آراء

جنازة الزيزفون

بهجت شيخو

لم يبقَ لي إلّا بضع ساعات، و يفصلني عن تلك الأمسية المروّعة في بلدتي الصغيرة و التي هي ليست بحجم هذا الدمار الوحشي الهائل و التي اقترفتها ما تسمّى بالدولة الاسلامية ( داعش ) في يومٍ عالمي مقدّس لحقوق الانسان في العاشر من كانون الأول عام ٢٠١٥ م . تلك الأمسية لا تشبه كلّ الأمسيات أبداً . إنّها مجرّدة من كلّ الألوان عدا السواد المخيّم على المكان و منعدِمة من هوائها الرطب النقي المعتاد في أوقاتها من المساءات ، و لا يلاحظ سوى الغبار المتناثر الممزوج برائحة حفلة شواء لأجسادٍ آدمية وصلت لحدّ الاحتراق . يفوح بالأفق هواء يعبر أنفي متثاقلاً ببطء لحدّ الإقياء، و لم يصدف طيلة حياتي أن استنشقت هواءً كهذا. تلك الرائحة ستلازمني دائماً كلّما مررت بتلك الأمكنة التي جرت فيها التفجيرات الثلاث خلال أقلّ من دقيقة واحدة .

اختلط البارود وقطع السيارات وحمولتها من السكر المحروق وأجساد الضحايا و دمار المنازل و أصوات الاستغاثة من تحت الأنقاض و الغبار الملوّن و الدماء المسيلة على وجوه الأطفال و الهلع لتشكّّل لوحة قاتمة قد توخز مرّةً أخرى ضمائر البشرية و كيف يمكن لأيّ فكرٍ أو حزبٍ أن يبتر الأجساد الحيّة البريئة بهذه الطريقة الهمجية .

أقدموا العشرات لهذا المكان و الذي يمكن تسميته ب( أ ) لكنّ الذهول و العويل كان مخيّماً و مخيفاً و كانت المنازل المتساقطة بالعشرات و تهشّمت فوق رؤوس ساكنيها و تعالى عويل النساء و رحت أصوّب بإضاءة قداحتي نحو البيوت المنهارة، و تصاعدت الأصوات عالياً لاستغاثة البعض منهم قالها أحدهم إنّهم بشر تحت الأنقاض و ما هي إلا لحظات حتى جلبت بعض البطانيات من أحد المنازل المكشوفة تماماً و أسعفنا ثلاث نساء ( أمٌ عجوز و ابنتيها ) لعلهنّ قد يحالفهنّ الحظّ و يبقين على قيد الحياة، و لكن بعد الانتهاء من عملية الإنقاذ هناك توجّهت للمكان ( ب ) في شارع فلسطين حيث العتمة و الخوف و كان الزجاج المتناثر كالثلج و الخطوات التي كنت أخطوها لا يمكن لي وصفها و وصلت المكان، و لكنّ بدا لي بأنّّ حجم الانهيار كان أضخم ، أردت التصوير و لكن ماذا سأصوّر ؟ هل أصوّر اذرع مترامية تحت بطون السيارات أو ساق مازالت بحذائها أم جمجمة على حافة الرصيف أو جسد منفوخ و متفحّم أو بقايا شعر لغطاء رأس آدمي . غادرت المكان مسرعاً و مرتجفاً خوفاً من أنّني قد أمشي على الأعضاء المتناثرة هنا و هناك .

في هذا المكان كانت رائحة الشواء أكثر لأنّ الضحايا كانوا أكثر و أكثر ما يمقت النفس في هذه اللحظات أنّك عاجز عن عمل أيّ شيئ .

و بعدها انصرفت و لست مصدّقاً أنّني في بلدة الزيزفون و عبير الخابور و في محطتي الأخيرة حيث لاحظت أنّ تلك العيادة و التي كنت أقف بجانبها أحياناً مع صديقي الدكتور هشام باتو حيث كنّا نتبادل الأحاديث و النكت و ننفث السكائر قد انهارت تماماً على مَن فيها، و مع الأسف صديقي الطبيب قد تناثر إلى أشلاء مع كل مراجعيه و هو الذي أبى مغادرة البلدة و أحبّّها دوماً مع أغانيه المفضّلة تركية و أخرى كُردية في أحضان بلدته الصباحية .

و عقب ذلك خيّم صمت و سكوت تام على بلدتي و كأنّ الانفجارات الثلاث لم تقع قبل قليل، و ذلك رغم كلّ حركة الآليات و البشر ، أمّا النوم فكان له سيرة أخرى و سقطت تلك الليلة كلّ أشجار الزيزفون و ابتعد هواء الخابور الرطب و نقيق الضفادع و حتى يمكن أنّ نباح الكلاب لم يعد يُسمع أو حتى عواء بنات آوى الليلي من جزيرة الخابور المتاخمة للبلدة . باختصار الكلّ كان حزيناً.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “327”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى