سوريا وسقف الغرب التفاوضي
إياد الجعفري
ما بين “لا ورقة باريس”، ووثيقة “مجموعة سوريا المصغّرة”، يبدو الغرب وكأنه يشطب الإنجازات الميدانية للروس والإيرانيين في سوريا، خلال الأشهر التسعة الماضية، ويقدّم تصوراً للحل السياسي في سوريا، لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي قدّمه مطلع العام الجاري، ربما باستثناء، الحديث بشكل مباشر، وصريح، عن ضرورة إخراج إيران من الساحة السورية.
يمكن اعتبار الوثيقة المسرّبة قبل أيام، تحت عنوان، “مبادئ توجيهية لأعضاء المجموعة المصغّرة من أجل سوريا”، بمثابة دعوة جديدة للتفاوض مع “ثلاثي آستانة”، حول الحل السياسي في سوريا. ويظهر، وفق توقيت وطريقة طرح تلك المبادئ، أن الغرب، ممثلاً بقواه البارزة، الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، إلى جانب حلفائهم الإقليميين، وفي مقدمتهم، السعودية والأردن، ينظر إلى “ثلاثي آستانة”، روسيا وتركيا وإيران، بوصفه الندّ الذي يجب التفاوض معه، حول الحل السياسي المُنتظر في سوريا. لكن خماسي “المجموعة المصغّرة”، يتعامل هذه المرة، بطرح صفري، بخصوص إيران، تحديداً.
ففي “لا ورقة باريس”، التي مثّلت تصور الغرب وحلفائه الإقليميين، للحل في سوريا، قبل تسعة أشهر، كانت الإشارة إلى انسحاب إيران، فضفاضة، عبر استخدام تعبير “انسحاب الميليشيات الأجنبية”. أما في وثيقة “المجموعة المصغّرة”، المُسربة مؤخراً، يرد بند بضرورة أن تقطع الحكومة السورية التي ستدير “سوريا المستقبل”، علاقاتها مع إيران، ومع وكلائها العسكريين، في إشارة مباشرة إلى حزب الله اللبناني. وهذه النقطة، قد تكون أبرز فارق نوعي واضح، بين طروحات “لا ورقة باريس”، وبين الطروحات الأخيرة في وثيقة “المجموعة المصغّرة”.
ورغم أن روسيا، بظهير برّي إيراني، سيطرت، لصالح النظام السوري، على أبرز معاقل المعارضة السورية، في الغوطة الشرقية، وريف حمص الشمالي، ودرعا، خلال الأشهر التسعة الماضية، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى أي تغيير نوعي في تصور الغرب للحل السياسي في سوريا. فما يزال الغرب يتحدث عن الحد من صلاحيات “الرئيس”. بل إن الطروحات الغربية باتجاه نظام نيابي في “سوريا المستقبل”، أصبحت أكثر وضوحاً ومباشرةً، في الوثيقة الأخيرة. حيث تتحدث الوثيقة عن رئيس وزراء ذي سلطات قوية، بمعزل عن سلطة رئيس الجمهورية.
كذلك، أصبح حديث الغرب عن اللامركزية، مباشراً أكثر. مع استمرار الغموض حول ما إذا كانت اللامركزية المقصودة، إدارية أم سياسية.
كما كانت الإشارة إلى مشاركة “قوات سوريا الديمقراطية”، المدعومة غربياً، في ترتيبات الانتقال السياسي، مباشرةً هذه المرة.
ولا ذكر لمصير الأسد، هذه المرة أيضاً. لكن، من الواضح أن الغرب يستهدف تقليص سلطاته، بصورة تمهد لإزاحته، خلال مرحلة الانتقال السياسي، أو في نهايتها، رغم عدم الإشارة المباشرة لذلك. لكن، من اللافت، في الطروحات الأخيرة للغرب، الحديث عن ملاحقة وتعقب مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وأن تتعاون حكومة “سوريا المستقبل”، مع المجتمع الدولي في ذلك. في إشارة لا تخلو من التهديد لنظام الأسد ورموزه.
وفي الوثيقة أيضاً، ردّ غربي حاسم، على طروحات روسيا، حول إعادة الإعمار، وإعادة اللاجئين. فلا إعادة إعمار إلا بعد إصلاح دستوري وانتخابات، بإشراف الأمم المتحدة، وبصورة تُرضي الدول المانحة المحتملة. كذلك، لن يؤيد الغرب إعادة اللاجئين، إلا وفق شروط توفر العودة الآمنة والطوعية باشتراك الأمم المتحدة.
ومقارنةً بما طرحه قبل تسعة شهور، تشدد الغرب في نقاط، كتلك الخاصة بإيران، وتساهل في أخرى، كتلك الخاصة بإصلاح الأمن، بدلاً من “بنائه”. لكنه فصّل كثيراً في عملية الانتقال السياسي، مشدداً على دور الأمم المتحدة، سواء في مرحلة الإصلاح الدستوري، أو في مرحلة الانتخابات، أو في مرحلة المصادقة على نتائج العمليات الانتخابية.
تسريب طروحات الغرب وحلفائه، للحل السياسي في سوريا، بما فيها من بنود ذكرنا بعضها آنفاً، يأتي في توقيت، لم يبقَ من تحديات ميدانية لروسيا في سوريا، إلا إدلب، وشرق الفرات، وبقعة صغيرة في البادية السورية على الحدود مع الأردن والعراق. ووفق معايير الميدان، من المفترض أن تنخفض شروط الغرب التفاوضية مع الروس. لكن، ذلك لم يحصل. بل على العكس، تزامن هذا التسريب مع نشاط غربي مكثّف يظهر الاهتمام بسوريا، سواء على صعيد تأكيد بقاء الأمريكيين في شرق الفرات وفي قاعدة التنف بالبادية، أو على صعيد إبداء الاهتمام الأوروبي، بمصير إدلب، ودعم الموقف التركي في المفاوضات بخصوصه، مع روسيا. أو على صعيد التحذير من استخدام الأسلحة الكيمائية مجدداً، والتلويح بعصا ضربات عسكرية أشد من السابق.
ومن بين كل مظاهر النشاط الغربي المفصّل آنفاً باتجاه سوريا، جاء الدعم الغربي المباشر لتركيا، في المواجهة التفاوضية مع روسيا، بخصوص مصير إدلب، ليكشف جلياً، عن الحجم الحقيقي للروس في سوريا. فهم عاجزون عن صنع خاتمة للمشهد السوري من دون التوافق مع الغرب، ومع تركيا أيضاً. كما كشف ذلك عن تقلّص نوعي للدور الإيراني في المشهد السوري. بحيث بدت إيران، وكأنها الخاسر الأكبر، من مجمل التطورات، في الأشهر التسعة الماضية، على الساحة السورية.
يمكن اعتبار وثيقة “مجموعة سوريا المصغّرة” سقفاً تفاوضياً، لا بد أن الغرب سينخفض تحته، في أي مسار تفاوضي مستقبلي حول سوريا. لذلك، وجدنا بنوداً في الوثيقة، لا يمكن للروس أو نظام الأسد أو الإيرانيين، القبول بها. من قبيل، ما يتعلق بقطع العلاقات مع إيران، أو ملاحقة مجرمي الحرب. فهي أوراق تفاوضية، يمكن التخلي عنها، مقابل أخرى أكثر أولوية للغرب، أو عبر التخفيف من حدتها.
وهنا يصبح السؤال، بعد المكاسرة “الناعمة” في إدلب.. هل سيقبل الروس تحديداً الانصياع لدعوة التفاوض الغربية؟. إذا حدث ذلك، فسيكون التفاوض بين السقف المطروح غربياً، وبين ذاك المطروح روسياً، والذي يقدم تصورات أقرب لمصالح نظام الأسد والإيرانيين.
والجواب على السؤال السابق، بنعم، أصبح مطروحاً بقوة اليوم. فروسيا، بعد أن سيطرت على كل ما تستطيع أن تسيطر عليه في سوريا، لم تستطع التقدم قيد أنملة، في فرض رؤيتها للحل السياسي على الغرب، مقارنةً بما كان عليه الحال، قبل تسعة أشهر. ومع حجم الضغط الاقتصادي الذي يثقل كاهل الروس، ورغبتهم العاجلة في تثمير انتصاراتهم الميدانية في سوريا، سياسياً واقتصادياً، يصبح هدف مشاركة الغرب في تمويل “إعادة إعمار” سوريا، لقاء حل سياسي، يستند لمبادئ الغرب السابقة التفصيل، مخرجاً مغرياً للروس، من الانسداد الراهن في “النفق” السوري.
المدن