دراسة عن الشرق المستبد والدولة الميراثية
المحامي محمد علي باشا
يقول مانكور أولسن : الحكام قطاع طرق ثابتين ينتزعون أكبر غنيمة ممكنة من المجتمع على شكل ضرائب الا اذا منعوا سياسيا من ذلك .
سأنطلق من هذه المقولة للتمييز بين الانظمة السياسية الحديثة وتلك الميراثية الاستبدادية المتأخرة و لشرح طبيعة النظام السياسي لدول مجلس التعاون الخليجي كنموذج:
-يقف العديد من الخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين بذهول أمام التطور الحاصل في منطقة الخليج العربي -منذ النصف الثاني من القرن العشرين لتاريخ اليوم ويصفونها بالطفرة النوعية والنهضة الاقتصادية الكبيرة- التي تتناقض مع طبيعة هذه المنطقة الجغرافية والمناخية- و التي ساهمت عدة عوامل في قيامها كالثروة المالية الكبيرة التي تراكمت من عوائد النفط والغاز و التخطيط العلمي الصحيح و الاستعانة بالخبرات الغربية إضافة للارادة السياسية وعزيمة حكامها ..الخ.
-العوامل التي ساهمت في تسارع عملية التطور والنمو المشار اليها رغم الصعوبات الكبيرة والتحديات التي واجهتها على كافة المستويات حتى غدت المنطقة برمتها رقم الصعوبة رقماً في السياسة الدولية وتحولت إلى مركز جذب كبير للاستثمارات المالية من كافة أرجاء المعمورة اضافة لموقعها الجيوسياسي المميز الذي منحها- مع ما سبق ذكره- دورا اقليميا و دوليا كبيرا و مميزا في العديد من التحديات والملفات السياسية والاقتصادية الكبرى والساخنة .
– لا يملك أي مراقب لهذه الطفرة الا أن يندهش من ذلك التطور المتسارع الحاصل في شتى المجالات بدأً من البنية التحتية مرورا بالنهضة العمرانية والصناعية والسياحية والزراعية …الخ وانتهاء بالبحث العلمي ومراكز الدراسات بالقدر الذي انعكس ايجابا على حياة ورفاه مواطنيها فارتفع معدل متوسط دخل الفرد ومستوى التعليم و الضمان الصحي والاجتماعي …الخ حتى غدت هذه المنطقة حلم للكثير من الباحثين عن فرص عمل جيدة و مستوى معيشي مرتفع و رفاهية و بيئة مناسبة للاستثمار الا أن هذا التطور على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لم يوازيه -للأسف- ويرافقه تطور مماثل على المستوى السياسي الذي لا يزال دون المأمول بنظر غالبية فقهاء القانون الدستوري و علماء الاجتماع والنخب السياسية التي طالما تساءلت عن الآتي :
هل رافق تلك النهضة الاقتصادية وذلك التطور نهضة وتطور على الصعيد السياسي ؟
هل الانظمة السياسية الحالية لدول مجلس التعاون الخليجي هي دول حديثة بالتعريف الحقوقي والدستوري ؟؟
اذا كانت تلك الانظمة دولا بالفعل فهل هي متطورة سياسيا أم أنها دول متأخرة ؟؟
جملة من التساؤلات المشروعة التي حاولت الاجابة عنها انطلاقا من مقدمة افترض أنها منطقية مفادها أن التطور الاقتصادي والاجتماعي لنظام سياسي ما لا يشترط ويفترض تطور سياسي مواز ومرافق له والعكس صحيح أي أن التطور السياسي لنظام ما لا يفترض و يشترط تطور اقتصادي واجتماعي مواز ومرافق له وبذات الوتيرة وصولا الى نتيجة افترض كذلك أنها صحيحة ومنطقية مفادها أن الانظمة السياسية في الشرق عموما و الخليج العربي خصوصا هي دول مستبدة متأخرة سياسيا ذات طبيعة ميراثية شخصانية تتطابق الى حد كبير مع دول قديمة قامت قبل الميلاد بثلاثة قرون كالدولة التي في الصين أبان حكم العديد من السلالات التي تناوبت على السلطة كسلالة هان و تشين بمعنى أنها أنظمة سياسية / متأخرة / غير متطورة بخلاف أنظمتها الاقتصادية و الاجتماعية المتطورة كما أسلفنا بالنسبة لدول الخليج وكما هو الحال في جمهورية الصين الشعبية اليوم .
-بداية وقبل الشروع في الاجابة على التساؤلات المطروحة لا بد لنا من المرور بايجاز على تعريف ماهية الدولة و المؤسسات المكونة لها و تاريخ أول دولة- بالمفهوم الحقوقي الدستوري – ظهرت على مسرح التاريخ حتى يتمكن القارئ من الاحاطة بكافة جوانب الموضوع قبل مناقشة الأجوبة على التساؤلات- المثارة أعلاه- المناقشة المنطقية التي تمكنه من الاقتناع بها أو رفضها .
الدولة و المؤسسة : عرف ماكس فيبر الدولة بأنها احتكار الاستخدام الشرعي للقوة المادية في بلد ما في حين عرفها كارل ماركس بأنها /أداة قمع / بغض النظر عن دورها في تنظيم شؤون العامة و حمايتهم والدفاع عنهم أي أنها بعبارة أخرى الكيان التراتبي الممأسس الذي يحتكر القوة الشرعية في بقعة جغرافية معينة في حين أن المؤسسات المكونة لها هي مجموعة من الأنماط السلوكية الثابتة و المتكررة التي اعتادها وركن اليها أفراد مجتمع ما بحيث أن تلك الأنماط السلوكية تبقى ثابتة ومتكررة ومستمرة مع تعاقب الأزمان والأجيال رغم انتهاء سلطة من تناوب على حكم تلك البقعة الجغرافية من ملوك ورؤساء حيث تعد تلك الأنماط السلوكية بمثابة القواعد التي توجه السلوك البشري بشكل عام نتيجة لنزعة البشر الفطرية لمأسسة سلوكهم منذ بدء الخليقة .
تنقسم الدول بحسب ماكس فيبر الى نوعين :
الدولة الميراثية / الشخصانية ، الاستبدادية / :
-هي الدولة التي تقوم على المحسوبية ومحاباة الأصدقاء والأقارب والعشائر ..ألخ حيث يتحول النظام السياسي في هذا النوع من الدول الى ملكية شخصية للحاكم و تتحول ادارتها الى امتداد لادارة الحاكم لبيته وعائلته بحيث تنصهر شخصية الدولة بشخصية الحاكم لتصبح شخصية واحدة معبرة عن رغبات و آمال و طموحات هذا الأخير و تصبح النزعة الاجتماعية والاعتماد على الأقرباء والأصدقاء والعشائر الحليفة و الاقطاع و أصحاب النفوذ الركائز الأساسية في هذه الدولة الميراثية .
هي كذلك الدولة التي تفتقد لاحدى المؤسسات السياسية الثلاثة المكونة لأركانها / الدولة ، حكم القانون ، المساءلة و المحاسبة / فقد نجد دولة قوية تملك مؤسسات تشريعية متطورة وقوانين حديثة الا أنها تفتقد لآلية محاسبة ومساءلة حقيقة أو أنها دولة قوية تملك مساءلة ومحاسبة حقيقية الا أنها تفتقد لحكم القانون …الخ وفي جميع الحالات هي دول ميراثية متخلفة لفقدان ركن من أركانها .
الدولة الحديثة / اللاشخصانية، الرشيدة / :
– هي الدولة التي لا تستند فيها علاقة المواطن بالحاكم الى روابط شخصية أو علاقات اجتماعية أو مصالح مشتركة بل الى روابط قانونية بوصفه مواطن يعيش ضمن دولة مواطنة تحترم الجميع وتطبق القانون عليهم على قدم المساواة ولا تتكون ادارة الدولة من أقارب الحاكم أو أصدقائه أو حلفائه بل يعتمد التوظيف في المناصب الادارية على معايير لا شخصانية كالجدارة و مستوى التعليم و المعرفة التقنية والخبرة العالية .
هي الدولة التي تشتمل على المؤسسات السياسية الثلاثة / الدولة ، حكم القانون ، المساءلة و المحاسبة .
يمكن للمؤسسات السياسية بحسب صموئيل هنتغتون أن تتطور وتصبح أكثر مرونة وحداثة وقابلة للتأقلم و التغير الديناميكي بحسب الظروف المرافقة لعملها كما يمكن لها أن تنحط- كذلك- وتصبح معقدة ومتصلبة وغير قابلة للتأقلم بتغير الظروف التي رافقت نشأتها أول مرة .
تعتبر النزعة الاجتماعية الطبيعية للبشر المتمثلة في تفضيل اصطفاء الأقارب ومحاباة الأصدقاء مصدرا رئيسيا من مصادر انحطاط المؤسسة السياسية على العكس من الأنظمة السياسية الحديثة التي تشجع الحكم اللاشخصاني وتؤسس آلية اختيار المسؤولين على قاعدة الأجدر و الأفضل والأكثر تعليما بدلا من قاعدة الاقرب والأكثر نفوذا وسلطة فتحمي نفسها عن طريق حكم القانون لا عن طريق شبكة المتنفذين / الأولغارشيين / .
ان التصينف السابق الذي حدده فيبر للدول / ميراثية منحطة ، حديثة لا شخصانية / يستند على المجموعات الثلاث الحاسمة في المؤسسات السياسية وهي :
الدولة
حكم القانون
المحاسبة الديمقراطية
بمعنى أنه يستلزم للحكم على نظام سياسي معين على أنه ميراثي منحط أو حديث لا شخصاني من توافر ثلاث مؤسسات سياسية مهمة هي الدولة و حكم القانون و المحاسبة الديمقراطية وقد سبق لنا أن عرفنا الدولة و المؤسسة ولا بد لنا من تعريف المؤسستين الأخرتين أي حكم القانون و المحاسبة الديمقراطية .
حكم القانون :
جملة من قواعد السلوك التي أجمع عليها قطاع واسع من المجتمع بالقدر الذي تلزم فيه جميع المتنفذين و أصحاب السلطة من ملوك و أمراء و اقطاعيين و رؤساء و وزراء و رؤساء حكومات و تخضعهم للمحاسبة والمساءلة في حال اقترافهم الأخطاء أي -بمعنى آخر- تخضعهم لسلطتها دون أن يكون لهم القدرة على تجاوزها أو الاخلال بها أما اذا تمكن الحاكم من تغيير القانون وتفصيله على مقاسه كما هو حاصل في الشرق عموما فان حكم القانون سيختفي عندئذ من الوجود حتى وان طبقت مثل هذه القوانين باسلوب موحد على بقية أفراد المجتمع .
لكي يكون حكم القانون موجود فعليا يجب عليه أن يتجسد في مؤسسة قضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية ومن ثم فان حكم القانون وفقا لهذا التعريف لا يرتبط بأي هيئة قانونية ثابتة كتلك السائدة في الولايات المتحدة وأمريكا ويجب التمييز مابين حكم القانون و الحكم بالقانون ففي هذه الحالة الاخيرة يمثل القانون توجيهات و أوامر يصدرها الحاكم لكنها ليست ملزمة له شخصيا .
المحاسبة والمساءلة :
تعني المحاسبة والمساءلة استجابة الحكومة لمصالح المجتمع بأسره بدلا من مصلحتها الذاتية الضيقة ، في الحالة الأكثر نمطية تفهم المحاسبة الديمقراطية بوصفها محاسبة اجرائية أي انتخابات دورية نزيهة ومتعددة الأحزاب تتيح للمواطنين اختيار حكامهم وكبح جماحهم ومعاقبتهم . ويمكن للمحاسبة أن تتحقق بعدد من الطرق كالتعليم الأخلاقي والمحاسبة الاجرائية و الدمقرطة .
من كل ماسبق ذكره نستنتج أن القوة تتركز في مؤسسات الدولة التي تتيح للمجتمع استخدامها لتطبيق القوانين والحفاظ على الأمن والدفاع عن نفسه ضد أعداء الخارج وتوفير المنافع العمومية الضرورية بالمقابل يدفع حكم القانون وآليات المحاسبة والمساءلة بالاتجاه المعاكس أي تقييد سلطة الدولة وضمان استخدامها بأسلوب منضبط ورضائي أما معجزة السياسة الحديثة فتتمثل في القدرة على تبني أنظمة سياسية قوية وقادرة وفي الوقت نفسه مقيدة في العمل ضمن الضوابط والمعايير التي رسخها القانون والخيار الديمقراطي .
طبعا قد توجد هذه الفئات الثلاث من المؤسسات في كيانات سياسية مختلفة منفردة أو مجتمعة في توليفات متنوعة وهكذا تتمتع الصين بدولة قوية ومتطورة لكن حكم القانون فيها ضعيف والديمقراطية غائبة بينما يسود حكم القانون في سنغافورة وتوجد دولة قوية لكن الديمقراطية محدودة جدا كما تضعف الدولة وحكم القانون أو يغيبان كليا في كثير من الدول الفاشلة كهايتي و الكونغو الديمقراطية على الرغم من الانتخابات الديمقراطية التي جرت فيهما مؤخرا .
باسقاط ماسبق ذكره على الحالة الخليجية- أي مراقبة مدى توافر الشروط الثلاث المشار اليها في الأنظمة السياسية لدول مجلس التعاون الخليجي – للوقوف على حقيقة ما اذا كانت دولا حديثة لاشخصانية بالفعل أم أنها دولا ميراثية شخصانية متأخرة لا بد لنا من التمييز بين الكويت من جهة وبقية دول مجلس التعاون من جهة أخرى فالكويت شأنها شأن البقية تشتمل على نظام سياسي آميري الا أنه نظام أشبه بالملكيات الدستورية الغربية حيث أن الأمير يملك فقط في حين أن الحكم الفعلي للدولة بيد الحكومة و البرلمان المنتخب بصورة ديمقراطية أي أنها ذات نظام سياسي يمكن أن يوصف – بحسب التعريفات المذكورة اعلاه- بالحديث اللاشخصاني فادارة الدولة لا تتم من قبل أقرباء الأمير أو اصدقائه بالضرورة كما أن المناصب السيادية لا يشغلها أفراد من العائلة الحاكمة بصورة حصرية -وان كانوا يشغلوها في أغلب الاحيان- فقد شهدت مراحل عدة تولي العديد من المواطنين العاديين لمناصب سيادية مهمة كما أن البرلمان يتكون من أفراد منتخبين بطريقة ديمقراطية ، كما أن مبدأ المساءلة والمحاسبة متوافر – نوعا ما – فقد شهدت الكويت العديد من حالات محاسبة أحد أفراد العائلة الحاكمة بسبب منصبه أو وظيفته كما يشهد برلمانها بشكل متكرر استجوابات و حالات حجب ثقة كثيرة نتيجة للأداء الوزاري أو حتى الوظيفي وهذا يبرر قولنا بتوافر الشروط الثلاثة / الدولة و حكم القانون و المحاسبة والمساءلة / التي تمكننا من وصف نظامها السياسي بأنه حديث لا شخصاني حتى ولو كانت متوافرة بالحدود الدنيا وضمن خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها في بعض الحالات بالقدر الذي يجعلنا نتحفظ على اعتبارها دولة حديثة شأنها شأن الغرب و الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا واليابان …الخ لكنها -حكما – دولة حديثة مقارنة ببقية دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى التي يمكننا وصفها بأنها دول ذات أنظمة سياسية ميراثية متأخرة لم تستطع -حتى تاريخه- من تجاوز عقدة الحاكم بأمر الله ذي السلطات المطلقة المحصنة ضد أية مساءلة أو محاسبة قانونية ، فغالبية هذه الدول -ان لم يكن كلها- حديثة ومتطورة بالمفهوم الاقتصادي والاجتماعي كما أسلفنا – رغم أنها لا تزال ذات اقتصادات ريعية غير منتجة – الا أنها لم تتمكن من الوصول الى ذات مستوى التطور بالمفهوم السياسي بمعنى أنها لم تتمكن من تأسيس دول حديثة قوية يحكم فيها القانون و يخضع فيها الحاكم للمساءلة والمحاسبة فلتاريخه يتم توزيع كافة المناصب السيادية الرئيسية المهمة على أبناء الحاكم واخوته في حين يستحوذ الأصدقاء والأقارب على المناصب الأقل أهمية لتبقى الوظائف العادية من حصة باقي أفراد الشعب فرئيس الحكومة / في المملكة العربية السعودية أو الامارات العربية المتحدة على سبيل المثال لا الحصر / و وزير الداخلية والخارجية و النفط و الدفاع من أبناء الحاكم واخوته وبقية المناصب الأخرى للأصدقاء والمتنفذين الذي يشكلون طبقة أوليغارشية رافقت العائلة الحاكمة منذ تأسيس الدولة لتاريخه فضلا عن عصمة الحاكم من أية مساءلة أو محاكمة مهما كانت طبيعة الأخطاء و الجرائم المقترفة من قبله فضلا عن عدم وجود مؤسسات تشريعية حقيقية تشرع و تراقب بل مجرد مؤسسات شكلية / ديكورية / لا قيمة فعلية لها كالمجلس الاتحادي في دولة الامارات العربية المتحدة مما أفقد هذه الأنظمة السياسية مؤسستين / ركنين / رئيسيتين من مؤسسات الدولة الحديثة وهما مؤسسة حكم القانون و مؤسسة المساءلة و المحاسبة فأحكام القانون و المساءلة والمحاسبة تتم باتجاه واحد من القمة نحو القاعدة فقط أي من الحاكم تجاه مواطنيه فقط دون أن يوازيها محاسبة أو حكم للقانون بالاتجاه المعاكس أي من القاعدة باتجاه القمة أي بدون اعتقاد من الحكام بأنهم مسؤولون أمام الشعب الذي يحكمونه وأنهم يجب أن يضعوا مصلحته فوق مصالحهم بالقدر الذي يوصف جميع دول مجلس التعاون الخليجي باستثناء الكويت – من وجهة نظري الشخصية – بأنها لا تزال دولا ميراثية متأخرة بالمفهوم الحقوقي الدستوري تشابه الدولة التي أسستها أسرة سلالة هان الصينية قبل الميلاد أو الدولة الاسلامية التي تأسست في الهند على يد قطب الدين أيبك أو الملكية الفرنسية والاسبانية أو السلطنة العثمانية على سبيل المثال لا الحصر أي أنها دول موغلة بالقدم و الانحطاط السياسي والتأخر الحقوقي ولن يغير من هذه الحقيقة الأبراج و الجسور والطرقات و المطارات و المراكز التجارية التي نراها في دبي وأبو ظبي والرياض ….الخ أي أن التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي أبهرنا في هذه المنطقة لم يرافقه ويوازيه تطور سياسي مماثل وهذا أمر طبيعي ومتكرر الحدوث تاريخيا والأمثلة عليه كثيرة فالتطور الاقتصادي والاجتماعي – كما أسلفنا – لا يفترض ويشترط تطورا سياسيا موازيا والعكس صحيح فجمهورية الصين على سبيل المثال دولة متطورة اقتصاديا الا أنها منحطة سياسيا و دولتها ميراثية شخصانية متأخرة وكذلك الأمر بالنسبة لروسيا لافتقادها شرطي حكم القانون و المساءلة والمحاسبة فهما دولتان حديثتان اقتصاديا متخلفتان سياسيا ذاتا نظام استبدادي لم تستطيعا تجاوز هذه الحالة و التقدم نحو دولة أكثر حداثة كما حصل مع كورية الجنوبية وتركيا الللتان انتقلتا في مرحلة ما من حكم ديكتاتوري الى حكم ديمقراطي أسس لنظام سياسي حديث لا شخصاني .
ان استمرار هذا التناقض بين التطور الاقتصادي والاجتماعي من جهة والتطور السياسي من جهة أخرى في دول مجلس التعاون الخليجي لابد وأن يرخي بضلاله السلبية على الأنظمة الحاكمة يوما ما قد يطول أو يقصر ففي لحظة تاريخية حاسمة -مع استمرار هذا التسارع الكبير في تطور وسائل التواصل الاجتماعي و الاعلام الرقمي وارتفاع مستوى وعي الشعوب بحقوقها- ستضطر تلك الأنظمة الى اعادة النظر في آلية الحكم الحالية والتحول الى النظام السياسي الحديث على غرار الملكيات الغربية الحالية من خلال حوكمة رشيدة تطلق فيها الحريات وتفرض فيها أحكام القانون و تخلق مؤسسات قضائية مستقلة تحاسب الجميع بمن فيهم الحاكم اذا أخطأ -محاسبة في اتجاهين – وتنمي الشعور لدى الحكام أنهم مسؤولون أمام شعوبهم ومصلحتهم متأخرة عن مصلحتها بمعنى آخر وضع استراتيجيات محددة للانتقال بالتنظيم السياسي بعيدا عن التنظيمات الحالية المرتكزة على الاقرباء و الأصدقاء الى تلك اللاشخصانية التي تستند الى معايير الخبرة و مستوى التعليم والجدارة لا النفوذ و القرابة والسعي نحو الدمقرطة الحقيقية بدلا من المؤسسات التشريعية الحالية أي الانتقال من الدولة الميراثية التي يتلقى فيها الحكام الدعم والمساندة من شبكات الأصدقاء والأقارب والعشائر الذين يقتنصون المنافع والمكاسب المادية مقابل ولائهم السياسي الى الدولة الحديثة التي يعمل فيها مسؤولي الحكومة على خدمة المصلحة العامة الواسعة وحراستها والحفاظ عليها والامتناع عن استخدام مناصبهم لتحقيق مكاسب خاصة .
المصادر :
أصول النظام السياسي من عصور ماقبل الانسان الى الثورة الفرنسية / فرانسيس فوكوياما/
ماكس فيبر
فرنسا في 23/3/2024