سوريا بعد أكثر من مئة عام على أحلام بطرس البستاني
عبدالباقي اليوسف
بطرس البستاني الأديب والمؤرخ اللبناني الماروني الأصل، والمولود في بداية القرن التاسع عشر، كان واحداً من بين قلة ملكوا مبكرا فكراً قومياً عربياً، تجلى هذا الفكر في الكثير من مواقفه وكتاباته التي كان ينشرها في جريدته “الجنان”، لكنها أصبحت أكثر وضوحاً عندما قام هو و مجموعة من تلامذته ومقربيه بتأسيس جمعية سرية في أواخر القرن التاسع عشر، وأقدموا على تعليق منشور على جدران شوارع بيروت التي كانت يومها تعج بالحياة . المنشور كان يطالب بحكم ذاتي لـ سوريا ولبنان في إطار السلطنة العثمانية، والإعتراف باللغة العربية كلغة رسمية. على الرغم من أن تلك الجمعية كانت صغيرة، إلا أنها كانت تعكس إستيقاظ وعي قومي سياسي لدى المسيحيين السوريين في وقت لم يكن لدى عرب بلاد الشام أية ميول نحو الفكر القومي العربي، بل كان جل إهتمامهم هو الحفاظ على الإسلام، وحسب رؤيتهم، هذا لايتحقق إلا من خلال الحفاظ على السلطنة العثمانية.
جاء حلول الإنتداب الفرنسي على سوريا لإنشاء دولة كأنها محاكاة لتطلعات بطرس البستاني، وبدأت فرنسا بإنشاء كيانات مستقلة ومناطق ذات حكم ذاتي، وفي حزيران عام 1921 أعلن المندوب الفرنسي إلى سوريا الجنرال غورو في دمشق عن نية فرنسا إنشاء الإتحاد السوري على غرار الإتحاد السويسري بسبب التعدد القومي والديني والطائفي، وبحسب قوله، كانت الخطوة الأولى هي وضع أسس هذا الإتحاد وتقويته وضمان الحرية الوطنية، لأن غاية فرنسا من إنشاء الحكومات المحلية المستقلة هو تجنب حدوث المنازعات الداخلية في المستقبل بين مكونات سوريا المختلفة.
كان الفرنسيون يملكون تجربة غنية في هذا المجال، وعلى معرفة تامة بمدى الأضرار التي قد تنجم من الحروب الداخلية خاصة القومية والطائفية، فتاريخ أوروبا يحدثك عن حرب الثلاثين عاما والتي لم تنتهي إلا بعد إتفاقية وستفاليا 1648 التي أرست لنظام جديد في أوربا الوسطى على مبدأ سيادة الدولة، والإعتراف المتبادل بثقافة الآخر بغض النظر عن صغره أو كبره.
أحدث المشروع الفرنسي إنقساما بين المكونات السورية بين مؤيد ومعارض، لقي المشروع تأييداً واسعاً بين العلويين والدروز، كما ولقى تأييداً من قسم واسع من المسلمين السنة،( المنطقة الكوردية شرقي نهر الفرات حتى ذلك الوقت لم تكن في عداد الدولة السورية). بالمقابل كانت هناك معارضة قوية في وسط المثقفين، وبعض الزعماء، ورجالات الدين، وفئات من التجار، وضباط وموظفين سابقين في السلطنة العثمانية، عرفوا بالكتلة الوطنية. بدت الكتلة الوطنية متحمسة لأن تكون سوريا دولة مركزية من دون لبنان، ولم تستطع إستيعاب المشروع الفرنسي واحتضانه ومن ثم تطويعه في مشروع بناء الدولة الوطنية لأسباب عديدة نذكر منها: إعجاب زعماء هذه الكتل بالمقاومة التي كان يبديها الأتراك في ما سميت بالحرب الوطنية، والحنين إلى الخلافة الإسلامية. إستغل أتاتورك هذا الحنين، فزود بعض الفصائل بالمال والسلاح إلى أن توصل لتسوية مع الفرنسيين، حيث كان المشروع الفرنسي يشكل خطراً كبيراً على تركيا، لما سيتركه من تبعات في داخل تركيا، وذلك بسبب الإمتداد الكبير للكورد والعلويين فيها.
اليوم وبعد قيام الثورة السورية، يبدو أن تلك التجربة تعاد من جديد، فيخرج رئيس وزراء تركيا السابق والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، ويبدي إستنكاره لممارسات صديقة السابق بشار الأسد، والمظالم التي يمارسه مع شعب سوريا. كما يقول المثل: ” كلام حق يراد به الباطل”. أليس من الأجدر به أن يرفع الظلم عن الكورد والعلويين ويمنح الحقوق لكافة مكونات تركيا وينهي الحرب الظالمة ضد الكورد فيها.
بعد إستقلال سوريا، تبين أن الكتلة الوطنية لم يكن لديها أي مشروع لبناء الدولة الوطنية، وأن جل إهتمامهم إنحصر في إجلاء القوات الفرنسية، والحصول على التمثيل في الأمم المتحدة. لذا عاشت سوريا حالة عدم إستقرار لغياب فكر الدولة الوطنية، وسيطرة مفهوم الأمة الثقافية، إذ أصبحت الحكومة في حالة شد ومد تارة تتجه نحو العراق لتتوحد معها، وأخرى نحو مصر. ومع تضخم الجيش السوري ودخوله في السياسة من خلال الإنقلابات العسكرية، ومن ثم سيطرة حزب البعث على السلطة من خلال الجيش، إنتهى مفهوم الدولة الوطنية كليا. فبموجب فكر حزب البعث، تعتبر الدولة القطرية لعنة إبتلى به العرب وعائقا أمام وحدة الأمة. ومع الوقت إبتلع حزب البعث الدولة السورية حيث أصبحت الدولة كـ إحدى مؤسسات الحزب، وتبدلت إسمها لديهم لتصبح “سوريا البعث”، ومع تمركز السلطة أكثر تحول إسمها إلى “سوريا الاسد”.
يمكن القول أنه في مرحلة الإنتداب الفرنسي كانت هنالك محاولات لبناء الدولة الوطنية، إلا أنها بعد الإستقلال تراجعت خطوات، ومع سيطرة البعث شيعت الدولة، وأصبحت سوريا دولة أمنية بكل المعايير، وحدث ما تخوف منه بطرس البستاني في وقته، من أن تفرز القومية العربية شكلا جديدا من أشكال التسلط . دعوات النظام بين الفينة والأخرى بإجراء الإصلاحات كانت ضرباً من النفاق، وإسلوباً لتخدير الناس، كان يتبعها يإفتعال أزمات في المنطقة، لأن الإصلاح الحقيقي، بالنسبة إلى النظام، يعني إلغاء الذات، وعودة الشرعية إلى الدولة .
بعد أكثر من ستتة عقود على عمر الدولة المركزية في سوريا، فشلت بكل المعايير في بناء دولة المواطنة، لا بل أن المواطن السوري لم يشعر بالحدود الدنيا من الحقوق، وبالكرامة الإنسانية، وكل ماكان يحصل عليه كان يُعتبرمكرمة من الرئيس، ولم يكن غريبا أن يعلق على جدران شوارع ومدن سوريا، وحتى على باب غرفة تجارة سوريا بدمشق شعار((منك العطاء ومنا الولاء)).
الإنتفاضة السورية في آذار 2011 كان لابد منها، بسب إنسداد الأفق السياسي، والموت السريري لمعظم أحزاب سوريا، ففي عهد حافظ الأسد إنقسمت هذه الأحزاب على أنفسها، ولم تعد تعرف إلا بأسماء زعمائها. المتتبع للإنتفاضة يلاحظ أن الذين خططوا لها وبدأو بها لم يكن لديهم برنامج بذلك أو ايديولوجيا يهتدون بها، وحتى أثناء الثورة لم يستطيعوا إيجاد مشروع لـ سوريا المستقبل، يضمن أمن ومصالح جميع المكونات السورية، لأن نظام البعث كان قد قضى على الحياة السياسية في البلاد. لهذا تمكن النظام بحكم علاقات أجهزته الأمنية مع بعض شبكات الإرهاب العالمية، بدفع الإنتفاضة نحو حمل السلاح، وفرض إستقطاب طائفي يتحمل قسم منه بعض الدول الإقليمية والمحسوبة على أصدقاء المعارضة .
مع مرور خمس سنوات على الثورة السورية، والحرب الدموية الذي زعزعت المجتمع السوري، ومزقته، وعمقت المخاوف بين مكوناته القومية والدينية والطائفية، وأفقدت الثقه بينهم، وللحظة لم تتمكن المعارضة السورية من إيجاد مشروع سياسي يحظى بثقة جميع المكونات، وينال الدعم من القوى الدولية المعنية بالقضية. المشاريع التي طرحت وتطرح لغاية اليوم من قبل المعارضة الداخلية، أو الخارجية تظهر وكأن أصحاب المشروع يعيشون في عالم آخر، لأن هذه المشاريع كان من الممكن أن تكون مقبولة في مرحلة الإنتداب الفرنسي، أو بعد الإستقلال. لكن اليوم وبعد ان يقتل السوري على هويته القومية أوالدينية أوالطائفية في الكثير من الحالات، وبعد مقتل أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان عدا المفقودين والمشردين، والدمار الهائل في معظم المناطق، وأكثر من ثلاثة ملايين لاجئ وتسعة ملايين نازخ، و يُحاصرُ السوريون حسب هويتهم الطائفية إن كان من قبل النظام، أو بعض الفصائل المسلحة إلى حد الموت جوعاً كما يحصل اليوم في مضايا والمعظمية، والغوطة الشرقية، وفوعة وكفريا. بعد كل هذا توصل بعض منظري المعارضة السورية، بحصر الحل في الدولة اللامركزية الإدارية. هذا ماذكرني بمثل كوردي يقول “أصحاب الميت فاقدي البصيرة”. سوريا في الواقع مقسمة، وما نقرأه في صحف ومجلات عالمية كبيرة ومراكز دراسات عالمية يؤكد على هذا التقسيم. السؤال للمعارضة والسنية بالدرجة الأولى، (وأعتذر عن هذه التسمية، لكنها أخيراً فرضت نفسها)،هل هناك مشروع آخر و حقيقي لإعادة توحيد سوريا؟” قبل أن يفوت القطار”؟
الدولة اللامركزية الإدارية لاتستطيع توفيرالأرضية والضمانات والأمان لإعادة الثقة وعدم تكرار ما نشاهده اليوم. إن إلإصرار على نظام اللامركزية الإدارية ستقود بـ سوريا، إذا مابقيت موحدة، إلى جولة جديدة من الحرب الطائفية عاجلاً أم اجلاً، وستكون أشد دماراً وتكلفة بشرياً ومادياً. في هذه الأجواء الموبوءة، أليس ضرباً من الخيال الحديث عن إنتخابات ديمقراطية وبناء الدولة المدنية ؟!! . أليست الغاية من الدولة المدنية إبقاء الدولة أسيرة الدين، والتي اعتبرها بالأساس إلقاء جميع مساوئ الدولة والحكومات على الدين. التجربة العراقية ماتزال ماثلة أمام أعين الجميع؟ يوما كان سنة العراق يترفعون على النظام الفدرالي، ويعتبرونه نوعا من تقسيم العراق، أما اليوم يقاتلون من أجلها بعد ان إكتئوا بهيمنة الأغلبية القادمة عن طريق صناديق الإقتراع.
لغاية اليوم لم يطرح مشروع متكامل يستوعب الوضع الحالي، ويمكن الإنطلاق منه للتوصل إلى حل. فقط المجلس الوطنى الكوردي طرح النظام الفدرالي ولكن ولغاية اليوم لم يطرح تصوركامل للمشروع. المصيبة هي أن هذا المشروع في نظر البعض من أطراف المعارضة هو مشروع تقسيمي. النظام لن يطرح أي مشروع حقيقي، فقط سيأخذ المشاريع، وسيستمر في القتل والتدمير إلى أن تنطقها المعارضة، السؤال هنا، هل سيرضى النظام بالفدرالية؟ ام يفكر بأبعد منها؟