من الصحافة العالمية

تل أبيض بين التاريخ والجغرافيا

عبد الباسط سيدا

تعود جذور العلاقة العربية – الكردية إلى ما قبل الإسلام، بفعل الجوار والتواصل التجاري. وقد بلغت مرحلة متقدمة بعد مجيء الإسلام، بخاصة في ظل الدول العباسية، ومن ثم الأيوبية بقيادة صلاح الدين.
وفي المرحلتين الحديثة والمعاصرة، أخذت الأمور طابعاً آخر بعد تبلور معالم الفكر القومي العربي وانتشار الدعوات المطالبة بالخروج من دائرة الحكم العثماني. وقد تأثر الكرد أيضاً بالنزوع القومي، إلا أن تمتعهم شبه المستمر بصيغة من الاستقلال الذاتي ضمن حدود الدولة العثمانية، لم يدفعهم نحو المواجهة المفتوحة، أو الرغبة في القطيعة التامة مع الدولة العثمانية، وإنما اقتصرت الجهود على المطالبات بتحسين ظروف المناطق الكردية، واحترام الحقوق والخصوصية.
وجاء تطبيق اتفاقية سايكس – بيكو بعد الحرب العالمية الأولى ليقسّم الكرد أرضاً وشعباً، ويوزّعهم بين العراق وسورية إلى جانب وجودهم في إيران وتركيا.
ولم تشهد مرحلة ما بعد الاستقلال في سورية والعراق أي تصادم بين المكوّنين العربي والكردي، سواء على المستوى الشعبي أم النخبوي، وذلك ينسجم تماماً مع التاريخ الطويل من علاقتهما.
لكن المحنة بدأت في سورية مع بروز حزب البعث الذي التزم أيديولوجية عنصرية، استلهمت الكثير من النازية والفاشية، ثم أضافت إليها مسحات من الشيوعية الستالينية، وتم التغطية على ذلك بما هو متشدّد ومختلف عليه في التراث العربي – الإسلامي.
هذا في حين أن الناصرية في مصر كانت أكثر توزاناً في تعاملها مع الكرد والقضية الكردية عموماً، ما يفسّر الاستقبال الودّي للزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني من الزعيم العربي جمال عبدالناصر أثناء عودة الأول من الاتحاد السوفياتي السابق إلى العراق عام 1958. كما تم افتتاح الإذاعة الكردية في القاهرة التي كان ضمن العاملين فيها الرئيس العراقي الحالي الدكتور فؤاد معصوم.
أما حزب البعث، فاعتمد سياسة الإنكار المطلق للحقوق الكردية، بل حاول بكل الأساليب القضاء على وجود الكرد فيزيائياً، فشنّ عليهم في العراق الحرب، وضربهم بالسلاح الكيماوي، ونفّذ في حقهم حملات إبادة أطلق عليها الأنفال.
وفي سورية، أُنكر وجودهم أساساً واعتبروا مجرد لاجئين، وحرموا كل الحقوق، ومورس بحقهم العديد من المشاريع التمييزية، بدءاً بالإحصاء الاستثناني عام 1962، الذي سبق حكم البعث، مروراً بـ «الحزام العربي» الذي طبّق عام 1973، وصولاً إلى التعريب القسري الشمولي. هذا إلى جانب مختلف الإجراءات والتدابير التي جعلت من المناطق الكردية أكثر مناطق البلاد إهمالاً وتهميشاً ونهباً، حتى ارتفعت البطالة بين الشباب الكردي إلى نسب مرعبة مقارنة بالمناطق الأخرى.
مع ذلك، لم يتمكّن حزب البعث في العراق وسورية من تحويل سياساته الرسمية جزءاً من المزاج الشعبي العربي في التعامل مع الكرد. فالجميع كان متوافقاً على أن الظلم الحاصل نتيجة لسياسة رسمية تطاول الجميع بمستويات مختلفة، وليس بناء على رفض عربي لما هو كردي، أو العكس.
وحاول النظام في عهد حافظ الأسد، وابنه بشار خصوصاً، أن يفجّر العلاقة بين العرب والكرد في إطار سعيه إلى التحكّم بقواعد لعبة ضرب المكوّنات السورية بعضها ببعض. ولعل الفتنة التي أثارها عام 2004 في القامشلي، وأسفرت عن مقتل وجرح العشرات من الكرد بأسلحة النظام هي المثال الواضح هنا.
ومع انطلاقة الثورة السورية، انحاز الشباب الكردي منذ اللحظة الأولى إليها، وكان انحيازهم بهدف القطع مع سلطة الاستبداد والإفساد التي سدّت الآفاق أمامهم، كما أمام سائر الشباب السوري.
وقد اعتمد النظام إسترتيجية قوامها إبعاد الكرد والعلويين والمسيحيين عن الثورة، سعياً منه إلى ترسيخ انطباع لدى الرأي العام العربي والدولي، وحتى السوري، بأن ما يجري ليس ثورة شعبية مدنية شبابية، تجسّد تطلعات جميع المكوّنات السورية في مواجهة النظام، وإنما مؤامرة دولية بأدوات أصولية جهادية، هدفها القضاء على خط «المقاومة والممانعة» ومحاربة النظام «العلماني حامي الأقليات والقيم الحضارية».
وبالتناغم مع هذا التوجه، أقدم النظام عبر أدواته وأجهزته على تصفية الشهيد مشعل تمّو والعديد من الناشطين الكرد، الذين كانوا قد حدّدوا بلا تردد موقفهم الداعم للثورة، وشاركوا فيها بفاعلية. كما عمل عبر أدواته على تنظيم حملات إعلامية شرسة ضد ناشطين كرد لم يتمكن من اغتيالهم.
ولا ننكر أن العديد من قادة المعارضة أو المتحدّثين باسمها خدموا إستراتيجية النظام من دون قصد. فهؤلاء لم يقطعوا مع المنظومة المفهومية التي رسخّها البعث على مدى عقود في أذهان العديد من القوميين العرب، الذين تعاملوا مع مزاعم البعث وخرائطه المزعومة وموقفه العنصري من المكوّنات غير العربية، على أنها مسلّمات لا يجوز مجرد التفكير في مناقشتها.
أما بخصوص ما سُمي التطهير العرقي في منطقة تل أبيض بعد تمكّن «قوات الحماية الشعبية» التابعة لـ ب. ي. د. بالتحالف مع بعض فصائل الجيش الحر، وبدعم من طيران التحالف الدولي، من إخراج داعش من المنطقة المعنية، فكان من اللافت أن تسارع جملة من الفصائل الميدانية الأساسية والقوى الإسلامية إلى إصدار بيانات تندّد بـ «تطهير عرقي» لم تؤكد مصادر مستقلة حدوثه بالحجم الذي روّج له. وقد دفع هذا الأمر بالائتلاف إلى تشكيل لجنة تقصّي الحقائق بغية معرفة الحقيقة، ووضع حدٍ للتجييش اللاعقلاني الذي يمارس راهناً، عربياً وكردياً، ولا يخفى على أحد أن النظام هو المستفيد الأول والأخير من ذلك.
المجيّشون العرب يرون أن ما يجري تمهيد لفعل تقسيمي مقبل مرفوض ومدان. والكرد منهم يتساءلون: أين كان وجدان هذه الفصائل وحسها الوطني يوم تعرّضت منطقة كوباني لحملة شرسة من داعش، أسفرت عن تهجير نحو 200 ألف مواطن كردي في غضون أسبوع، وتعرضت قراهم لنهب مقيت استنكره بشدة الكثيرون من العرب المؤمنين بالمشروع الوطني السوري الجامع.
خطورة ما نواجهه راهناً تتجسّد في الخشية من نجاح جهود النظام في تفجير العلاقة العربية – الكردية على الصعيد الشعبي، وهي جهود عمل عليها منذ بداية الثورة في غير منطقة.
وما يزيد تعقيد الوضع أن القضية الكردية في سورية لا تمتلك بعداً وطنياً فحسب، بل لها بعد إقليمي أيضاً. فهي تؤثر وتتأثر بما يحصل في الجوار الإقليمي. ولا يخفى على الجميع أن قضية الكرد في سورية باتت ورقة ضمن الحسابات الإقليمية، تستخدم لتعزيز المواقف، ورفع سقف الصفقات، وهي ستكون جزءاً من المقايضات المقبلة التي قد تُخضع الجغرافية لما هو مستلهم من التاريخ.
 
الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى