حكاية التوقيع على الوثيقة الكردية بين المجلس الوطني الكردي والائتلاف
للحقيقة والتاريخ وأجيالنا المقبلة
عبدالباسط سيدا
الوثيقة الخاصة بالقضية الكردية في سوريا بوصفها قضية وطنية عامة التي وقع عليها المجلس الوطني الكردي مع ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية بتاريخ 27- آب/اغسطس 2013 هي حصيلة عملية تراكمية أسهمت في صياغتها جملة عوامل، منها: تلك المناقشات التي كانت بين مختلف أطراف المجلس الوطني السوري في مرحلة التأسيس وما بعدها؛ والمباحثات التي كانت بين المجلسين (الوطني السوري والكردي السوري)، بهدف التوصل إلى صيغة من الاتفاق بين المجلسين، والتوافق على العمل المشترك على أساس برنامج المجلس الوطني السوري، ومشروعه الوطني المطالب بحكم مدني ديمقراطي يفتح المجال أمام سائر القوى الوطنية السورية، بغض النظر عن توجهاتها أوانتماءاتها الدينية أو المذهبية، وحتى القومية ضمن إطار مشروع وطني عام جامع، يفسح المجال أمام سائر القوى والتوجهات الوطنية السورية الراغبة في القطع مع سلطة الاستبداد والفساد والإفساد.
وقد بدأت المناقشات الجادة حول القضية الكردية في سوريا بوصفها قضية وطنية عامة تهم جميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم المجتمعيه، ومواقفهم السياسية؛ ضمن إطار لقاء التنسيق الديمقراطي، المجموعة الأساسية الأولى التي بدأت اجتماعاتها في اسطنبول في أواسط صيف عام 2011، وناقشت بجدية أهمية وضرورة تشكيل المجلس الوطني السوري، وهي المجموعة التي انضمت إليها لاحقاً مجموعة العمل الوطني، وشارك ممثلوها في لقاء الدوحة إلى جانب ممثلين عن اعلان دمشق وهيئة التنيسق، قبل انضمام جماعة الاخوان المسلمين إلى اللقاءات. وكان الاعلان في ما بعد عن تأسيس المجلس الوطني السوري في صيغته الثانية الرسمية في الثاني من تشرين الأول/اكتوبر عام 2011، برئاسة الدكتور برهان غليون.
وفي كل الاجتماعات مع النشطاء السوريين من شباب الحراك الثوري، ومع القوى السياسية السورية، وحتى مع ممثلي القوى الاقليمية والدولية كانت القضية الكردية ضمن جدول الأعمال، وعلى طاولات المفاوضات، خاصة في أجواء التعتيم الذي كانت سلطات البعث الأسدية قد فرضته على القضية المعينة، والتوجيهات التي أعطتها بشأنها؛ وكل ذلك كان قد أثر في تفكير وتوجهات القوى العلمانية التي كانت قد تعاملت مع القضايا القومية بوصفها حصيلة ايديولوجيا رجعية، هذا في حين أن التيارات الاسلاموية كانت أكثر عملية، وتتعامل مع الموضوع ببراغماتية مدروسة، تستمد حيويتها من حسابات التيارات المعنية الانتخابية، فقد كانت ترى أنها في نهاية المطاف ستهيمن على المشهد بأسره بحكم أمر الواقع لكونها تمثل الأغلبية العددية .
وما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أننا في اجتماع من اجتماعات المجلس الوطني في القاهرة تناولنا الموضوع الكردي مجددا. وكان الهدف من ذلك هو التأسيس للمشروع الوطي السوري الذي يضمن حقوق سائر المكونات المجتمعية السورية على أساس الاعتراف بخصوصياتهم من دون أي استناء؛ فقد تبين لنا أن السوريين يجهلون بعضهم بعضاً،، ولديهم أحكام مسبقة لا تطمئن بشأن بعضهم البعض.
ومع تطور النقاش، ومطالبتي بوضع النقاط على الحروف، حتى نقطع الطريق على القيل والقال؛ ونسد الأبواب على السلطة الأسدية الذي كانت تشير سائر المعطيات بأنها ستتلاعب بالقضية المعنية، بغية المصادرة على اي امكانية لتفاهمات وتوافقات عربية كردية، كان من شأنها أن تكون اساساً لتفاهم سوري وطني عام، خاصة بعد ورود معلومات، وظهور معطيات تؤكد أن السلطة المعنية ستتفاهم مع حزب العمال الكردستاني عبر واجهاته السورية، وذلك بغية ضبط الأمور في الساحة الكردية لصالح سلطة الأسد، والحيلولة دون تفاعل ايجابي كردي واسع مع الثورة السورية.
وهنا أود الإشارة إلى ما سمعته من أحد أعضاء اعلان دمشق في الاجتماع المذكور إذ قال أمام الحضور: إن ما يطالب به هنا لم تتمكن خمس أحزاب كردية الحصول عليه رغم انضمامها إلى اعلان دمشق.
وفي الاجتماع العام للمجلس الوطني السوري الذي كان في تونس بتاريخ 19 كانون الأول 2011، حدث هرج ومرج بخصوص تحديد مدة رئاسة الرئيس. فهناك من كان يطالب بتمديدها إلى نحو عام، وهناك من كان يشدد على ضرورة الابقاء على مدة ثلاثة أشهر، وذلك بناء على التوافقات التي كانت قد تمت بين المؤسسين؛ وكان ذلك بفعل القراءة الخاطئة للوضع السوري. فقد كان الاعتقاد هو ان التغيير سيكون سريعا، لذلك لا بد من اعطاء الجميع في المكتب التنفيذي الفرضة للظهور في المشهد. في هذا الاجتماع اصيب الدكتور برهان بالإرهاق، وبما بما يشبه الانهيار، خاصة انه لم يكن معتاداً من موقعه كأكاديمي على الاجتماعات السياسية الصعبة، وليس لديه فكرة وافية عن أهمية وضرورة الاستماع لمختلف الاراء، والصبر والتحمّل؛ لذلك تم تكليفي من قبل الزملاء بإدارة الجلسة الثانية الأساسية التي كانت قبل الجلسة الأخيرة التي كان من المقرر ان يُتلى فيها البيان الختامي.
لقد أخذت الجلسة المعنية الكثير من الوقت والجهد نتيجة الفوضى العارمة، خصوصاً أن كل طرف كان يحرص على تأمين موقعه في خارطة المتغيرات التي كانوا يعتقدون أنها ستكون سريعة. ومع انتهاء الجلسة، توجهت إلى مقر لجنة إعداد البيان الختامي الخاص بالاجتماع، وهي اللجنة التي كنت عضواً فيها.
راجعت البيان وادخلت عليه بعض الاضافات. أما بالنسبة إلى الموضوع الكردي فقمت بكتابة الفقرة الخاصة به بالكامل. وبعد انتهائي من الصياغة، وتقديم الوثيقة إلى اللجنة، أشار أحد أعضاء اللجنة إلى أهمية الاختصار، لأن النص المقترح طويل بعض الشيء، إلا أن الآخرين طلبوا المحافظة على النص كما هو، وذلك لطمأنة الكرد السوريين وتجاوز الخلافات معهم. وحينئذ طالب عضو آخر في اللجنة أن تكتب الفقرة ذاته للسريان الآشوريين. فتدخل الأخ عبدالأحد اسطيفو على الفور قائلاً: هناك فرق بين القضية الكردية والقضية السريانية الآشورية في سوريا، وتوجه إليّ طالباً أن اكتب فقرة خاصة بالسريان في البيان الختامي، وهذا ما فعلته، وهي الفقرة التي جاءت في البيان الختامي الذي صادق عليه الاجتماع العام للمجلس.
ولكننا بكل أسف لم نتمكن من تجاوز الخلافات نتيجة التأثر بالمنظومة المفهومية القوموية، والتعامل معها بأنها من المسلمات البدهيات. وهذا ما حدث في مؤتمر المعارضة السورية الذي انعقد في اسطنبول عشية مؤتمر أصدقاء الشعب السوري الثاني الذي انعقد هو الآخر في اسطنبول في بداية نيسان/ابريل 2012. فقد أصرّ الدكتور برهان، ومعه بعض أعضاء المكتب التنفيذي، على اهمال نص تونس الخاص بالقضية الكردية في سوريا، والاكتفاء بالعموميات الواردة في النص المقترح لوثيقة العهد الوطني، وهو الأمر الذي نبهت إلى خطورته وحذرت من نتائجه السلبية المتوقعة؛ لأنني من موقعي المتفاعل مع الحركة السياسية الكردية على مدى أكثر من 30 عاماً؛ إلى جانب معرفتي بخطط السلطة على صعيد تسليم مقاليد الأمور في المناطق ذات الأغلبية الكردية إلى الحليف القديم الجديد، (حزب العمال الكردستاني)، وذلك بتوجيهات من الحليف الإيراني؛ كنت أتوقع الذي سيحصل من جهة استغلال الموضوع من قبل بعض الكرد الذين لم يكونوا أصلا مع الثورة. غير اننا بكل أسف لم نصل إلى أي توافق. فقلت لهم: يبدو أننا نتحدث بلغتين مختلفتين. وغادرت الاجتماع ،ولكنني لم اغادر المؤتمر، وليس من عادتي أن الجأ إلى مثل هذه الأساليب، ففي أي اجتماع سوري اعتبر نفسي جزءا طبيعيا منه، ولم اشعر مطلقا بأنني مجرد ضيف يتودد إلى المضيف. فمن لا تعجبه أفكاري ليغادر هو إذا كان يرى في ذلك حلا.
وفي ساعات الصباح الأولى زارني في غرفتي عدد من أعضاء المكتب التنفيذي ليفهموا ما الذي حصل. شرحت لهم الوضع ، وقلت: إذا ما سارت الأمور بهذا الأسلوب، وبهذه العقلية فلن نصل إلى شيء، ولن نحقق للسورين الأهداف التي ثاروا من أجلها.، وبعد مناقشات وافق د. برهان على ادخال بعض التعديلات على النص، ولكن لم تصل إلى المستوى المطلوب وفق تقديري|.
وفي اليوم التالي التقيت بوفد المجلس الوطني الكردي، وممثلي عدد من التنسيقيات الشبابية، ووضعتهم في الصورة، وسلمتهم نسخة معدلة من وثيقة العهد، كانت تمثل توافقات الحد الأدنى التي وافق عليها المتشددون قومياً في المكتب التنفيذي، ولكنها لم ترتق إلى مستوى (وثيقة تونس)، وهو الاسم الذي باتت تعرف به الفقرة الخاصة بالقضية االكردية في سوريا التي جاءت ضمن البيان الختامي المشار إليه.
وتمنيت على ممثلي الكرد من الأحزاب والتنسيقيات والشخصيات المشاركة في الاجتماع وفق المراسيم المعتمدة، والتوزع على مختلف اللجان، والمطالبة بادخال التعديلات التي يرونها مناسبة. ولكن جماعتنا رفضوا ذلك، وكانوا يسعوا إلى بلوغ كل شيء دفعة واحدة، وكانوا يمارسون من حين إلى آخر لهجة التهديد بالانسحاب،؛ الأمر الذي أوصلني إلى قناعة بأنهم لم يأتوا بنية المشاركة الفاعلة، والمفاوضات الجادة للوصول إلى القواسم المشتركة، وإنما بغرض إحداث البلبلة، وهذا ما فعلوا بكل أسف. وقد تبين لاحقا أن الكثير منهم كان متوافقا أصلاً مع حزب العمال، وانضموا إلى إدارته لاحقا. وكان انسحاب الكرد من الاجتماع. وتحت يافطة الشعارات العاطفية ، والضغوط النفسية، وربما بناء على وعود، انسحبت الكتلة الكردية في المجلس التي كانت تتكون من ممثلي بعض الأحزاب والتنسيقيات والمستقلين، فأدركت حينئذِ وجود لعبة بين جملة الأطراف الغاية منها ابعاد الكرد عن الثورة السورية، وهذا ما دفع بي إلى رفض الانسحاب، والإصرار على ضرورة تعديل المواقف لقطع الطريق على المتلاعبين.
وما لاحظت هو أنني لم أكن وحيدا في الوصول إلى هذه النتيجة، لكن الفرق كان يتمثل في عدم قدرة بعضهم على مواجهة الحملات الشعبوية الرخيصة التي يتعرض لها المرء عادة في عالم السياسة. ولكن بعد المناقشات والحوارات ارتأينا كتابة نص يتوافق مع نص تونس، على أن يؤخذ به كجزء لا يتجزأ من وثيقة العهد الوطني؛ وهذا ما كان.
وفي صباح اليوم الأول للمؤتمر الثاني لأصدقاء الشعب السوري ، كان النص جاهزاً إلى جانب بيان كتبته بالتعاون مع الأصدقاء باللغتين العربية والانكليزية، وقد ساعدتنا المرحومة الدكتورة بسمة قضماني في ذلك، ووقفت إلى جانبنا، وقاطعت اجتماعات المؤتمر، بما في ذلك اجتماعها الذي كان مقررا مسبقاً مع وزيرة خارجية الولايات المتحدة في ذلك الحين، هيلاري كلينتون. كما وقف إلى جانبنا كل من الأخوين عبدالأحد اسطيفو، وأحمد رمضان. وقد أبلغنا أعضاء المكتب التنفيذي بأنكم ما لم توقعوا على النص المقترح سأخرج إلى الاعلام، واعلن مضطرا مقاطعتي لأعمال مؤتمر أصدقاء الشعب السوري. كنت حازماً وجاداً في موقفي هذا إلى أبعد الحدود، لأنني لاحظت أن جماعتنا في المكتب التنفيذي يحتاجون إلى صدمة ليفهموا الواقع على حقيقته. ووقع الجميع على النص المقترح وفي المقدمة منهم الدكتور برهان، وما زلت أحتفظ بالنص وتواقيع واسماء أعضاء المكتب التنفيذي عليها.
وتوافقنا على تنظيم مؤتمر صحافي في اسطنبول للاعلان عن النص الذي كان يمثل حصيل المقترح الحل، ويجسّد نتيجة التوافقات التي تمت حوله. وقد حضر معظم أعضاء الكتلة الكردية في المجلس الوطني السوري المؤتمر الصحفي، وتم تجاوز الخلاف في ذلك الحين.
ولكن الأمر الذي أثار انتباهي وتساؤلي في ذلك الوقت، هو اتصال أحد الأصدقاء من القياديين الكرد بي يطلب على خجل ضرورة التريث في عقد المؤتمر الصحفي والنظر في امكانية تأجيله ، وهي الفكرة التي لم أجد فيها أي فائدة فرفضتها على الفور؛ وما زلت، رغم مرور كل هذه المدة، أفكر في مقترح ذاك الصديق القيادي الذي لم يغادرحزبه الائتلاف حتى الأن.
وفي اجتماعاتنا اللاحقة بين الائتلاف والمجلس الوطني الكردي اقترحت على الزملاء الذين كانوا قد نزلوا من الشجرة بعض الشيء، ووضعوا حداً للغة الشعارات والمزايدات، وذلك بعد ان تمكّن حزب العمال من ازاحتهم واخراجهم من المولد بلا حمص كما يُقال، أن يتخذوا من الوثيقة الوطنية حول القضية الكردية في سوريا التي كان المجلس الوطني السوري قد توافق عليها، أرضية للمناقشة حول وثيقة جديدة بين المجلس والائتلاف؛ وقد سعينا من أجل انجاز ذلك، لاقناع كتل الائتلاف بالموضوع، إلى جانب كسب مواقف بعض القوى الدولية والإقليمية المؤثرة خاصة الأمريكان وبعض الدول العربية وتركيا وإقليم كردستان العراق. وكان التوافق على نص الوثيقة الجديدة، وهو النص الذي يقوم بنسبة تتجاوز 90% على وثيقة المجلس الوطني السوري حول القضية الكردية في سوريا.
هذه هي نبذة مختصرة عن بعض الأمور التي كانت تتم في واقع الحال، في حين أن الشعارات والتحويرات كانت تهيمن على المشهد، وتمنع المهتم من رؤية الحقائق التي كانت على أرض الواقع.
وقبل أن أنهي هذه الشهادة المختصرة التي كتبتها للتاريخ وطلاب الحقيقة. أود أن أشير إلى أمر آخر حصل معي أثناء فترة رئاستي للمجلس؛ فبعد الانسحاب الكردي غير المسوغ، الذي كان بفعل تأثير واجهات حزب العمال الكردستاني من مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية في صيف عام 2012، توجهنا إلى باريس للمشاركة في المؤتمر الثالث لأصدقاء الشعب السوري، وقد خصصت يومئذٍ ثلث كلمتي للقضية الكردية في سوريا، وهي الكلمة التي ألقيتها أمام أكثر من 100 وزير خارجية شاركوا في أعمال المؤتمر، إلى جانب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند. وكانت الكلمة تُبث وتُترجم مباشرة على الهواء بمعظم اللغات الحية في العالم. وفي زيارة من زياراتي إلى اقليم كردستان العراق التقيت بمجموعة من الأصدقاء ينتمون إلى أحزاب كردية سورية مختلفة. ,اشاد الجميع بكلمتي. فقلت لهم: ما دمتم تقرون بأهمية الكلمة تلك، هل قمتم بنشرها كاملة أو مقتطفات منها، في جرائدكم؟ وكان الصمت البليغ.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “325”