سلب الهوية القومية للمبدعين تأريخياً

وليد حاج عبدالقادر / دبي

في التشكّلات التأريخية للشعوب وتحولاتها الدولانية من ممالكَ وامبراطورياتٍ شاسعة ، هيمنت بعضها على بقاع جغرافية كبيرة تقطنها شعوب وأمم مختلفة ، وبرزت معها مجموعات / قوميات مهيمنة أضفت بإسمها كتعريف سياسي / بشري على غالبية المسميات ، وبالتالي إسباغ الدمغة الاستحواذية على كامل البيئة بمفرداتها وبشموليةٍ كاملة ، رغم طفح وهيمنة الفئات وتمسكها بمعرفاتها ، إلا أنّ القوة المهيمنة كسلطةٍ ظلّت على مدار التاريخ وبإصرارٍ تتمسّك وكجزءٍ أساس من مفاهيم الشمولية المتحكّمة على أنّ كلّ فردٍ بفكره و إبداعه، وبأيّ إنجازٍ خارق تنزع منه أية صفة فردانية ، بطولية كانت أو إبداعية، فتنزع من ذلك الكيان / الشخص فردانيته الانتمائية ، وتلحقه بعد تجريده من انتمائه الأصلي وتضمّه إلى قائمة المستحوذين ، إنٔ بصفةٍ دينية أو قومية متحكمة.

وهنا وفي الخاصية الكُردية ، لم يشهد أيّ شعبٍ من شعوب العالم زخماً في الاستحواذات مثل ما شاهده هذا الشعب من عمليات سرقة ونهب ، وبعض حالات كانت أشبه بالخطف الممنهَج لرجالاتٍ ولِدوا وعاشوا في عمق انتماءاتهم ، ونطقوا بلغتهم الأمّ ، ومن خلالها انفتحوا على لغاتٍ أخرى، وأبدعوا في مجالات عملياتية عديدة ، وظلّوا في غالبية أبحاثهم وعروضهم بابتكاراتها يستندون على ميزات بقاعهم ، تلك الإبداعات والابتكارات التي لامست غالبية المجالات المعرفية ، كانت بيئتهم هي حقول التجريب والتطبيق الرئيس ومنها تمدّدت ولتدخل في بطون أمهات التدوينات والتطبيقات التنفذية ، هذه المنجزات / الإبداعات وبشخوص مبتكريها لم تنجُ من عمليات غزو ونهب معنوي ، وكان الأخطر فيها هو السطو الممنهَج على ذلك الإرث باعتباره جزءاً من إرث المستحوِذ بالقوة ومن فولكلوره ، ولتصل في غالبيتها وكمنهجيةٍ إلى استحوذات نُفّذت بطرائق وسبل متعددة غطّت جلّ إرث وتراث هذا الشعب ، ومن جديد غلُّفت بمظلات كانت أبرزها العامل الديني والذي بقي كركيزة أساس مع التغيير العرقي الذي حدث.

وكمثال : انحسار الانتماء القومي إسلامياً الذي تأسّس على قاعدة الانتماء كأصالة أو موالاة من القوميات غير القومية السائدة / المتحكّمة ( ما يمكن تسميته بالمد العربي بعد القضاء على الخلافة الأموية والذين أسّسوا مع ثبات حكمهم ظاهرة للانتماء القومي العربي أو ظاهرة – مصطلح الانتماء الأصلي والموالاة ) ، واختصاراً وفي عودةٍ إلى الأهم هنا ، فقد شهدت البقعة الجغرافية التي تُعدُّ كُردستان جزءاً منها ، وعبر العصور التاريخية متحولات بنيوية اجتماعية أسّست لبنى اقتصادية دفعت مع الأيام لدوران عجلة الإبداع والابتكار بالترافق مع المنجزات المحسوسة والمبتكرة التي تشكّلت على أرضيتها بنىً مجتمعية جديدة أيضاً ، ولتتحول البيوتات القليلة مثلاً إلى قرى والقرى الى بلدات ومدن ، وهكذا بالنسبة للمجموعات المتنقّلة.

ومع تحسن الوضع المعيشي وبيئة شبه مستقرة ومريحة ، تحرّر العقل البشري ، وظهرت الفئات النابغة ، وانطلقت المبادرات تبحث عن الابتكارات من جهة ، وتطوير المستخدم لتحسين الأداء نحو الأفضل ، ومن جديد ، وفي العودة إلى الحضور الكُردي في مسيرة التاريخ البشري ابتكاراً وتطويراً ، وبعيداً تماماً عن كلّ أطر ومفاهيم النزعات العرقية ، وعلى أساس تكافل وتضامن ، لابل التشارك العملي للبشرية جمعاء في التأسيس وتطوير ملكات التطور والإبداع من جهة ، وعليها الزخم البشري في ظهور المبتكرات وتطورها ، إلا أنّ هذا الأمر لن ينفي أبداً من ظهورٍ لروّادٍ في علوم رئيسية كان لها رجالات نوابغ ساهموا – لابل وضعوا اللبنات الأساس لعلوم ، وعلى أرضيتها تفتّق الوعي البشري وكانت الركائز لابتكارات مذهلة غيّرت كثيراً من أنماط الحياة ، وسهّلت في عملية تطويع البيئة واستثمارها ، وهنا ، وفي العودة إلى الذاكرة الكُردية بموروثاتها ، والكم الهائل من المخزون البشري الذي تناقل شفاها عبر الأجيال وخاصةً ذلك النمط المتعارف عليه في الدراسات التاريخية منها وآليات تطور الوعي والحياة المجتمعية البشرية من جهة ، والتصنيفات والتعاريف التي اعتمدت منهجياً لتوثيقها ، وفي تتبعٍ ذهني لكثير من المواقع والبيئات المختلفة في كُردستان وحالات / أنماط المجتمع ، ومن ثم التقسيم المهني / الحرفي للبشرية ومنهم الكُرد ، فظهر بينهم أيضاً الرعاة والمزارعون وانتشرت فيها الحرفيات النمطية مثلاً ، كما انقسم المجتمع واتخذت كلّ فئة مدلولاً – اسماً يتواءم مع طبيعة حياته المستقرة أو المتنقلة ( كوجر – ديمانا ) وايضاً شبه المتنقلة وحركة الذهاب إلى أعالي الجبال ( بانا ) و ( زوزانا ) ومن ثم الهوينى إلى السهول وضفاف السواقي والأنهار أواخر الصيف وهكذا.

هذه التقسيمات التي كان للنمط المعيشي وتشكّل الحِرف دور كبير في التأسيس لظهور التشكلات المجتمعية التي ازدادت أعدادهم وتسمّوا اصطلاحاً بطبيعة الحلقة / النمط الذي امتهنوه ، فظهرت المسميات والتعريفات الخاصة بالمجموعات وإن بقيت مؤطّرة في خصوصياتها مثل – ديمانا – القروي ( گوندي ) أو ( باچاري ) المديني ، وكذلك الرحل ( الكوجر ) ، وبرزت هناك داخل كلّ بيئةٍ أو نمط حرف ومهن تخصّصت فيها أسر ولازمتها كاسم لفتراتٍ طويلة ، هذا الخلط المتداخل ، وما رافقه كسريالية مستمرة ، وبالرغم من تعرضها لموجات مد وجزر ، حروب وحالات استقرار تفاوتت فيها الفترة الزمنية من جهة ، وحالات الموضوع لقوى غازية أو توجّهت هي إلى غزو المحيط.

إلا أنّ حركة الابتكار والعقل المبدع الدافع إلى الابتكار في غالبية المجتمعات أوجدت مبدعين في مجالات رائعة ، انطلقوا في مساعيهم وهم يستندون على ركائز موجودة كانت أصلاً في بيئاتهم وكأمثلة سأختتم في استذكار لثلاثة شخصيات كُردية ، انطلقوا في تطويراتهم من الواقع الكُردي وتحديداً من بيئة بوطان وأولهم ( بتجاهل الزمن التأريخي ) في المجال الموسيقي زرياب ، والشخصية الجدلية ابن الباجريقي الذي حورب كثيراً وحُكِم عليه بالقتل بتهمة الردة ، هذا العالم الذي ضمّن كلّ آرائه في ملحمته المشهورة بالملحمة الباجريقية التي لم يبقَ لها من أثرٍ سوى ماذكره ابن خلدون في مقدمته المشهورة ، وأيضاً ما دوّنه ياقوت الحموي عنه أثناء ذكره لبلدة باجريق ( قرب ديريك وفي الوسط بينها وجزيرا بوتا ).

وفي الختام : إنّ الحافز الرئيس لكلّ هذه الكلمات هي سياسة الاستحواذ على أصل وانتماء كثيرٍ من العباقرة المنتمين لشعوبٍ وقوميات مغايرة، وبخاصة الكُرد منهم، وإسباغ صفة التتريك أو التفريس والتعريب عليهم أو تعويمهم قومياً من خلال اللغة التي دوّنوا بها نتاجاتهم أو تصنيفهم دينياً على عكس غالبية الانتماءات القومية الأخرى ، وذكر لاحقة ( من أصل .. تركي .. فارسي .. أفغاني .. ) ولهذه الأسباب كان هدفنا في يكيتي ميديا أن نسعى لتسليط الأضواء واستذكار بعض الرجالات الكُرد المبتكرين في مجالاتٍ عديدة ساهمت في التأسيس لركائز تطور البشرية ..

المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 287