آراء

حين تغتال الحكومات شعوبها

د. جوتيار تمر – إقليم كُردستان

في أروقة التاريخ والواقع، هناك حالات أصبحت فيها الحكومات أداة قمع لشعوبها، بدلاً من كونها درعاً يحمي مصالحها وحقوقها، تلك الظاهرة تعكس مأساة تتكرّر على مرّ العصور، حيث تسقط الدول في دائرة الظلم حين تتحوّل السلطة إلى وسيلة للتسلط والهيمنة.

إنّ ظاهرة القمع السياسي التي تمارسها الحكومات ضد شعوبها، مركزة على الأشكال غير التقليدية لذلك القمع، منها مصادرة الحريات، وتقييد الحقوق، وتشويه الوعي المجتمعي عبر الإعلام، واستغلال الأجهزة الأمنية والعسكرية. مما يترك آثاراً متعددة ذات أبعاد نفسية واجتماعية ناجمة عن سياسات القمع تلك، فضلاً عن كونها تنعكس سلباً على النسيج الوطني، كما هي الحالة الكُردية في كلٍّ من العراق، سوريا، تركيا، وإيران. فغياب نظم حكم تستند إلى العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، تفرض إجمالاً واقعاً مغايراً ومختلفاً عن الواقع الافتراضي الذي تظهره تلك الحكومات على الأغلب.

شهد التاريخ الإنساني عبر العصور المتعاقبة أنظمة سياسية مارست السلطة بأساليب قمعية، حوّلت الحكومات إلى أدوات اغتيال معنوي ومادي لشعوبها، وتبرز خطورة تلك الممارسات حين تتحوّل الدولة من كيان يفترض أن يحمي حقوق الأفراد، إلى آلية لمصادرة تلك الحقوق، مما يؤدّي إلى تفكك الروابط الوطنية، وتنامي النزعات الانفصالية، وتفاقم الصراعات الداخلية، ويمكننا أن نرى بوضوح وفق السياقات المعاصرة ما يحدث للشعب الكُردي، والمستويات المتأزمة فيما يتعلّق بالعلاقات بين الحكومات المركزية وشعوبها.

تمارس بعض الحكومات القمع بصورةٍ ممنهجة، ليس فقط عبر العنف المباشر، بل من خلال مصادرة الحريات الأساسية وتكميم الأفواه، وتشويه الحقائق. ووفقاً لما يذكره غُر( Gurr, Why Men Rebel.1970)، فإنّ الحكومات الاستبدادية تسعى إلى فرض السيطرة عبر القمع المؤسسي، حيث يتمّ تجيير الإعلام، والقوات الأمنية، والأطر القانونية لتثبيت أركان السلطة، وهو ما لاحظه أيضاً الكاتب: (حسن حنفي السلطة والمجتمع جدلية العلاقة، 2003) في تحليله لعلاقة السلطة بالمجتمع، إذ تتحوّل الدولة إلى أداةٍ بيد فئة محددة تستخدم القانون والدستور لتحقيق مصالحها، كما يحصل في بعض دول الشرق الأوسط، حيث باتت السلطات تعيد إنتاج الأنظمة الديكتاتورية تحت غطاء ديمقراطي زائف، مستخدمةً أدوات مثل الإعلام الموجه، وتهميش القوى المعارضة، وانتهاك حقوق الإنسان (محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الانسان، 2001).

أحد أبرز مظاهر القمع السياسي في العصر الحديث يتجلّى في صراع الحكومات المركزية مع حكومات الأقاليم، ففي العراق، ورغم وجود نظام فيدرالي يمنح إقليم كُردستان حكماً ذاتياً، لا تزال العلاقة مع بغداد مضطربة، خصوصاً فيما يتعلّق بتوزيع الموارد وفرض السلطة المركزية، وهو ما يعكس رغبة المركز في بسط الهيمنة على الإقليم، حتى ولو أدّى ذلك إلى خرق الدستور أو تعطيل عمل المؤسسات الديمقراطية (Human Rights Watch, 2023)، أما ما يحدث في سوريا، فهو تكرار المأساة، إذ رغم سقوط النظام الديكتاتوري البعثي، وتنوع القوى المسيطرة على الأرض، لم ينجُ الكُرد من سياسات الإقصاء، فبعض فصائل المعارضة السورية – التي يفترض بها تمثيل ثورة شعبية – مارست التهميش نفسه بحق الكُرد، في استمرار للعقلية الإقصائية التي تبنّاها النظام السابق، ما يؤكّد أنّ القمع ليس حكراً على طرف سياسي دون آخر، ومعاناة الكُرد ممتدة عبر الجغرافيا السياسية وتعدّ نموذجاً متكاملاً لسياسات القمع متعددة الابعاد ، ففي تركيا: تحظر الدولة اللغة الكُردية في التعليم، وتلاحق النشطاء، وتعتقل الزعماء السياسيين الكُرد، وسط حملات عسكرية ضد المناطق ذات الأغلبية الكُردية (Yavuz, Five Stages of the Construction of Kurdish Nationalism in Turkey2001).

وفي إيران: يلاحَق الكُرد قضائياً ويمنعون من ممارسة نشاطهم الثقافي والسياسي، وتقمع احتجاجاتهم بعنف، في إطار سياسة أمنية صارمة؛ أما سوريا فقد حُرم الكُرد من أبسط حقوقهم، مثل الجنسية، والتوظيف، والتعليم بلغتهم، بل حتى بعد سيطرة المعارضة لم تمنح لهم مكانة توازي حجم تضحياتهم، ناهيك عما يحدث في العراق، فعلى الرغم من أنّ الاقليم يملك حكومة دستورية، إلا أنّ بغداد مازالت تمارس ضدهم ضغوط اقتصادية وسياسية، تتعلّق بالرواتب، والنفط، والمنافذ الحدودية ( Natali, The Kurds and the State:،2005).

حينما تضطهد الشعوب، يصبح الأثر الذي تتركه سياقات القمع مضاعفاً، لاسيما فيما يتعلّق بالجوانب النفسية والاجتماعية، إذ تتلاشى الثقة بين المواطن والدولة، ويتفكك النسيج الاجتماعي، وبتفكك ذلك النسيج ُخلق مناخ من الخوف والتوتر، حيث يخشى الأفراد التعبير عن آرائهم أو حتى مجرد الحلم بمستقبل أفضل، وذلك ما يترك آثاراً نفسية عميقة على الأفراد، حيث ينتشر الشعور بالعجز واليأس، مما يؤدّي إلى ظاهرة الهجرة الجماعية بحثاً عن الحرية والأمان، المجتمعات بدورها تُصاب بالركود، حيث تعطّل عجلة التنمية، ويتحوّل المواطنون إلى أدوات تسخّر لصالح النظام بدل أن يكونوا عنصراً فاعلاً في نهضة البلاد، وعلى الرغم من ذلك، بعض الشعوب مثل الكُرد أظهروا قدرة مذهلة على مقاومة الظلم، من خلال الحركات السلمية، والثورات الثقافية، والنضال السياسي، وذلك ما يثبت أنّ الإنسان الكُردي كان دائماً قادراً على تجاوز التحديات واستعادة حقوقه، فالسلاح لم يكن دائماً خياره الوحيد، أو النزول إلى الشوارع؛ بل أنّ خيار المقاومة احياناً كان يكمن في الكتابة، والغناء، والتواصل، والتعليم، فضلاً عن التوثيق التاريخي، Anderson, , Imagined Communities, 1991) )

مما يعني أنّ الأمل لا يموت مهما كان حجم المعاناة، وذلك تعبير آخر على أنّ اغتيال الحكومات لشعوبها ليس مجرد مأساة لحظية، بل هو تذكير مستمر بأهمية بناء أنظمة تضع الإنسان وكرامته في المقام الأول، فالدول التي تُدرك أنّ الاستثمار في شعوبها هو المفتاح للاستقرار والازدهار، تظلّ في ذاكرة التاريخ كنماذج للنجاح، كما أنّ الحكومات العادلة تدرك أنّ الشعب هو أساس وجودها، وأنّ أي تعدٍّ على حقوقه يعادل هدم أسس الدولة نفسها، فإنها تضع أساساً قوياً لبقائها، خلاف التي تستعبد شعوبها.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “331

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى