ديمقراطية الشيخ والملا والدينار
كفاح محمود كريم
في احدى أكثر الصور إثارة تلك التي تجلت في التطبيقات الديمقراطية الغربية على بلدان تتحكم في مفاصل حركتها الحياتية الدقيقة موروثات مئات السنين من حكم شيخ القبيلة وعالم الدين (الملا) والدينار، تلك الصور الدخيلة تماما على أنماط السلوك والعادات في هذه البلدان، التي تعاني أساسا من إشكاليات في تكوينها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وخاصة ما يتعلق بمفهوم العدالة ومصادر قوتها، هذا الثلاثي الذي اثبت قدرته على إفشال معظم التجارب التي تم تطبيقها في مختبرات تلك الشعوب ودولها، وهنا استذكر كلاما لمواطن بسيط من عامة الأهالي وهو يتحدث بزهو عن عظمة الشعب ومقدرته على إفشال تلك التجارب، وكان يقصد الأنظمة وتجاربها، ابتداء من محاولات الهواشم في تكوين دولة مواطنة برلمانية ديمقراطية على غرار الأسطوات البريطانيين، لكن هذا الشعب العظيم نجح في تحويل برلمان الملك إلى مضيف من مضايف الشيوخ بكل عاداته وتقاليده، حتى انتصر الزعيم ورفاقه من الضباط الأشاوس في إبادة الهواشم وبرلمانهم وحكومتهم، والبدء بتأسيس الجمهورية الخالدة واشتراكيتها المزعومة، التي ما برحت أن أبيدت هي الأخرى، لكي ينتصر البعث ويشرع في تأسيس دولة حزبه المنشودة من الخليج إلى المحيط، والتي تمخضت فولدت الأنفال وغزو الكويت، وسرعان ما انهارت هي الأخرى وفشلت اشتراكيتنا الخاصة جدا! وحينما تأكد الغرب إن هذه التجارب والأنظمة أصبحت سلوكا وراثيا تاريخيا، بل أن الأخير أي نظام القائد الضرورة التصق بكرسي الحكم ومفاصله الاجتماعية والنفسية حتى لم يعد أي عراقي يجرأ بمجرد التفكير بتغييره، وكما قال احدهم بأنه لولا جيوش الغرب لحكم العراق أحفاد صدام حسين وأبنائهم، وبعد هذه السلسلة من التجارب وفشلها والانتصارات وانكساراتها جاء الغرب في البداية محررا ثم أصبح محتلا، لكي ينقذ هذه الشعوب ويبدأ بتطبيق برنامجه الديمقراطي معتمدا وبشطارة على الثلاثي التاريخي الشيخ والملا والدينار، مستخدما نظرية اتغدى بهم قبل أن يتعشوا بي!
ولنبدأ من حيث انتهت أوضاع هذه البلاد بقيام الفاتحين الجدد من الأمريكان وحلفائهم بإسقاط آخر الأنظمة الدكتاتورية فيها، وإدخالها في مدرسة الديمقراطية الغربية منذ خمسة عشر عاما، خاضت فيها ثلاثة امتحانات اقصد انتخابات كانت نتائجها جميعا ما نشهده اليوم في بلاد تم وصفها بالدولة الفاشلة والافسد في العالم حسبما جاء في تقرير منظمة الشفافية الدولية نهاية العام 2017م؛ حيث إن ثلثها مدمر في الاحتلال والتحرير، وثلثها الثاني يعاني من الفاقة والعوز والفقر وتردي الخدمات، وثلث ثالث محاصر ومحارب لكونه ازدهر وبازدهاره فضح عوراتهم فأراد الخروج من هذه العجقة المريبة.
امتحان رابع
تحت ظل هذه الظروف وهذا الواقع المزري تخوض بلادنا امتحانها الرابع بأكثر من ثمانية آلاف مرشح يتهافتون على حجز كراسيهم في بنك يسمى البرلمان، وامتيازات لا نظير لها في كل العالم المتقدم منه والمتخلف، وينتظرون موافقة ما يزيد على أربعة وعشرين مليون ناخب، غالبيتهم تنخر في مكنوناتهم العميقة ثقافة العبودية والقطيع القبلي أو المذهبي أو التكسبي، ولا يهمهم إطلاقا إلا رضا الشيخ أو المرجع أو الجيوب، بعيدا عن أي مفهوم ناضج للوطن والمواطنة الحقة. مدارس الديمقراطية الغربية التي فتحتها أمريكا وبعض بلدان أوربا في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا وقبلهم أفغانستان، أتت أكلها وأنتجت بلدانا خربة تعبث فيها أفواجا من الفاسدين والانتهازيين، وكرست ثقافة القرية والعشيرة والتناحر المذهبي والديني تحت غطاء الحرية والديمقراطية العرجاء، مدارس بمستويات عالية تفتتح لمجتمعات تعاني في الأصل من أمية أبجدية وحضارية وثقافية واجتماعية، ولا تقدر على إدراك مفاهيم قبول الآخر، واستبدال نمط حياتها بحياة جديدة لا تقبل رؤساء آلهة ولا أحزابا مخولة من الإلهة في حكم البشر، مجتمعات أدمنت على النظم التربوية والدينية والقبلية التي تكرس ثقافة الشمولية والعبودية وتلغي بشكل مطلق أي توجه نقدي، بل تعتبره كفرا وإلحادا، أو عمالة للأجنبي والمستعمر! في هذه المدارس تتساوى (الكرعة وأم الشعر – القرعاء ) كما يقول الدارج المحلي، أو مثل ما وصفه الرئيس العراقي السابق جلال طالباني (إن صوته وصوت أي نكرة آخر في الانتخابات واحد!) بمعنى إن أفواجا لا نهاية لها من الناخبين المسطحين من الذين لا يعرفون الخميس من الجمعة، يقودهم شيخ القبيلة أو رجل الدين بفتاويه المزاجية، أو الحاجات الأساسية وخاصة المال، هم الذين سينتخبون المرشح الفلاني دون النظر أو ربما حتى دون أي دراية عن أي شيء، إلا ما ينحصر في ما ذكرته وعلاقته بالثلاثي الديمقراطي (الشيخ والملا والدولار).
دولة مواطنة
الشيخ الذي حاول الرئيس احمد حسن البكر تهميشه ومن ثم إلغاء دوره في محاولة لتأسيس دولة مواطنة، اغتالها صدام حسين القروي وأنشأ بدلا عنها دولة العشيرة والقرية، هذا الشيخ الذي نُفخ فيه في تسعينيات القرن الماضي حتى أطلق على موديلاته الثلاث ألف وباء وجيم بشيوخ التسعين، أصبح الأداة الضاربة والآمرة لرئيس العشائر والقرى. والملا بشطريه السني والشيعي وتحت ظلال حكم الطبقة السياسية الحالية، أصبح هو الأخر أداة كما كان أيام الحملة الإيمانية الوطنية التي أنتجت هذه الأفواج من الملالي والمعممين والإرهابيين والفاسدين حتى النخاع، يساق من قبل هذه الطبقة كواحد من أهم وسائل النفوذ الاجتماعي، وسلم رباني للصعود إلى جنات السلطة والمال. والدولار وما إدراك ما الدولار وما سحره وتأثيره في صناديق الاقتراع ونتائج الانتخابات، ولكي لا نقسِ في جلدنا لذاتنا هنا، فهو أي هذه العملة العالمية التي دست انفها في انتخابات أعظم الدول وأعرقها في المضمار الديمقراطي، فما بالك فيمن إيراده السنوي لا يتجاوز ألف دولار، أي اقل من ثلاثة دولارات يوميا، ويدفع له مائة دولار لشخطة قلم أو لشراء بطاقته الانتخابية، هذا الدولار الذي يستخدم في شراء مناصب الدولة العراقية، ابتداء من مدير الناحية ووصولا إلى رئيس الحكومة، فما بالك بالأغلبية التي تتاجر على قد حالها بأصواتها، ولم يعد يهمها أو أساسا لا يهمها من سيجلس على الكرسي سواء في برلمان التهريج أو حكومة الصفقات والأكاذيب. مظلومة هذه البلاد بآفاتها وحليمتها التي تعود اليوم إلى عادتها وسلوكياتها، وان تغيرت وسيلة العودة من الزعيم الأوحد والحزب القائد والرئيس الضرورة إلى مختار العصر وقائد النصر، تحت ظلال أحزاب الله والإسلام والمذاهب تارة، وأحزاب الأمة الخالدة تارة أخرى، حيث تجتمع اليوم الأدوات الثلاث: شيخ القبيلة وشيخ المذهب وسيد الجيوب الدينار، لرسم خارطة العراق الجديد بأكثرية من الانتهازيين والوصوليين وتجار المناصب وعمولات الفساد والإفساد، وصدق من قال ستفوز نفس الوجوه ليس لأنهم نخبة واعية، بل لأننا أغلبية جاهلة!.