آراء

تركيا بوّابة الحل لقضايا الشرق الأوسط

موسى موسى- باحث قانوني وسياسي

لم تشهد تركيا، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتأسيس جمهورية تركيا، استقراراً سياسياً رغم طول فترة حكم مؤسسها مصطفى كمال اتاتورك خمسة عشر عاماً( ١٩٢٣- ١٩٣٨)، الذي انشغل بتحديث الجمهورية من التركة العثمانية من ناحية اللغة والدين والعلمنة والجيش والتعليم والقانون والصناعة وكلّ ما يرتبط بقيم الإمبراطورية، إلا أنه لم يلتفت إلى قضية الحرية السياسية والتعددية وقضايا القوميات وحقوق الإنسان، فشهدت الدولة براكين الحركات والانتفاضات الشعبية والقومية التي لم تجد حلاً لقضاياها في ظلّ الجمهورية الحديثة والدولة المعاصرة، لكنها لم تستطع أن تحقّق نجاحاً تحت الضربات الموجعة التي تلقّتها من قوة الدولة العسكرية، فتحوّلت إلى نارٍ تحت الرماد تنتظر متنفساً لتندلع من جديد بالأساليب التي توفّرها لها الظروف.

عصمت اينونو، الذي ينتمي الى حزب الشعب الذي أسّسه مصطفى كمال، تولّى حكم البلاد كامتدادٍ لحكم خلفه مع بروز الظاهرة القومية في عهده إلى أوجها، سعى إلى التوجه نحو الديمقراطية والتعددية الحزبية، كبدايةٍ لأفول نجم الزعامة القومية، بعد أن خرجت الجمهورية منهكة من الحرب العالمية الثانية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، دون أن يولي اهتماماً بالقضايا الأساسية التي كانت تدغدغ مشاعر الشعوب والقوميات المختلفة في تركيا، حيث منعته الزعامة القومية التي كان يراها في شخصه من أن يرى ما هو من غير العنصر التركي، وكانت خسارة حزبه( حزب الشعب الجمهوري) في انتخابات ١٩٥٠ البرلمانية إشارة واضحة على عدم مقبولية نهج وسلوك وحكم الحزب الجمهوري، إضافةً إلى الإصلاحات التي قام بها الحزب الديمقراطي الفائز واستلام رئيسه جلال بيار رئاسة الدولة وعدنان مندريس رئاسة الوزراء اللذان ينتميان سياسياً إلى حزب الشعب الجمهوري ( مؤسسه مصطفى كمال اتاتورك) ومن ثم خروجهما مع غيرهما من الحزب بعد رفض طروحاتهم في ضرورة إزالة بعض المواد المناهضة للديمقراطية في النظام الأساسي للحزب عام ١٩٤٦، وتأسيس الحزب الديمقراطي الذي فاز بحكم البلاد عام ١٩٥٠ وانتهى عام ١٩٦٠ أثر انقلاب عسكري، قام به قائد سلاح الجو التركي جمال غورسال وحكم البلاد الى وفاته عام ١٩٦٦، كأول انقلابٍ في تاريخ الجمهورية وتدخل الجيش في السياسة والحكم، دون أن يلتفت قادة الحزب الديمقراطي كما سابقيهم قادة حزب الشعب الجمهوري وقادة الانقلاب إلى قضايا الحرية الحقيقية وقضايا حقوق الإنسان وحلّ قضية الشعب الكُردي.

هذه النماذج الثلاث، المختلفة، حزب الشعب الجمهوري والحزب الديمقراطي وحكم العسكر، كرّسوا برامجهم للحكم، وما يحفظ حكمهم أكثر من الاهتمام بالاقتصاد والتنمية ومعالجة الفقر والبطالة والحرية ومعالجة قضايا الشعوب رغم توافق الأغلبية البرلمانية والرئاسية في عهدي اتاتورك واينونو، حيث رئيس الدولة ورئيس الحكومة من نفس الحزب الوحيد الموجود على الساحة السياسية التركية والاهتمام ببناء الجمهورية دون التركيز على الديمقراطية التي كانت غائبة مع سيطرة الرئيس والاستفراد بالحكم رغم النظام السياسي البرلماني مما وفّر استقراراً في الحكم- وليس في السياسة- دون وجود معارضةٍ سياسية اعتماداً على سيطرة ووجود حزبٍ واحد ومنع التعددية، ولَم تكن فترة ولاية الرؤساء الثلاث قصيرة ومع ذلك استبعدت قضية الحرية والديمقراطية والتعددية الحزبية وحلّ القضايا القومية مغيّبة، مما كانت إشارة واضحة بأنّ تركيا ستعيش زلازل سياسية وعدم استقرار سياسي وحكومي بمجرد توافر ظروف داخلية وخارجية، وقد شهدتها فترة السبعينيات وما بعدها من قصر ولاية الأحزاب الحاكمة، خاصةً رئاسة الحكومات، والحكومات الائتلافية وما رافقتها من ضعف التنمية والتضخم المالي والديون المتراكمة وانتشار البطالة والفقر وخاصةً بانتهاء الحرب العالمية الثانية التي شعر الرئيس اينونو باستحالة استمرار الأوضاع كما كانت عليه في سابق وبداية عهده، ولإنقاذ البلاد من المستقبل المزلزل رأى في الديمقراطية والتعددية الحزبية سبيلاً، فكانت البداية لتأسيس الأحزاب والمنافسة في الانتخابات وأصبح عدم توافق الأغلبية البرلمانية والرئاسية أمراً محتماً، وعدم الاستقرار الحكومي والسياسي وعدم القدرة على وضع الخطط والمشاريع وتنفيذها ناتجاً سلبياً لذلك الوضع ويدفع بالحكومات إلى السقوط وعدم القدرة على تشكيل حكومات ائتلافية مستقرة.

منذ سبعينيات القرن الماضي بدأ تفكير القادة والساسة الأتراك بالتوجه نحو النظام السياسي الرئاسي على أعقاب الأزمات التي عاشتها في عهود النظام البرلماني والحكومات الائتلافية الضعيفة الذي حمّله ساسة تركيا وقادة أحزابها ورجالات الدولة بأنّ النظام البرلماني هو علّةٌ يسبّبُ عرقلة وإعاقة الاستقرار الاقتصادي والسياسي والحكومي في البلاد، لذلك كان التفكير بالتوجه نحو النظام الرئاسي ربما حلاً للوضع الاقتصادي والسياسي المتردي في تركيا، وأصبح ذلك التوجه يأخذ حيّزاً من النقاشات في اجتماعات ومؤتمرات الأحزاب وبرامجها منذ ذلك الحين وخاصةً لدى( حزب النظام الوطني منذ ١٩٧٠) وحزب السلامة الوطني منذ ١٩٧٣، وكذلك نادى به ألب أرسلان توركيش الذي تزعم الحركة القومية لفترة طويلة، ونادى به تورغوت أوزال بعد وضع دستور ١٩٨٢، ولاحقاً سليمان ديميريل دون أن ينتج ذلك خطوات عملية وتضمينه في الدستور، وقد شهدت أعوام التسعينات حكومات ائتلافية ضعيفة بالكاد تستمرّ سنتين، إلا في الألفية الثانية في ولاية حزب العدالة والتنمية الذي شهدت تركيا في ظلها استقراراً سياسياً واقتصادياً دون أن تنال الديمقراطية نصيبها من التقدم في ظلّ حكم حزب العدالة والتنمية، حيث طرح الرئيس اردوغان في نهاية عام ٢٠١٥ مشروعه في الانتقال السياسي للنظام من البرلماني إلى الرئاسي وإصدار دستور جديد كخطوة عملية وتمّ طرحه في البرلمان بعد أن تحالف مع حزب الحركة القومية دون أن يحصل المشروع على الأغلبية البرلمانية لتمريره لكنه حصل على النسبة التي تخوله لعرضه على الاستفتاء الشعبي الذي جرى في نيسان ٢٠١٧ ووافق الشعب عليه بنسبة فاقت ٥١٪؜، وبذلك كانت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لعام ٢٠١٨ أول انتخابات في ظلّ التعديلات الدستورية والنظام السياسي الرئاسي وقد فاز فيها الرئيس اردوغان لتستمرّ ولايته خمس سنوات بموجب التعديلات الدستورية والنظام السياسي الجديد إلى ٢٠٢٣.

موجبات السعي نحو النظام الرئاسي في تركيا كانت لها مبرّرات مقابل اعتراض بعض القوى السياسية كحزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي وبعض القوى الأقل جماهيريةً في عهد حكومات العدالة والتنمية والتي كانت تستند على قناعات نشوء الدكتاتورية وترسيخها وعرقلة الديمقراطية.

بنهاية ولاية الرئيس اردوغان في عام ٢٠٢٣ ستصل تركيا الى مفترق طرق بناءً على تقييم مرحلة النظام الرئاسي بالنظر إلى قضايا التحول الديمقراطي الذي لم تشهده تركيا رغم المناخ الديمقراطي في انتخاباتها دون تحولات ديمقراطية والحرية وقضية الشعب الكُردي مما يزيد من اتساع جبهة المعارضة التي قد تتشكّل من حزب الشعوب الديمقراطي وحزب الشعب الجمهوري وحزب المستقل التركي الذي يتزعمه احمد داوود أوغلو وحزب الديمقراطية والتقدم الذي يتزعمه علي بابا جان الذي تكون فيه قضية الشعب الكُردي أساساً لهذا التحالف المستقبلي إذا ما لعب حزب الشعوب الديمقراطي دوراً مميزاً بحنكةٍ سياسية وحكمة دبلوماسية قد يفتح مجالاً لحلٍٍّ طالما غضّت الحكومات التركية أعينها عنه، كما أنّ قضايا الحرية وحقوق الإنسان لا تقلّ أهميةً إذا ما نُظِرَ اليها بعينٍ وطنية وانسانية مما يجعل من تركيا بوابةً لحلّ القضايا المهمة داخل تركيا وتأثيراتها على دول الجوار الذي تشكّل القضية الكُردية فيها قضايا محورية، وخاصةً أنّ ما يتميّز به الرئيس اردوغان من شخصية متطلعة نحو استمرارية حكمه وطموحه في الترشيح لولاية أخرى بعد عام ٢٠٢٣ في ظل عدم سماحية الدستور له ذلك مما يجعل صراعاً محتمل النشوب بينه وبين المحكمة الدستورية العليا أو تدخل الرئيس في الضغط عليها ورضوخها له أو حلها، وبذلك ستدخل تركيا في مرحلة حلّ القضايا أو تكريس الدكتاتورية الذي ينتج من بطونها معارضة قوية تضع تركيا على بركانٍ من الارتدادات السياسية، هذا الوضع يتطلّب من القوى الديمقراطية والتحالفات المستقبلية الذي يكون أساسه ومحوره حزب الشعوب الديمقراطي العمل بحكمة مع القوى السياسية الكُردية الأخرى والأحزاب التركية المعارضة لعدم إضاعة الفرصة لحلّ الكثير من القضايا الأساسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى