تداعيات الثورة السورية تمزق خارطة سايكس/ بيكو
فؤاد عليكو
من المعروف أن البريطانيين والفرنسيين وبعد انتصارهم في الحرب العالمية الأولى 1916 قاموا بتقسيم التركة العثمانية إلى دول ومحميات فيما بينهم تحت مسميات مختلفة، كما وعدوا اليهود بإنشاء كيان خاص بهم في فلسطين،
وقد راعوا في هذا التقسيم خلق كيانات غير منسجمة قومياً ودينياً، لكي لا تكون هذه الكيانات مستقرة، ولتعتريها الاضطرابات القومية أو المذهبية أو الطائفية، فتبقى بعيدة عن التنمية والتطور، وأسيرة للغرب يستنزف طاقاتها الاقتصادية كما يرغب.
وقام الغرب بتصدير بعض الأفكار السائدة عندهم في القومية والأممية، والبعيدة كل البعد عن ثقافة الشرق، لتتحول هذه الأفكار مع مرور الوقت كمسلمات لدى الحكام، ترعرعت الدكتاتوريات في ظلها بشكل مفرط، لدرجة أصبح فيها تخوين الآخر المختلف معهم، اللغة السائدة عندهم، وبنتيجة ذلك عاشت تلك البلدان صراعات سلطوية دموية منذ تاريخ نشوئها وحتى اليوم، وبالتالي أضحت الشعوب في واد، والأنظمة في واد آخر، وتم خلق طبقة متنفذة فاسدة، متخمة بالثروة على حساب الشعب البائس، والمكبل بشبكة من الأجهزة الأمنية الفاقدة لكل حس وطني، والتي تأتمر بأوامر الدكتاتور فقط.
وعلى الرغم من قيام الحرب العالمية الثانية 1939/1945م وتغير موازين القوى الدولية لصالح الأمريكيين والروس (الاتحاد السوفيتي)، واللذين قاما بإعادة رسم الخارطة الأوروبية وشرق آسيا حسب مصالحهما إلا أنهما أبقيا على خارطة الشرق الأوسط دون تغيير، مع تنفيذ الوعد المقطوع لليهود سابقاً، والمساعدة بتأسيس دولتهم في فلسطين قلب العالم العربي، وبذلك خُلق صراعٌ آخر عربي/ إسرائيلي.
العرب وإسرائيل:
وعلى الرغم من خوض العرب ستة حروب خاسرة منذ تأسيس الكيان الصهيوني وحتى اليوم، لازال الصراع مستمراً حتى الآن ولم يحسم بعد، وقد استغل الزعماء الدكتاتوريون العرب هذا الصراع أبشع استغلال أمام شعوبهم، وتحت شعارات براقة: (كل شيء من أجل المعركة/ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة/ القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب/ جبهة الصمود والتصدي/ دول الممانعة والمقاومة..)، وعلى الرغم من عدم قيامهم بأي عمل جدي لتحرير فلسطين، إلا أنهم استغلوا القضية الفلسطينية كشماعة لستر عورتهم واستغلال شعوبهم وقمعهم، وفرض الأحكام العرفية على بلادهم بحجة أنهم في حالة حرب مع إسرائيل، كما أن بعضهم وخاصة النظام السوري، ساهم في تدمير الثورة الفلسطينية في عدة مواقع هامة، وفي فترات تاريخية حساسة، كما أن مصر عبد الناصر والأردن رفضتا تسليم قطاع غزة والضفة الغربية إلى الشعب الفلسطيني لتأسيس دولتهم عليها بعد عام 1948 إلا أنهم وبعد حرب 1967 واحتلال هاتين المقاطعتين من قبل إسرائيل قالوا للفلسطينيين هذه أرضكم قوموا بتحريرها ونحن معكم. واليوم، كل الحوارات تدور حول تأسيس الدولة الفلسطينية فوق الضفة والقطاع فقط.
الديمقراطية وثورات الربيع العربي:
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر المسمى بالاشتراكي التابع له في الغرب، والذي كان متخماً بالدكتاتوريات المقيتة في نهاية القرن المنصرم، ليحل محلها أنظمة ديمقراطية تحترم الحريات وحقوق الإنسان، تنامت على الإثر موجة المطالبة بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في الشرق الأوسط أيضاً، كما أن أمريكا وحلفاءها الغربيين باتوا يتحكمون بمصير العالم دون منازع، وتدخلوا عسكرياً في عدة دول لإنهاء الأنظمة الدكتاتورية (يوغسلافيا-أفغانستان-العراق ليحل محلها أنظمة تتسم بالديمقراطية واحترام الحريات، كما أن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش أعلن صراحة بأنهم دعموا الأنظمة الدكتاتورية طيلة ستين عاماً وخسروا بذلك الشعوب، واليوم يجب أن يصححوا المعادلة وندعم الشعوب التي تناضل ضد الأنظمة الدكتاتورية.
وكان القدر على موعد مع بوعزيزي في تونس في عام 2010 ليحرق نفسه ويشعل بذلك شعلة المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية في عموم العالم العربي، وعلى الإثر انهارت عروش الطغيان في تونس وليبيا ومصر واليمن، وبتأييد ودعم مباشر وغير مباشر من العالم الغربي بزعامة أمريكا، إلا أن عجلة التغيير والدعم توقفت عندما أعلن الشعب السوري ثورته ضد النظام الدكتاتوري في سورية في آذار2011م، حيث وقف العالم متفرجاً ولا مبالياً إلى حد كبير، أمام نظام يمارس أقصى صنوف القمع مع شعبه مستخدماً كافة أنواع الأسلحة الفتاكة ضد شعب أعزل بما فيها الأسلحة الكيميائية، وكأن الجميع يريد لهذه الثورة أن لا ترى النور ولأسباب غامضة في كثير من مفاصلها حتى اليوم.
تداعيات الثورة السورية على حدود سايكس بيكو:
لكن صمود الشعب السوري السرمدي طيلة أكثر من ثلاث سنوات من التجاهل أذهل الجميع، وتمددت رقعة الثورة أكثر، ونتيجة لهذه اللامبالاة وإدارة الظهر من قبل المجتمع الغربي (المتحضر) دخلت عناصر ومجموعات غريبة عن الثورة، تحمل أجندات مختلفة تماماً عما كان يطالب به الشعب السوري (داعش وأخواتها)، وأضحت سورية ساحة لصراع مخابراتي إقليمي ودولي بامتياز، واستغلت هذه المجموعات من قبل جهات مخابراتية عدة، وخاصة السورية والإيرانية، وقويت شوكتها على حساب الثوار الحقيقيين، وتمددت في الجغرافية السورية شمالاً وشرقاً وغرباً على حساب الثوار، وضاقت بها الأرض السورية لتدخل العراق وتحتل ولاية الموصل وصلاح الدين والأنبار، وأصبحت على مشارف أسوار بغداد.
وعلى الرغم من أن النظام الإيراني كان أحد الأنظمة الداعمة لهذا التنظيم، وكان الهدف من تعزيز دوره تدمير الثورة السورية وانحراف مسارها الطبيعي باتجاهات أخرى، كما أن تقديم التسهيلات اللازمة له باحتلال الموصل بدون مقاومة كانت تهدف بالأساس ضرب مكونات تلك المنطقة بعضها بعضاً، وخلق صراع سني/ سني، وكردي سني/ عربي سني، لكن المعادلة انقلبت عليها وذلك بفضل المجموعات السنية الموجودة على الأرض سابقاً، والمعارضة بشدة للنظام الإيراني وحليفه المالكي، لتغيير المسار باتجاه بغداد مما أربك حسابات النظام الإيراني والمالكي والنظام السوري وقلبها رأساً على عقب، خاصة بعد رفض أمريكا طلب المالكي بالتدخل عسكرياً لصالحه ضد هذه المجموعات المسلحة، وبذلك أصبح العراق منقسماً بحكم الواقع العملي إلى ثلاث مقاطعات لكل مقاطعة إدارتها وجيشها وسياستها، والتي تختلف كلياً عن الأخرى، واختفت الحدود الجغرافية بين سوريا والعراق تماماً، وبدأ الحديث جدياً عن إعادة النظر في خارطة سايكس/ بيكو بعد مائة عام تقريباً من تنفيذها، والتي كما يبدو أصبحت هرمة، ولم تعد تستجيب لمتطلبات شعوب المنطقة.
كما أنها هضمت حقوق شعوب أخرى كالشعب الكردي والشعب الفلسطيني وغيرهم من شعوب وأقليات المنطقة، وبالتالي باتت الضرورة والحاجة وحقوق الشعوب المهضومة تقتضي إعادة النظر في جغرافية المنطقة بحيث يتم تشكيل كيانات منسجمة مع بعضها.
لكن هذا المخاض العسير بدأ ولن ينتهي بسهولة، ومعالم تشكيل هذه الخرائط لم تتوضح بعد، وقد نشهد صراعات أكثر قسوة وحدّة في الشهور القادمة، في جبهات عدة: قومية وطائفية. ومعركة كسر العظم في بغداد وسامراء بين السنة والشيعة لم تبدأ بعد.