آراء

“تيتو” كُرد سوريا وقضاياهم الخاسرة

شفان إبراهيم

يبدو أنّ الخدّ الكُردي السوري اعتاد اللطم ، فقضاياه الخاسرة كثيرة، كُتب التاريخ مليئة بالانكسارات والانشقاقات، أبطالها كثر، منهم مَن واراه التراب ، ومنهم مَن طواه النسيان، ولا زال البعض المتبقي يلوّح بحُسامهِ مُعلناً ديمومة دوّامة الخلافات، منطلقين من قاعدة شمولية مقيتة، أنا أو لا أحد. حتّى أولئك اللذين وجدت شرائح من المجتمع الكُردي فيهم خيراً، ورأوا في اندفاعهم الثوري خلاصاً لمستقبل أبنائهم، هؤلاء تحوّلوا من الثورة إلى السلطة، على مبدأ أنّ شغفها لا يُقاوم، فوجدوا أنفسهم مهزومين من المناصب، بل حتّى أنّ قسماً من مناضليها أصبحوا رجال أعمال وسماسرة، فقيل فيهم إنهم كسبوا الثروة وخسروا الثورة، وتالياً لا غرابة أن يتحوّل كتّابها إلى عازفين في أوركسترا السياسات التي حاربوها، أما شعراؤها فتحوّلوا إلى مغنّين “للسستم” الذي اجتهدوا في تسخير قوافيهم لمحاربته.

من أبرز الأقوال المتداولة عن يوغسلافيا إنها تألّفت “من ست جمهوريات، وخمس إثنيات، وأربع لغات، وثلاث ديانات، وأبجديتين، وتيتو واحد”. فعند نهاية الحرب العالمية الأولى، “منح الحلفاء الصرب إقليم كوسوفو مكافأةً على مقاومتهم للألمان والنمساويين. وبموجب معاهدة فرساي، أعطِي الشعب الصربي السيطرة في مملكة تضمّ الصرب إلى جانب الكروات والسلوفيين (التي أصبحت لاحقاً يوغسلافيا)، واعترفت معاهدة فرساي رسمياً بضمّ كوسوفو إلى صربيا” ، حتى وقعت الحرب العالمية الثانية، وتمكّن هتلر من تفتيت يوغسلافيا المهيّأة لذلك ، نتيجة التوترات بين المكونات والشعوب فيها. لكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، استطاع الكرواتي جوزب بروز تيتو “أن يعيد توحيد يوغسلافيا، وأصبح شخصه هو المفتاح للتسوية السلمية في البلقان… بعد عقودٍ عديدة من النزاع والحروب الطويلة، وتمكّن من تحويل صربيا التي ورثها بعد المقاومة إلى ست جمهوريات فيدرالية: سلوفينيا، كرواتيا، البوسنة-الهرسك، صربيا، الجبل الأسود، ومقدونيا، مع إبقاء كوسوفو جزءاً من صربيا، لكن في العام1974…. منح تيتو الألبان نوعاً من الحكم الذاتي، بمنح كوسوفو رتبة إقليم مستقل داخلياً”…

تقول كُتب التاريخ إنّ القضايا والثورات وحقوق الشعوب التي انتصرت كان لها أبطالها ذوي فكر ورسالة، لكنّ سقوط البطل غالباً ما يكون بسبب سوء إدارته لبطولته، وتالياً ها نحن ذا نقف عل أبواب قضايانا الكُردية الخاسرة والمهزومة، والمؤسف أنّ لُبّّ هذه القضايا ليست عوالم جديدة بدأت تطلّ على الكُرد، إنما هي لُبُّ عملهم وسعيهم الحثيث منذ عشرات العقود، وإن كانت تلك القضايا تفرض نفسها بشكلٍ أو بآخر، سلباً كان أم إيجاباً على وقائع وحياة الشعب الكُردي، لكنّ الثابت أنّ أيَّ قضيةٍ تبحث عن نصيرٍ لها، عليها العثور على طريق الاستمرار وحينها يكون الصراط السياسي المستقيم للكُرد، لكنّ قضيتنا تفتقد للبطل، لتيتو، لمَن ينقذها من الغرق القادم الوشيك، حيث يقول شكسبير في مسرحية “الملك لير” إنّ الملك “عندما يصل إلى عمرٍ معين بعد سنين طويلة في الحكم، يشعر بأنه أقرب إلى الله من غيره من العباد الصالحين، فلا يرى نفسه عارياً أبداً”.

ذات يومٍ أسّرَ إليَّ صديقٌ مُقرب: كم تحبّ الكتّابة في القضايا الخاسرة؟ يوماً تكتب عن فساد الإدارة الذاتية، ويوماً آخر تلقي الضوء على حالة الاسترخاء الميداني وغياب سؤال ما العمل للمجلس الكُردي، وتارةً تفتح ملف ضياع حقوق الشباب والطلبة، وحيناً تتساءل عمّن تسبّب بضياع عفرين وسري كانييه وكري سبي وما الذي يمنع عودة الأهالي إلى ديارهم، وطلب مني ألا أتساءل لماذا تجارة الكُرد للنفط أغلى من الدم الكُردي، خاتماً حديثه: أعقل يا صديقي فكلّ هذه القضايا الخاسرة ما راحت تهمّ أحداً ولا تطعم خبزاً. ما ملكت سوى جواباً واحداً لا غير: لقد قضت السياسة والخلافات الكُردية على ما تبقّى من الأفكار المستقبلية، ودمّرت المعارك والحروب الطاحنة بقايا الأحلام القومية الصاعدة والواعدة، وليس من الممكن الاستدارة عن الانكسارات المعروضة على المسرح السياسي الكُردي اليومي، والعثور على موقف انتصارٍ واحد بديمومة، فتحوّل الكُرد إلى برميل بارودٍ دائم، حيناً يُشتعل عن بُعدٍ وفقاً لمصالح دولٍ أو أحزابٍ أخرى، وحيناً لايجد مَن يقود نيرانه للحرية.

رُبما بات مُلحّاً كثيراً، وفي هذه الأيام غير المضيئة، والتعنت في الحوار الكُردي، واعتقاد الأطراف أنهم المهدي المنتظر، وبعد أن تفنّن محترفو تمييع الحقوق القومية في تفريغ أحقادهم على النسق التاريخي لتضحيات الشعب الكُردي ونضاله المستمرّ في سبيل حقوقه القومية على امتداد أكثر من نصف قرنٍ ، أن يُدركوا أنهم شوّهوا الفكر والثقافة والإعلام، وأمعنوا فيه طعناً وتمزيقاً وتشويهاً وتحريفاً، حتى نسينا أنّ حالنا هذا تنبّأ به أغلب الكتّاب والمدونين الكُرد منذ عقودٍ طويلة خلت، كلهم بشّروا بقضايانا الخاسرة، ومهّدوا إعلاناً وتنبؤواً بالسقوط على أعتاب الإحباط السياسي الذي نعاني منه كأجيالٍٍ حملت بؤس ماضيها، حتى ظننا أنّ الأحلام القومية والوطنية الكُردية في سوريا تحوّلت إلى كوابيس، بعد أن كان الشغف القومي للكُرد حالةً عقلية وموقفاً من معظم الأمور السياسية والاقتصادية عندهم وفي تعاملهم مع الشعوب المحيطة بهم.

المشكلة الأكثر استجلاباً للأوجاع، أنّ التاريخ الكُردي حتى الأمس القريب كان سيد المواقف في تعاطيه مع مناصريه أو معارضيه أو معاديه من الأقوام الأخرى، لكنّ غياب “تيتو” جعل منّّا فاقدي الاستفادة من دروسه وعبره، ولم يشهد واقعنا الحالي دعوةً لإطلاق سراح التاريخ من سجون الأحزاب المتحاربة، أملاً بعودة بعض الأمور إلى نصابها، وإلا لماذا يرضى الكُرد بأبطال طغاة يحكمونهم، جاؤوهم طوعاً أو قسراً أو تكليفاً، فينصاعون لهم، وحتى حين تراكمت موبقاتهم وكوارثهم ضد الأبرياء، استكانوا وقبلوا بالأمر؟ فوجد الشعب الكُردي نفسه بين مثلث نيران: نار الخراب الفكري والسياسي والبنية التحتية التي يعيشها، ونار الرغبة بالتخلص من هذا الركام الذي جثى على صدورهم، لكنّ الخوف يعتري قلوبهم مدركين أنّ فشلهم سيدفع “البطل الجبان” و”النمور من ورق” للقضاء على آخر نفسٍ لأخر ثائرٍ ، ولا أسهل من تهمة الخيانة التي ستترافق وعملية الانتقام، والنار الثالثة: مخاوف الناس من تحول رغبة الخلاص من الظالم والظلم والعدو الداخلي إلى نارٍ تحرق المحيط والأهالي وليس الحكم والفساد، خاصةً وأنّ الذين أوغلوا في صدورنا لا يأبهون بحصاد هشيمها أو مصيرها.

لا تيتو بين الكُرد في سوريا، ولا مقاومة شعبية داخلية، بهدف إعادة الأمور إلى نصابها. لا حرية ولا حياة دون كرامة، وكلّ تلك لا تتحقّق ما لم يتمّ لمُّ شمل الكُرد في مركبٍٍ واحد، وإيصالنا إلى برّ الأمان، بدلاً من المضي في رداءة أنّ الطرفين الكُرديين الداخليين المحليين يُشكّلان تهديداً مباشراً على بعضهما البعض، وإذا استمرّت قضية الدفع بمفاهيم إقصاء الكُرد كجزءٍ من الأمة الكُردية، فسيتحوّل الكُرد في سوريا إلى أثرٍ بعد عين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى