آراء

بين إدلب وشرق الفرات.. معركة أم صفقة؟

العميد الركن أحمد رحال

في مسرح أعمالٍ محدود نسبياً يكتظّ بخمسة جيوش أجنبية منخرطة بالشأن السوري (الولايات المتحدة الأمريكية, روسيا, تركيا, إيران, وإسرائيل), لم تعد المعارك كما كانت سابقاً تُحسب وتُقاس بعدد السيوف والخيول والمتاريس وتعداد النبال, ولا بتعداد المقاتلين وحجم ونوع وتطور الدبابات والمدفعية والغطاء الجوي, وإلا ما كان أقلّ من ألف مقاتل أمريكي يسيطرون ويمنعون أي تقدمٍ للجيش الروسي وجيش الأسد والحرس الثوري الإيراني من العبور نحو الجزيرة السورية (شرق الفرات), بل ويفرضون حظراً جوياً على عمل كافة الطائرات التي لا تتبع للولايات المتحدة الأمريكية أو التحالف الدولي, لأنّ معايير التقييم اليوم باتت تُطرَح من منظار المصالح المشتركة والتحصينات السياسية والعسكرية لمناطق نفوذ كل دولة, وتستند بصرامةٍ لقواعد اشتباك وخطوط ساخنة لا يمكن لأحد الأطراف ،مهما تعاظمت قوته اجتيازها وخرقها ،وإلا وضع نفسه بمأزقٍ لا يُحسد عليه, ونذكر عملية إسقاط الطائرة الروسية من قبل الطيران التركي عام 2015 وما ترتّب عليها من استعصاءات وعقوبات تطلّب من تركيا دفع أثمان سياسية واقتصادية باهظة مع الكثير من الجهد الدبلوماسي لتجاوزها.

مما لا شكّ فيه أنّ تركيا مع حلفائها بالجيش الوطني تعرّّضت خلال الأشهر الأخيرة لضغوط محرجة بعد عمليات تفخيخ وتفجير نُفّذت بمدن (المحرر) وقصف لأكثر من مرةٍ طال مشفى عفرين ومواقع أخرى, واستهداف لدوريات وأرتال عسكرية تركية, حتى أنّ بعض القذائف الصاروخية والمدفعية سقطت داخل الأراضي التركية في بلدة “قرقميش” (11/10/2021).

وبالعودة للتعهدات الأمريكية والروسية لأنقرة (اتفاق سوتشي بين الروس والأتراك) والتي ألزمت واشنطن وموسكو معاً بانسحاب قوات سوريا الديمقراطية لمسافة 30كم على الأقل عن الحدود التركية لمسافةٍ تمتدّ من منطقة عين العرب (كوباني) حتى أقصى الشمال الشرقي السوري في “عامودا”, يلي ذلك انسحاب “قسد” من مدينة “منبج” مقابل وقف تركيا لعملية “نبع السلام” التي أطلقتها أنقرة بالتعاون مع بعض فصائل الجيش الوطني في الشهر العاشر (أكتوبر) من عام 2019.

اليوم يرتفع الصوت التركي مطالباً بتنفيذ تلك التعهدات مقابل وقف عمل عسكري جديد ،هدّدت به القيادات التركية بدءاً برأس الهرم السياسي الرئيس رجب طيب أردوغان انتقالاً لوزير الخارجية جاويش أوغلو وصولاً لوزير الدفاع خلوصي أكار ، وردّد تلك التهديدات قادة الجيش الوطني, رغم أنّ قادة الفصائل لا يعلمون وقت وساحة المعركة, ولا معرفة لهم بمَن قد يشترك بالمعركة ومَن قد يتمّ إبعاده, إن كانت هناك معركة.

إذاً, المعارك اليوم في ظلّ تلبّد السماء والأرض السورية بكلّ تلك الجيوش وطائراتها ودباباتها ووسائط استطلاعها ومراقبتها, تحتاج لتنسيق وتفاهمات وموافقات من الواضح أنها لم تَعطَ لأحد وخاصةً لأنقرة.

الجانب الروسي عمل جاهداً بالضغط على أنقرة وسكان وفصائل جبل الزاوية منذ قرابة الـ4 أشهر, عبر غارات جوية روسية شبه يومية وعبر قصف مدفعي وصاروخي (أسدي وإيراني) طال كلّ أرياف إدلب الجنوبية، وتسبّب بالكثير من المجازر كان آخرها قتل أطفال مدينة “أريحا” ومعلمّيهم صباحاً وهم يتحضّرون للوصول إلى مدارسهم, بغاية إجبار الضامن التركي على سحب نقاطه العسكرية المنتشرة على سياج إدلب نحو الخلف وتسليم الطريق “إم فور” لنظام الأسد وروسيا تحت عنوان: إدخال مؤسسات الدولة وقوى الأمن الداخلي ومؤسسات الخدمات وبرعاية الشرطة العسكرية الروسية وبمراقبة تركية, لكنّ التجارب السابقة مع الروس بهذا السيناريو أثبتت أنها مناورة ، وأنّ كلّ المناطق التي سٌلّمت بهذا الشكل في أرياف حمص وحماه والقلمون وآخرها درعا؛ كانت نهايتها الخضوع لاستخبارات وجيش الأسد وهي مصالحات كاذبة.

الرفض التركي لتسليم الروس جبل الزاوية وطريق إم فور ترافقَ مع تحدٍّ تركيٍ بالإعلان عن عمليةٍ عسكرية جديدة حُددت لها (4) مسارح عسكرية محتملة (منغ وتل رفعت, منبج, عين العرب وعين عيسى, شرق رأس العين), ومع بدء التهديدات على لسان القادة السياسيين والعسكريين الأتراك بدأت رسائل موسكو الدموية تتقاطر بضغطٍ سياسي على أنقرة وعسكريٍ على فصائل الجيش الوطني ومنهجيةٍ قاتلة على المدنيين, بدأت من قصف قريتي “براد وباسوطة” برسالةٍ مغزاها أنه حتى  مناطق “غصن الزيتون” و “نبع الفرات” لن تكون محصّنة من ضرباتنا الجوية, ثم قصف بلدة “سرمدا” برسالةٍ روسية لأنقرة تغمز بالقول إنه حتى الحدود التركية والمخيمات لن تكون بمأمن عن عملنا العسكري, ثم جاءت رسالة “القامشلي” الموجّهة لأنقرة، والتي أكّدت نية موسكو نشر سرب طائرات مقاتلة من نوع Su-35 في مطار القامشلي (وصلت منه طائرة واحدة), مع نشر 12 حوّامة طراز Mi-8  وخمس حوّامات من طراز Ka 52 في مطار “ميتراس/Metras” بجوار بلدة “صرين” القريبة من عين العرب (كوباني)، وسيلحق بذلك نشر 12 قاذفة Su-34 وخمس طائرات Su-35 متعددة الأغراض في مطار القامشلي”, وكلّ تلك الرسائل تُختصَر بجملةٍ روسية واحدة: لا ضوء أخضر روسياً لأيّ معركةٍ تركية في أرياف حلب أو شرق الفرات.

اللقاء الذي جمع الرئيسين “أردوغان وبايدن” قد يكون هناك من عوّل عليه بمصالحةٍ بعد خلافٍ سياسي كبير بين أنقرة وواشنطن على خلفية صفقة الإس_400 التي عقدها الأتراك مع الروس, وإخراج تركيا من عقد تصنيع واستلام 100 طائرة إف35 وخلافات كثيرة أخرى, صحيح أنّ اللقاء عٌُقد مؤخراً على هامش قمة العشرين لكنّ الواضح أنّ أيّ انفراجةٍ لم تتحقّق ،وأنّ ما يخصّ الوضع السوري والعملية العسكرية التركية قد لاقى رفضاً قطعياً من الرئيس الأمريكي “بايدن” وفق ما نقله المتحدث باسم البنتاغون، جون كيربي وأكّده المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا جيمس جيفري، أنّ الرئيس الأمريكي جو بايدن لم يمنح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضوءاً أخضر لشنّ هجومٍ جديد على شمال وشرق سوريا، وأوضحا أنّ واشنطن لن تتخلّى عن الشراكة مع “قسد”.

لكنّ هناك مَن طرح سيناريو آخر وصفقة بين أنقرة وموسكو, وجاء ذلك على لسان الدكتور “سربست نبي” أستاذ الفلسفة بجامعة “كوية” الذي أكّد بلقاءٍ على قناة “الحدث” (أنّ هناك خفايا غير معلومة لتلك الحرب تختفي خلف الضجيج الإعلامي لهذا الموضوع, ووصفها بالحرب النفسية التي تمارسها روسيا على قوات “قسد” من خلال تعظيم الخطر التركي عليها لابتزازها ودفعها نحو حضن نظام الأسد كخيارٍ وحيد, مع مقايضة وصفقة بين الرئيسين “بوتين وأردوغان” تقضي بسيطرة الروس ونظام الأسد على جبل الزاوية وصولاً للطريق “إم فور” مقابل توغلٍ تركي محدود في شرق الفرات, ولاحقاً يتمّ إبعاد “قسد” عن الحدود التركية السورية بمناطق شرق الفرات لمسافة 30كم، ومن ثم تسليم كامل الحدود في مناطق شرق الفرات لقوات “الهجّانة” التابعة لميليشيات الأسد, لكنّ تلك الصفقة لاقت رفضاً دولياً ومعارضةً شديدة من الرئيس “بايدن” الذي امتنع عن منح أنقرة أيّ ضوءٍ أخضر لتلك الصفقة أو لأيّ عمليةٍ عسكرية تركية في شرق الفرات, وأكّد د.سربست أنّ هناك أجنحة داخل “قسد” تبرّر وتسوّغ للعودة لنظام الأسد.

أمام هذا الواقع ما زالت طبول الحرب تُقرع في أروقة السياسة التركية وفي مقرات قادة فصائل الجيش الوطني في شمال غرب سوريا, وما زالت التعزيزات العسكرية والحشود تتقاطر للساحات ، لكن يبقى السؤال الأهم:

هل تخاطر أنقرة بحربٍ مرفوضة من موسكو وواشنطن بعد كمِّّ الرسائل الدموية التي أرسلتها موسكو لأنقرة مؤخراً؟؟

وهل تستطيع أنقرة كسر وخرق قواعد الاشتباك المتعارف عليها بين القوى المنخرطة بالشأن السوري؟؟
سابقاً فعلتها أنقرة عندما أطلقت عملية “نبع السلام” لكن بظروفٍ أقلّ تشدداً مما هي عليه الآن … فهل تعيدها أنقرة مرةً أخرى على مبداً “عليَّ وعلى أعدائي”؟.

أم تتراجع عن معركتها لتقول: ليس بالإمكان أكثر مما كان و تكتفي بعمليةٍ عسكرية صغيرة ومحدودة تُسكِت الشامتين؟؟

اورينت نيوز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى