آراء

تدوير الحضارات أم صراعها؟..

وليد حاج عبدالقادر

في العودة الى بدايات التاريخ البشري، ومع تبلور مفهوم الصراع بشكله المنهجي، وغير بعيد عن الأطر التي نمت وتبلورت في أنماط الصراع، وما أنتجتها من حروب وويلات، خلفت كوارث عديدة أثقلت الذاكرة البشرية عبر التاريخ وصولا إلى عصر المعلوماتية التي نعيشها الآن، وهنا وبالتعاضد وإن كان على أرضية الإختلاف أيضا، وبالإرتكاز على ظواهر ورؤى بملامح عديدة تتالت تباعا منذ فجر البشرية وبدايات وعيها، وبالترافق من جديد، مع تشكل حضاراتها ومجتمعاتها  وبالتالي، ما نتج عنها أيضا من آليات وسمت وتوصفت بمسميات وصيغ عديدة.

ولعل الأهم في موضوعنا هذا، هو مصطلح دورات التاريخ بمتتبعاتها الحضارية وبصراعاتها، هي الأدق هنا، والتي أخذت بدورها أشكالا متعددة – دورات التاريخ –  والتي لم تكن الحروب والمعارك هي الشكل الأبرز فيها، بل تنوعت وتداخلت فيها أطر ومناحات عديدة .

وهنا – شخصيا أقر بأنني – لست بصدد مناقشة ظاهرة دورات الحضارة، بقدر – ما أرى الأهم هنا – في التركيز على تدويرها، والذي يبدو – أقله لي – من خلال تحوطها – كبؤرة صراع أراها – وبالتتبع التأريخي لمنطقة / مناطق شاسعة، جرت فيها / حولها كبريات الحروب البشرية وعلى رقعتها وضعت / تأشكلت وتغيرت خرائط عديدة واشتغلت فيها حالات القص واللصق والضم او القضم والالحاقات المتعددة، هذه الظواهر التي رافقت البشرية منذ فجرها السحيق، حيث تداخلت الحروب البشرية في توجهاتها شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، إلا أنها كانت تلف وتدور لتلتقي، من جديد، في نطاق ما أخذ يتبلور بالتدرج، خاصة في إطار ما أخذ يؤشر إليه كمصطلح جغرافي – سياسي، منذ اوائل القرن 19 وبداية النهاية للإمبراطورية العثمانية، وتوضح مظاهر التفكك التي أخذت تتمدد وتتسع ضمن امبراطوريته الشاسعة.

ومع خروج الجيوش الأوربية من نطاقياتها بحثا عن مطامح جديدة لها وتدخلها بكافة السبل في شؤون السلطنة، أخذت طموحات هذه الدول تظهر للعيان وبدأت مشاريع العمل على تفكيكها تتبلور، ولتظهر كملف أخذ عنوانا كبيرا يوازي حجمها ومنئذ سمي الملف أو اخذ يشار إليه بالمسألة الشرقية، وطبيعي فقد جلبت معها مباضع مرفقة بمشارط لتقطع في مفاصل اشعوب هذه الجغرافيا واوطانها ! .

وظهرت خرائط للتفاهمات والتوافقات التي تمت وفق تلك الاتفاقيات التي نظمت و – شرعنت – تلك الخرائط والدول التي تأشكلت ، ولعل من اهم تلك الخرائط كانت هي للدول التي أحدثت بموجب اتفاق سايكس بيكو ، والذي يفرض هنا تساؤلا محقا ؟! . هل هي محض صدفة أن تكون هذه البقاع هي ذاتها التي شهدت اختلاط / تصادم القوى والشعوب وصراع الإمبراطوريات الزاحفة حينا كانت من الجنوب – الفراعنة مثلا – او من الشرق والشمال أوعبر البحار ؟! وكلها تلتمس هذه المنطقة الممتدة من شبه الجزيرة المعروفة بالقرم وصولا الى محيط جبل طارق ؟ وبالتالي ! كم من مملكة / إمبراطورية تبعثرت وتشتتت ؟ ..

وفي العودة الى التاريخ سنرى بأن صفحاته قد سجلت كثيرا من الحروب والصراعات،  وأبرزت العديد من التفاهمات والاتفاقيات، وكثيرة هي المعاهدات التي كانت تفسر وكل يراها وفق مصالحه فيعللها، والأبرز في هذه المعادلات ! أنه كان يوجد دائما من يسعى الى سحق المجموعات البشرية المختلفة، ومع هذا، كان الصراع دائما في طور ينتج ذاته بذاته، حيث بات من الواضح، أن كل الحلول الموضوعة أصلا، كانت الغاية الحقيقية منها أن تبقي الأزمات ضمن دوامة إنتاج ذاتها، هذه الأزمات التي يمكننا تلمسها بوضوح الآن، خاصة في البقعة التي ننتمي إليها جغرافيا والتي تزنر كوردستان في نطاقيتها، سنلاحظ وببساطة شديدة، استمرار دوامة الصراع الصفوي / العثماني، وأن تمظهرت بأسلوب جديد، ومعها ذات الولاءات والإنقسامات البينية كورديا، وفي إحاطة أوسع، ومع بقاء المنطقة في عين العاصفة ذاتها، لكنها تحوطت بخطوط أخذت ترتكز في الأصل على مراكز لبؤر زلزالية مدمرة إن لتعدد او في حجم وكارثية بينيات الشعوب فيها.

هذه الخطوط التي ابتدأت من اقاصي ارخبيلات وجزر أوقيانوسيا، وصولا الى شمال أفريقيا، ومنها الى شمال شرق وشمال غرب آسيا ووسطها، هذه الأزمات الهائمة وسط عواصف عنيفة، والتي أطرت كما أسلفنا سابقا كسياق معرفي ضمن مفهوم / مفاهيم الأزمة – المسألة الشرقية، والتي خضعت لمساومات عديدة بدءا من القرم ومرورا إلى اليونان وتركيا ومعها كامل الشرق الأوسط .

وبالرغم من الحربين العالميتين، إلا أنهما لم يحسما موضعيا أية قضية، بقدر ما ساهمتا في زيادة التأزيم، مثلما أخذت تتبلور من خلال الإنكشافات اللاحقة – تقسيم فلسطين أنموذجا – ، ولتضاف تلك المتراكمات إلى سابقاتها، ولتستمر المنطقة في كونها واحدة من أهم عوامل كما وبؤر التوتر في المنطقة والعالم ، وواحدة من أكثر الأقاليم عرضة للصراعات الدموية، وذلك لعوامل عديدة وكنتاج حتمي لما خضعت لها المنطقة من سياسات القضم واللصق.

وباختصار شديد، ان ما يجري منذ قرون عديدة في هذا النطاق الجغرافي، يمكننا أن نتتلمس أمورا عديدة، أخذت تتضح ببساطة شديدة ومنها بشكل خاص، ما حدث / يحدث في نطاق دول وخرائط سايكس بيكو، وبالتحديد قضايا الشعوب التي بقيث ضمن أو ألحق بكل من إيران وتركيا، هاتان الدولتان اللتان استدرجتا منهجيا حديثا، وقد دغدغتهما نزعاتهما الإمبراطورية السابقة، فتمددا عميقا في الإطار الإقليمي الواسع لجغرافية الأزمة الشرقية وليصبحا من اهم عاملي عدم الإستقرار فيها.

وباختصار شديد هنا : أن ما توحي به مآلات المنطقة وعلى كامل نطاق هذه الجغرافية المأزومة ، والتي توحي بما لا شك فيه ، خاصة ما يترافق معه من ضجيج لطبول الحرب  وحشود الأساطيل البحرية، وكثافة كما نوعية الأسلحة مع جيوش لدول عديدة ، فأن كل التحليلات ستودي بما لا شك فيه، بأن المرحلة الأهم من الإستدراج الممنهج قد دخلت طور التنفيذ ، وأن شرارات الحرب في المنطقة حاليا هي في أعلى درجات التوقع، خاصة مع ايران الدولة التي تمادت كثيرا ، هذه الحرب – في حالة وقوعها – يجزم كثير من المتابعين بأنها ستؤدي الى تمزيق خرائط عديدة، خاصة منها التي تشكلت قبل قرن أو أكثر، وستؤسس – في حالة وضع حد لهيمنة ونزعة ايران التمددية – الى مرحلة جديدة قد تظهر معها أشكالا جديدة لأطالس جغرافية تحتوي خرائط وأيضا جديدة لعالمنا هذا، كما وقد تمهد لأرضية تنتج ثقافة قانونية ودولانية محدثة على أرضية تعريفية يمكن البناء عليها عمليا لصوغ وتطبيق مواطنة مشبعة بمفاهيم عملياتية، تتعلق بالفرد وانساتيته كما حقوقه وواجباته، ومن خلاله المجتمع، فتبدو قضايا المواطنة وحقوق الإنسان في ارقى صيغها وتجلياتها من البديهيات .

نعم ! أن التغيير في كامل الإقليم بأبعاده الجغرافية التي ذكرناها قادمة لا محالة ، وهذا المحال بالذات يؤكد بأن استمرار التأزم في نطاق المسألة الشرقية قد أخذت صفتها التدويرية ، كنتاج حتمي للتراكمات التي خضعت لها من القوى – الدول التي تحكمت بها وبطرائق متعددة .. وفي الخلاصة ، وما نتأمله كورديا ! ألا يضيع بعضنا ، أو يعبث بالفرصة التاريخية من جديد .. هذه الفرصة التي تثير فينا أوجاع فرص كثيرة كنا نحن من صمم على اهدارها قبل الأعداء .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى