من الصحافة العالمية

حرب تركيا على «داعش» و «الكردستاني» تربك حسابات إيران

عبد الوهاب بدرخان
برهن مسار تنظيم «داعش» حتى الآن أن جهات كثيرة ساعدته واستخدمته، لكن أياً منها لا تستطيع مساعدته واستخدامه على الدوام، ولا أي منها يمكنها إدارته وتوجيهه. وإذ يعتبر نفسه «دولة الخلافة» للجميع، ولا خيار لهم إلا الخضوع لها، فإن الجميع مضطرٌّ لضربه ومحاربته لإزالته في نهاية المطاف. وها هي تركيا انضمّت رسمياً إلى «الحرب على داعش» بعد نحو عامٍ على عضويتها المتأرجحة في «التحالف الدولي». أما إيران فتفضّل أن تكون «دولة غير عضو»، مراقبةً – محاربةً من خارج «التحالف» لكن مثيرة للجدل والشكوك لأن ميليشياتها تنتج الإرهاب أكثر مما تكافحه. وأما النظام السوري غير المعتَرَف بتمثيله «الدولة السورية» ففقد أهليته لمحاربة الإرهاب مُذ بادر إلى قتل شعبه وخسر شرعيته.
هذه الأطراف الثلاثة، مع عراق نوري المالكي، نائب الرئيس المعادي للجمهورية العراقية، تشاركت في عرابة «داعش» ولادةً ونمواً وتضخّماً، ثم انتشاراً وسيطرةً، وتتنافس حالياً على واجهة محاربته. هناك أطراف أخرى ساهمت، في شكل مباشر (معظم قادة التنظيم ضباطاً وعسكريين كانوا سجناء الأميركيين أو مطارَدين بعد حلّ جيش النظام السابق) أو غير مباشر (أجهزة أو جهات مموّلة عربية وغير عربية باحثة عن فئات يمكن الاعتماد عليها لمساعدة السوريين والعراقيين)، وقد انزلقت هذه في الخداع «الداعشي» الذي أومأ لكل طرف بالإشارة التي تريحه. في البداية، أوحى لعراقيي المحافظات السنّية بأن لا شيء يرتجى من دولة المالكي، ولم يكذّبه هذا الأخير، فصار التنظيم بديلاً لا بدّ منه. وبالتزامن تسرّب «داعش» إلى شمال سورية وقدّم نفسه نصيراً للمعارضة التي يجب ألا ينسى أحد أنها أُرغمت على القتال، ثم توالت الوقائع التي أثبتت أنه بالأحرى نصير للنظام ورأس حربته داخل مناطق المعارضة.
معلومٌ أن النظام الإيراني كما نظام بشار الأسد انفرد أواخر العام 2001 بعلاقة عميقة مع «القاعديين» الهاربين من أفغانستان أو المستجدّين فعمدا إلى توظيفهم في «مقاومة» الاحتلال الأميركي العراق، بعد إيحاءات واشنطن بأن هذين النظامين هما التاليان على اللائحة بعد نظام صدّام حسين. في ما بعد صار «القاعديون» «داعشيين» وظلّوا يقدّمون إلى طهران ودمشق خدمات مقابل تسهيلات، وحتى عندما راحوا يعملون لمشروع «دولة الخلافة» لم يخرجوا كلياً من دائرة الاستخدام الأسدي – الإيراني. فنظام دمشق يفضّل حالياً الانسحاب من بعض المناطق (تدمر، مثلاً) لمصلحة «داعش» على تسليمها إلى المعارضة، انسجاماً مع سعيه لتثبيت فكرة «إمّا النظام وإمّا داعش». فالتنظيم زائل، كما يعتقد الجميع، والمعارضة باقية لأن النظام إلى زوال. أما في العراق فمن الواضح أن التحقيق في ظروف سقوط الموصل سيجد صعوبة بالغة في تحديد مَن أعطى الأمر بالانسحاب وتسليم المدينة إلى «داعش» من دون مقاتلته. وعلى رغم أن هذا الحدث عنى عملياً فشلاً كاملاً لنظام «إيرانيي» بغداد إلا أن طهران وأنصارها تصرّفوا كمن جاءته فرصة يتوقعها بل استدرجها، لتصبح اللعبة قاصرة على خيار مكشوف فـ «إمّا إيران وإمّا داعش».
في الحالين العراقية والسورية، كانت إيران الجهة المشرفة على هندسة الاختراق «الداعشي» كوسيلة مثلى لشيطنة الأطراف المناوئة لنظامَيها في بغداد ودمشق اللذين أنطقتهما طهران بمصطلحات استوحتها مما حفره «خبراؤها» في الأرض، فبعدما كان الأسد والمالكي يشيران معاً إلى أنهما يتعرضان لـ «مؤامرة» ويحاربان «إرهابيين»، أصبحا يعلنان أنهما في مواجهة مع «التكفيريين». ولأن القوى الخارجية كانت على علم بالحقائق على الأرض إلا أن اجتياحات «داعش» وفّرت الدليل الذي انتظرته طهران، فليس مهمّاً عندها ما يحصل لسورية والسوريين أو للعراق والعراقيين، بل المهم أن تساهم «الحرب على داعش» في تعزيز مكاسبها في البلدين. لكن التداعيات لم تأتِ دائماً كما توخّتها، خصوصاً أنها جاءت في خضم مفاوضاتها النووية والاختراق الحاصل في علاقتها مع الولايات المتحدة، فلم تشأ أن تشوّش على هذا المسار الاستراتيجي، وإنْ كانت نفّذت ما تريده من خلال توجيه خيارات بغداد في حرب تحرير المناطق من سيطرة «داعش» (مشاركة إيرانية مباشرة في معارك ديالى، ومشاركة غير مباشرة في تكريت، ثم الضغط لـ «شرعنة» ميليشيات تدين بالولاء لإيران لا للدولة العراقية)، فيما عرقلت تنفيذ ما لا يناسبها كتسليح العشائر السنّية، ما دفع الجانب الأميركي إلى فرضه كأمر واقع.
وبطبيعة الحال وجدت تركيا، مع ظهور «داعش»، واقعاً جديداً في المناطق القريبة من حدودها، وبين السعي إلى معرفة حقيقة هذا التنظيم والرغبة في ترويضه وربما الاستفادة منه دعماً لفصائل في المعارضة السورية نشأت مصلحة مشتركة فراحت أنقرة تغضّ النظر عن تدفق المتطوّعين له أسوة بسواه. لكن انتشار «داعش» منتصف 2014 واحتجازه موظفي قنصليتها في الموصل شكّل الإنذار الأول للأتراك فاعتقلوا عدداً من «الداعشيين» لمبادلته بالرهائن. بعدذاك تغيّرت أجواء العلاقة، لكنها استمرّت تعايشاً حذراً أوجبته ضرورات التواصل التركي مع شمال سورية من جهة وشابته ضغوط أميركية – غربية من جهة أخرى. في الأثناء اشتعلت معركة عين العرب (كوباني) التي طوّرت العلاقة بين أكراد «حزب الاتحاد الديموقراطي» والأميركيين الباحثين عن أي طرف على الأرض يمكن الاعتماد عليه في محاربة «داعش». هذا الحزب الكردي أوجلاني الأصل ولا تزال له علاقة مع أجهزة في نظام الأسد سبق أن تدخّلت مراراً وتوصّلت إلى وقف اشتباكات بين «الاتحاد» و «داعش». ويُعتبر الحزب فرعاً مرتبطاً بـ «حزب العمال الكردستاني» المرتبط بدوره بالدعم الإيراني نظراً إلى حاجة مقاتليه في جبال قنديل إلى أسلحة وتسهيلات لوجيستية.
هذه العناصر المتداخلة شكّلت أخيراً خلفية المأزق التركي في الداخل كما في شمال سورية. من الأزمة التي ولدت مع نتائج الانتخابات وانعكاسها على «عملية السلام مع الأكراد إلى إلحاح استحقاق التفاهم مع الجانب الأميركي حول محاربة «داعش» ودعم المعارضة السورية وتدريبها، ومن التغيير الذي شكّله اعتماد الأميركيين على أكراد سورية الذين اجتاحوا تل أبيض وهجّروا العرب والتركمان وبدأوا يضعون معالم كيانهم الخاص أو «دويلتهم» في سورية، وصولاً إلى التغيير الأهم المتمثّل في الاتفاق النووي الذي أطلق إشارة أولى جدّية لاقتراب المساومة على مناطق النفوذ في سورية وعموم المنطقة. تحرّك الأميركيون قليلاً خارج السلبية التي اعتادها الأتراك منهم منذ بداية الأزمة السورية، أصبحوا أكثر إقراراً بعدم قبولهم «دولة كردية» في سورية وأكثر استعداداً لقبول صيغةٍ ما لـ «منطقة آمنة»، فلا «منطقة حظر جوي» معلنة تفادياً للمرور بمجلس الأمن والاصطدام بـ «الفيتو» الروسي – الصيني، بل حظر جوي (دي فاكتو) بفعل الضربات الجوية المكثّفة من خلال قاعدة أنجرليك… هكذا، أصبحت ورقة «داعش» منتهية الصلاحية بالنسبة إلى أنقرة.
إلى حرب مزدوجة، إذاً، ضد «داعش» و «حزب العمال الكردستاني» في آنٍ، لن تكون سهلة. فلا أحد يقدّر الآن كيف سيكون استغلال نظامي إيران والأسد الوضعَ المستجدّ تركياً سواء بتحريض الأكراد على المواجهة المسلّحة مع الحكم أو بفتح مسالك لـ «داعش» إلى الداخل التركي. وفي الوقت نفسه لم يتضح مدى الثقة التي بنيت عليها الاتفاقات الأميركية – التركية، ولا كيفية ملاءمتها مع الصفقات والرهانات والمساومات الآتية بين واشنطن وطهران. وعلى رغم أن دخول تركيا شريكاً كاملاً ضد الإرهاب، إلّا أنّه لا يقرّبها من إسقاط نظام الأسد بل يلغي صفحة غامضة طالما أتاحت لدمشق الاستثمار فيها ولطهران اصطناع البراءة وطرح نفسها رائدة الاعتدال، كأن «تصدير الثورة» نوع من التبشير باللاعنف.
الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى