خلفية مهمة وفد «سورية الديموقراطية» في دمشق وأبعادها
عبدالباسط سيدا
كثرت التكهنات والتحليلات حول العوامل التي أدت إلى توجّه وفد ممّن يُسمى «مجلس سورية الديموقراطية» إلى دمشق، بناء على دعوة من الأجهزة الأمنية للتوافق على مستقبل المناطق التي تهيمن عليها القوات العسكرية التابعة للمجلس المذكور، الذي يمثل حزب الاتحاد الديموقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، عموده الفقري، هذا الحزب المدعوم حالياً من الجانب الأميركي الذي أوكلت إليه مهمة محاربة «داعش» في العديد من المناطق، ومنها: المنبج والرقة ومنطقة دير الزور والحسكة. فهناك من يتحدث عن خشية هذا الحزب من انسحاب أميركي، أو من يتحدث عن استراتيجية لهذا الحزب، هدفها المصادرة على احتمالات تدخّل تركي، أي منع تكرار سيناريو عفرين.
واللافت في الأمر، الربط بين هذا الحزب وكرد سورية، كأن هذا الحزب يمثل إرادة الكرد السوريين، ولسان حالهم. وبالتالي، فإن أي صفقة يعقدها مع النظام أو غيره ستسجّل باسم الكرد السوريين، هذا في حين أن المطّلع على جانب من تاريخ كرد سورية، وموقعهم من الثورة السورية، سيدرك أن علاقة هذا الحزب مع المجتمع الكردي السوري شبيهة تماماً إلى حدٍ كبير بعلاقة «داعش» مع المجتمع العربي السني السوري. فهي علاقة هيمنة وسيطرة بقوة السلاح، تقوم على قمع كل الأصوات والإرادات المناهضة للنظام السوري. والأمثلة في هذا الميدان لا حصر لها، يستطيع كل باحث مهتم أن يتابعها من خلال العودة إلى يوميات الثورة السورية وتطوراتها، وتحوّل مساراتها.
فهذا الحزب دخل أصلاً إلى المناطق الكردية السورية بناء على اتفاق أمني مع النظام السوري منذ بداية الثورة، وبالتفاهم مع النظام الإيراني الذي ما زال هو الموجّه والمتحكّم بقيادات حزب العمال الكردستاني في قنديل، وهي القيادات الفعلية التي تشرف على كل صغيرة وكبيرة ضمن مناطق ما تسمى بالإدارة الذاتية التي أعلنها حزب الاتحاد الديموقراطي من جانب واحد.
ويتذكّر المهتمون المتابعون جيداً بنود الخطة التي وضعها الحزب المذكور لنفسه من أجل التفرّد والتحكّم بالمناطق الكردية، وكبح النشاطات التي كان يقوم بها الشباب الكردي الذين تفاعلوا مع الثورة السورية منذ اليوم الأول. ففي البداية، أعلنوا أنهم سيعملون من أجل الحفاظ على الخصوصية الكردية، وحماية المناطق الكردية. كما زعموا أنهم ضد النظام، لكنهم من دعاة «الخط الثالث». ثم اقتربوا من المعارضة بعد محادثاتهم مع تركيا. حتى أن الولايات المتحدة الأميركية كانت تريد الانفتاح عليهم، لكن شرط أن يقطعوا علاقتهم مع النظام، ويتفاهموا مع المعارضة.
لكن مع تغيّر الأولويات الأميركية في المنطقة كلها في عهد إدارة أوباما، لا سيما في مرحلة المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، يبدو أن توافقاً ما قد تم مع الروس من أجل التخلي عن شرط إزاحة بشار الأسد عن الحكم، والتركيز على ملف الإرهاب الذي يثير أسئلة وشكوكاً كثيرة.
ومن الواضح أن ذلك التوافق لم يكن في غياب إسرائيل. وهنا حدث ما يمكن تسميته توزيع المهام بين الجانبين الروسي والأميركي، مع تدخل إسرائيلي وقت اللزوم.
دخل الروس الساحة السورية في صورة علنية وبقوة عبر قواتهم العسكرية، بخاصة الجوية منها في خريف عام 2015 وسط أجواء تميّزت بصمت أميركي وعربي وإقليمي.
وفي المقابل، أكتفى الأميركان بالتدخل الجوي وبإرسال بعض المستشارين والخبراء. لذلك، كان عليهم العثور على طرف له وجود على الأرض، يستخدمونه في الحرب التي أعلنوها على «داعش»، فوجدوا في حزب الاتحاد الديموقراطي ضالتهم بعد الإخفاق الذريع الذي مُني به برنامج تدريب فصائل الجيش الحر. فقد اشترطت تلك الفصائل أن يشمل قتالها في سورية محاربة داعش والنظام معاً. في حين أن المطلوب أميركياً كان محاربة داعش فقط من دون النظام.
ونحن إذا تابعنا السلاسة التي كان، وما زال، يتنقّل بموجبها الحزب المعني هنا بين الأميركان والروس، ودخوله في الصفقات الأمنية مع مختلف الأطراف، وجدنا أنه تفاهم في منطقة عفرين مع الروس، وفي كوباني والجزيرة تفاهم مع الأميركان، وفي جميع الأحوال كان ينسّق مع النظام. نحن إذا تابعنا ذلك كله، ندرك أن الجميع كان يتحرّك بموجب التوافقات الكبرى التي كانت قد تمت بين القوتين الأكبر، وبناء على تفاهمات مع القوى الإقليمية المعنية بالوضع السوري.
ومع الوقت، تحوّلت قوات الحزب المعني إلى قوات مرتزقة في واقع الأمر. تعرض خدماتها على الجميع بمن فيهم النظام. ومن أجل ذلك، تطبق التجنيد الإجباري بحق الشباب الكرد في سورية، لتستخدمهم وقوداً في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل. لكنها مطلوبة من جانب القوى العليا المشرفة على هندسة الأوضاع في سورية، لتصبح متناغمة مع استراتيجاتها، وفي معزل عن تضحيات السوريين وتطلعاتهم.
ويبدو أن التفاهم الثلاثي الأميركي – الروسي – الإسرائيلي بتفرعاته الإقليمية استمر في مرحلة ترامب، وأسفر عن جملة تحوّلات لمصلحة النظام بعد أن حصل هذا الأخير على تزكية إسرائيلية واضحة، ربما تكون جزءاً من صفقة أشمل، يجري العمل عليها في الخفاء.
فما حصل في الغوطة والجنوب السوري، وما يحصل حالياً في مناطق الشمال الغربي، لا يخرج عن نطاق ترتيب الأوضاع لمصلحة النظام على المستوى الداخلي. أما المساعي الروسية من أجل تأمين عودة اللاجئين السوريين من دول الجوار، وحتى من أوروبا، إلى الداخل السوري، فهي تأتي في نطاق التفاهمات الدولية المشار إليها، والرغبة في تسويق النظام على المستويين الدولي والإقليمي.
ومن هنا، نرى أن تحرّك حزب الاتحاد الديموقراطي باتجاه دمشق إنما هو في جوهره خطوة متكاملة مع الجهود المبذولة لتمكين النظام، ومدّه بأسباب القوة على المستوى الداخلي، حتى يصبح القبول به دولياً وإقليمياً مسألة تحصيل حاصل.
أما الحديث عن موضوع تشكيل اللجان بين الحزب المعني والجانب الحكومي، وذلك من أجل حل المشكلات، والبحث في طبيعة آلية العلاقة مستقبلاً بين المناطق الخاضعة هذا الحزب، فهي كلها مسائل للاستهلاك المحلي، تتماثل إلى حدٍ بعيد مع تلك المزاعم التي كانت تتحدث عن تحرير المناطق المعنية من جانب الحزب المعني. هذا في حين أن الجميع يعلم أنه لم تكن هناك معركة واحدة بين هذا الحزب والنظام. وإنما كانت هناك مسرحيات سيئة الإخراج لتضليل الناس. فالنظام بكل قوته لم يغادر المناطق المعنية، لم يغادر القامشلي والحسكة ودير الزور على وجه التحديد. فهو ما زال يحتفظ بقياداته الأمنية، ويمتلك القوات العسكرية، ويسيطر على المطار. ويسيّر الإدارات، ويدفع الرواتب. وكل ما كان يحصل كان يتم ضمن دائرة إعادة توزيع المهام وتقاسم الأدوار.
واليوم، بعد أن انتهت المهمة، حان الوقت لعملية التسليم والاستلام العكسية، مع بعض الرتوش التزيينية بطبيعة الحال هنا وهناك، حفاظاً على ماء الوجه، أو ربما، وبكلام أدق، تحسباً لاحتمالات مستقبلية تدفع بالنظام نحو استخدام الحزب المذكور في مهمات جديدة.
الوضع الكردي السوري هو جزء من الوضع السوري العام. فما يسري على الأخير يسري على الأول. ومثلما قد تم الاتفاق على الوضع العام، يبدو أن الاتفاق قد تم على الوضع الكردي أيضاً. وذلك على أساس إيجاد صيغة من التوافق بين مصالح القوى الدولية والإقليمية ومطالبها. أما المتطلبات والتطلعات الكردية، فهي لن تكون سوى مادة للإيهام والتعمية، شأنها في ذلك شأن تطلعات سائر السوريين ومطالباتهم.
الحياة