت كاميرا موضوعة في مكان قريب من مقر الحزب الديمقراطي الكُردستاني ـ سوريا في مدينة كركيلكي، فتاةً ترتدي زياً عسكرياً، مثل ذلك الذي يرتديه عناصر الآسايش وهي تقوم بزرع مادة قابلة للانفجار قرب الباب الرئيسي للمقر في نهاية تموز 2016 ، حيث أشعلتها قبل أن تنصرف، فأدى انفجارها إلى تدمير مدخل المكتب وإتلاف أجزاء من أثاثه. بعد عشرة أيام من الحادث، تجمع المئات من أعضاء البيدا، بتحريضٍ من قوات الآسايش وأمام أنظار عناصرها، وقد كانت غالبيتهم من النساء والأطفال أمام مكتب الحزب الديمقراطي الكُردستاني ـ سوريا وحزب يكيتي الكُردي في القامشلي، حيث عمد هؤلاء إلى شتم قيادات الحزبين المذكورين وأعضائهما ووصفوهم بالخونة، ثم هاجموا المكاتب الحزبية واقتحموها وكتبوا على جدرانها شتائم وإتهاماتٍ بالخيانة بحق قيادات في الحزبين بشكل خاص، وبحق قيادة إقليم كُردستان، إضافةً إلى إنزال الأعلام الكُردية الموجودة.
انتهاء ظاهرة المكاتب الحزبية الكُردية
في الثالث من آذار 2017 أطلق كنعان بركات “وزير الداخلية في مقاطعة الجزيرة” رصاصة الرحمة على مكاتب الأحزاب الكُردية السورية، عندما أمهلها 24 ساعة لطلب الترخيص(15) من “الإدارة الذاتية الديمقراطية” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، تحت طائلة إغلاق مقراتها في حال عدم الإلتزام بقرار الترخيص، بالإضافة إلى إحالة مسؤولي المقرات إلى “محكمة الشعب” التابعة للبيدا، كان كلام كنعان بمثابة شرارة المحرقة الكُبرى التي أصابت المكاتب الحزبية، إذ لم تمضي ساعات قليلة على إعلانه، حتى بدأت حملة حرائق شاملة طالت مكاتب الأحزاب الكُردية والمجلس الوطني الكُردي في جميع المدن والبلدات الكُردية، نفذتها بشكل خاص وحدات شبيبة الثورة “جوانن شورشكر” التابعة للبيدا، تلا ذلك قيام الآسايش التابعة للحزب بإغلاق أبواب المقرات المحترقة بالشمع الأحمر، ولتعود وحدات الحزب بعد ذلك إلى حرق المقرات التي سهت عنها أول مرة، ليصبح مجموع المقرات المغلقة المحترقة 45 مقراً(16)، ولتعود الأحزاب الكُردية بذلك إلى المربع الأول، إلى مرحلة ما قبل الثورة السورية، عندما لم تكن تمتلك أي مقر حزبي علني في البلاد، لكن لتمارس أنشطتها على مواقع الانترنت وصفحات التواصل الاجتماعي، بدلاً من البيوت كما كانت تفعل قبل الثورة.
بيانات في مواجهة الحرق والرصاص
مع رفضها الاعتراف بإدارة حزب البيدا، وبالتالي عدم تقدمها للحصول على تراخيص منها لمزاولة انشطتها، واجهت الأحزاب الكُردية السورية الاعتداءات التي تعرضت لها خلال مظاهراتها، وكذلك الاعتداءات التي تعرضت لها مكاتبها، وعمليات خطف واحتجاز كوادرها بالبيانات الانترنيتية. لقد أصبح البيان الحزبي وبعض الأنشطة المتواضعة في أوربا، هي التعبير الوحيد عن وجود أحزاب كُردية في سوريا، إذ توقفت نشاطاتها نهائياً في المنطقة اعتباراً من آذار 2017، حيث بقيت مكاتبها مغلقة، ولم تقم بتنفيذ تهديداتها بإعادة تأهيل تلك المكاتب وافتتاحها من جديد إلا مرةً واحدة، عندما أعاد المجلس الوطني الكُردي فتح مكتبه الشرقي في القامشلي بتاريخ 17 نيسان 2017، في اختبار لم يكتب له النجاح، فقد عادت الآسايش وأغلقت المكتب في اليوم التالي، واعتقلت فوق ذلك المسؤول عنه، الأمر الذي تفاعل معه المجلس بإصدار بيان إدانة جديد(17).
خلاصة
لقد عادت الأحزاب الكُردية السورية إلى المربع الأول، إلى عهد ما قبل الثورة السورية عندما لم تكن تمتلك مقراً علنياً، إلا أن المسؤول المباشر عن الأمر هذه المرة لم يكن النظام السوري بل حزب الاتحاد الديمقراطي، هذا بالإضافة إلى مسؤوليتها كجهة، أو جهات لم تستفد من الفرصة السانحة للبدء في تنفيذ مشروعها السياسي، الذي استفاد من زخم الثورة ولم يسر معه، إضافة إلى تهاونها مع الأخطار التي لاحت في وقت مبكر من الثورة السورية.
لقد خسرت الأحزاب الكُردية الشارع الكُردي عندما تعاملت معه بفوقية منذ البداية، وعندما حاولت إعادة الديناميكية للحراك، كان الوقت قد فات، بسبب الهجرة الواسعة من المنطقة، وتغير أولويات المواطنين بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية السيئة التي أخذت تتحكم بحياتهم.
(1) نشأة الحزب الديمقراطي الكُردي، كارزان ياسين ـ مدارات كُرد
(2) من ذلك تاسيس جمعية خويبون ذات الطابع السياسي الثقافي عام 1927 وجمعية التعاون ومساعدة الفقراء في الحسكة 1932، مجلة هاوار في عام 1931 في دمشق، جمعية هيفي “الأمل” في دمشق 19377، نادي كُردستان 1938 في حي الأكراد بدمشق، ومجلة روناهي الأسبوعية الأدبية الثقافية عام 1942 في دمشق ـ مدارات كُرد ـ المرجع السابق
(3) موقع ولاتي مة: برعاية الأستاذ عبد الحميد درويش افتتاح قاعة الدكتور نور الدين زازا في القامشلي
(4) موقع سوبارو: فؤاد عليكو: سيكون لنا تحرك عاجل خلال الأيام القادمة يشمل كافة مناطق التواجد الكوردي. 25 نيسان 20111.
(5) وكالة أنباء ناوخو: إن الذي يحصل في درعا لن يخيف الشعب، بعض الأطراف الكردية ترى أن الوقت لم يحن بعد للنزول إلى الشارع. 30 نيسان 20111.
(6) أحزاب لجنة التنسيق الكُردية: حزب يكيتي الكُردي في سوريا، حزب آزادي الكردي في سوريا وتيار المستقبل الكُردي في سوريا.
(7) موقع كوردستانا بنختي: بلاغ من شباب الانتفاضة :إلى كافة أطياف الشعب السوري وقواه الديمقراطية
(8) موقع حزب الاتحاد الديمقراطي
(9) موقع كميا كوردا
(10) موقع الحزب الديمقراطي الكُردستاني ورئاسة إقليم كُردستان. الاتفاقيات التي رعتها حكومة إقليم كُردستان: وثيقة هولير، أوائل حزيران 2012، اتفاقية هولير الأولى 11 تموز 2012، اتفاقية هولير الثانية 4 كانون2 20144 واتفاقية دهوك 14 تشرين1 2014.
(11) البيدا: حزب الاتحاد الديمقراطي
(12) توضيح أصدرته منظمة عفرين للحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا “البارتي” بتاريخ 15 حزيران 2013.
(13) موقع المجلس التشريعي لمقاطعة الجزيرة
(14) الوقائع مأخوذة من بيانات للمجلس الوطني الكُردي، الحزب الديمقراطي الكُردستاني ـ سوريا وحزب يكيتي الكُردي في سوريا
(15) الصفحة الرسمية لهيئة الداخلية في مقاطعة الجزيرة
(16) روداو: الإدارة الذاتية تغلق 45 مقراً للأحزاب السياسية في كوردستان سوريا
(17) بيان للأمانة العامة للمجلس الوطني الكُردي: ممارسات PYD تتنافى مع أبسط قواعد الديمقراطية والقيم الإنسانية المتعارفة عليها دولياً ـ موقع يكيتي ميديا