جدلية “فروسية” البقاء في الوطن و”رفاهية” الاغتراب
آشتي تيشي – صحفي
جدليةٌ عقيمةٌ تسود مواقع التواصل الاجتماعي وتطغى على معظم ما يُطلق جدلاً عليه “النقاشات” التي غالباً ما تحتدم التعليقات والردود المتبادلة فيها، لا سيّما حين يتشدّق البعض ممّن بقي على أرض الوطن بـفروسيته في مواجهة الظروف الصعبة التي يمرّ بها، في الوقت الذي يلقي فيه كماً هائلاً من العتاب الذي يتعدّى حدوده إلى سياقاتٍ أخرى بعيدة عن المنطق، تودي بصاحبها إلى تخوين الآخر الذي غادر المكان.
إلّا أنّ قراءةً متأنّيةً لجدلية البقاء والهجرة تُظهِر علاقةً طردية تكاملية، يدعم أحدهما الآخر ويمنح وجوده في موقعه قوةً وبقاءً، إذٔ إنّ فقدان المهاجر للانتماء للوطن والارتباط به يوهن نفسيته ويجرّده من ماضيه وذكرياته وعلاقته، فيما تعزّز المساعدة التي يقدّمها المهاجر إلى مَن بقي قدرتهم على مواجهة الظروف المستجدّة الصعبة التي كان سيعانيها غالباً المهاجر ذاته لو لم ينل فرصته في الوصول إلى واقعٍ أفضل، مع الاخذ بعين الاعتبار حقيقة أنّ الكثير من العوائل خطّطت لهجرة أفراد من أسرهم ليعيلوهم في مواجهة مستقبلٍ يُستشفُّ فيه الكثير من التعب والشقاء كضريبةٍ اضطرّ المتشبّث بأرضه أن يدفعها.
في السنوات العشر التي مضت وخلال سنوات الثورة السورية، عانى السوريون بكلّ أطيافهم كثيراً، إذ دُمّرت مدنٌ وتشرّد أهلها واضطرّ الكثيرون للبحث عن حياةٍ أفضلَ في دول أخرى، ووصل المقام بمئات الآلاف منهم إلى التغرّب حول العالم، وبغضّ النظر عن تبعاتها السلبية وما شكّلت هذه الهجرة من هجرة عقولٍ وانعكاسات سلبية على ديمغرافية كُردستان سوريا بشكلٍ خاصٍ، لكن لا يحقُّ لأحدٍ وتحت أيّ ذريعةٍ منع آخر من البحث عن حياةٍ أفضل بعيداً عن الظروف التي عصفت بالمنطقة، لكن من المنطقي أن يطالَب المهاجر بألا تنقطع أوصاله مع أهله وشعبه ومنطقته.
على الرغم من عدم توفّر إحصائيات دقيقة للمبالغ التي ترِدُ من المغتربين إلى كُردستان سوريا شهرياً، إلا أنّ بعض التقديرات تشير إلى قرابة ثلاثة مليون دولار شهرياً، وهو ما قد يصل إلى قرابة الضعف في شهر رمضان، وهذا ما يساهم في إنعاش اقتصاد المنطقة وخلق فرصٍ جديدة قد تحِدُ من رغبة أو أسباب قد تدفع بالعديد ممّن تبقّى إلى الهجرة.
في السابق، كانت الكثير من العوائل الكُردية من الطبقة الوسطى تعيش على الرواتب، إلى جانب اعتماد فئات أخرى على العمل الخاص في الزراعة أو الصناعة أو التجارة، أمّا اليوم فقد بات الموضوع مغايراً تماماً، فلا مرتّب حكومي يكفي مصاريف الحياة، ولا العمل الخاص يُعوّلُ عليه.
رضوان كنعو مدرّس متقاعد من قرية معشوق، عمل عشرات السنين في التدريس، لكنّ مرتّبه الشهري لم يعد يساوي شيئاً، يشخّصُ ما وصل الحال به “حالياً راتبي كمربّي ومعلّم خدمَ إلى أن بلغ التقاعد لا يصل إلى ١٧ يورو شهرياً أي ٦٠ ألف ليرة سورية”، في وقتٍ بلغ الغلاء ما لا طاقة لبنكٍ أن يتحمّله وصعوبة تأمين مستلزمات الحياة.
في مجابهة المصاعب المتزايدة يعتمد كنعو على ما يصله من ابنه المقيم في أحد الدول الأوربية، التي لولاها “لكانت معيشتنا مأساوية مطلقة لأننا نعيش حالة الفقر المدقع، وما يصلنا يعيّشنا في حدود عدم الحاجة إلى السؤال، إذ أنه رغم ذلك “نفقد أبسط مستلزمات الحياة اليومية، حيث أنّ هناك الكثير من الأشياء لا يمكننا أن نجلبها لأطفالنا، فحياتنا أصبحت تعتمد فقط على الاشياء الأساسية لديمومة الحياة”، وفق كنعو.
آزاد لاجئ سوري يعيش في بلجيكا منذ أربع سنوات يقضي أيامه في العمل بأحد المطاعم ليرسل “كلّ شهرين 300 يورو” لعائلته في الداخل التي يقول الأب: لولا ذلك “لكان مصيرنا جميعاً اللجوء إلى إحدى دول الجوار ملتجئين في إحد المخيّمات كحال الكثير من السوريين”.
حتى لا يُبخَسُ حقُّ “فاعلي الخير”، جدير بالذكر وجود بعض المبادرات الجماعية التي تُنظّم في المهجر لتصل الأموال عبر متطوّعين ثقاة يتمّ اختيارهم من القائمين على المبادرات تلك، يساهمون في تخفيف الآلام عبر دفع تكاليف عمليات جراحية أو شراء كرسي لمعاق أو تبنّي مصاريف عائلة يتيمة أو شراء سمّاعة طبية لشخص فاقد السمع وغير ذلك من الحالات التي تحتاج إلى رعايةٍ معيّنة.
لم يختر أحدٌ الهجرة أو ترك أرضه حباً في التغرّب والبعد، ولو توفّر الأمان والعيش الكريم لَما تخلـى عن أرضه وأهله، لكن حدث ما حدث، وليس لأحدٍ أن يمنّ على الآخر بدوره سواءً مَن بقيَ “يصمد” على أرضه أو مَن اغتربَ وبات “سنداً” لذويه.