آراء

سورية كما يرغبها بوتين

غازي دحمان
ترفض روسيا، حتى اللحظة، توضيح طبيعة استراتيجيتها السورية ومآل الحرب التي تخوضها في هذا البلد الممزّق، كما ترفض الاتفاق على قواعد للاشتباك، وتحديد قواعد للّعبة عموماً، بما فيها التوافق على مبادئ إدارة الحرب، على الرغم من أنها تتشارك، مع أطراف كثيرة، في العمل ضمن بقعة جغرافية محدّدة، الأمر الذي يفسح المجال أمام ظهور مساحات واسعة من الخطر، متروكة من دون مراقبة أو علاج.
حتى اللحظة، لا ترغب روسيا في التوافق على تفاهماتٍ مع الغرب، وتتعمّد السير بهذه الاستراتيجية لسببين، يفضحهما السلوك الروسي نفسه، الأول لإيصال رسالة إلى الأطراف الإقليمية والدولية، أنها تتبع سياسة حافة الهاوية في حربها السورية. وبالتالي، فإن سقف التصعيد مفتوح إلى أبعد الحدود، ولا مشكلة لديها في هذا السياق، وتحاول، تالياً، استثمار هذه السياسة في تحقيق أكبر قدر من التنازلات. والثاني، لاعتقادها أن من شان التوافق على قواعد واضحة للّعبة أن يؤثر على خططها، ويقيّد تصرفاتها، وهي قد تميل إلى هذا الخيار، لكن بعد أن تكون قد فرضت واقعاً معيناً. لكن، لا الفترة الفاصلة بين تجريبها استراتيجيتها وموافقتها على التفاهم مع اللاعبين الأخرين يمكن أن تكون مأمونة من المخاطر، ولا الواقع الذي ترغب بتأسيسه قد يضمن قبول أو خضوع اللاعبين له.
في كل الأحوال، صاغت روسيا المهجوسة بمحاولات تطويقها من الغرب، وخنقها عبر ما تسمّيه مشاريع الفوضى الخلاقة، في السنوات الأخيرة، استراتيجية لمواجهة المشاريع السياسية التي تستهدفها من الغرب، تقوم على إيجاد وقائع جغرافية وسكانية، تمثل حاجزاً أو كاسراً لهذه المشاريع، كما فعلت في جورجيا وأوكرانيا، وارتكزت، في الحالتين، على العوامل الدينية والعرقية،لتثبيت استراتيجيتها تلك.
ولا يبدو أن الأمر في سورية سيخرج عن هذه الوصفة التي باتت روسيا تتقن صناعتها جيداً، وخصوصاً أن الظروف ملائمة جداً في هذا البلد، ومهيأة نتيجة تراكم سنوات من العمل في هذا الاتجاه من نظام الأسد وحليفته إيران، اللذين اتبعا سياسة التفريغ الديمغرافي في إطار جغرافي، أطلقا عليه صفة سورية المفيدة.
واضح هنا أن الفعالية الروسية تتركز ضمن الإطار المذكور، عبر استكمال عملية التفريغ، ومحاولة فتح شرفة اتصال مع العراق. من هنا، يأتي التركيز على تدمر، نظراً لأهميتها الاستراتيجية على الطريق إلى العراق، وليس لقيمتها الثقافية والمعنوية، كما يعتقد بعضهم، بالإضافة إلى تحقيق التواصل مع مناطق لبنان الشرقية التي تشكل بيئة لحزب الله، وترك بقية سورية للريح تعصف بها.
ويستلزم نجاح هذه الاستراتيجية إيجاد بنى عسكرية وخطوط دفاعية في مناطق التماس بين سورية المفيدة والصحراء. وبالتالي، نقل الفعالية العسكرية إلى الحدود بعد تنظيف الدواخل من المكوّن السوري الأكثري، باعتباره يشكل البيئة الولّادة، وليس الحاضنة فقط للتمرد على هذا المشروع، ما يستدعي شرذمة بنية وهيكلية المجموعات العاملة في هذه المناطق وتحطيمهما، بحيث تدفع بعضها إلى إلقاء سلاحه، وإخضاعه تحت ذريعة المشاركة في العملية السياسية، أو دفعه إلى الالتحاق بـ”داعش”، وتحويله إلى مشكلة للتحالف الدولي الذي سيرضخ، في النهاية، إلى التفاهم مع روسيا بشأن خطتها في الحرب على الإرهاب. فهدف الحرب الروسية الدفع بالمزيد من السكان والفصائل إلى المناطق الصحراوية التي تقع تحت سيطرة داعش، لإثبات أن القوى السنية كلها متطرفة، هذا جزء من تطبيقات متدرّجة لتفاهم إيراني روسي، وهذه القضية تشغل روسيا وتعتبر إحدى أهم أولوياتها، حيث تنصرف موسكو، وفي سبيل إحراج الغرب، إلى تحريف الوقائع، باستبدال المصطلحات، والتشكيك بوجود فارق بين الأطراف المقاتلة لنظام الأسد، وعمّا إذا كان هناك إرهابي جيد وإرهابي سيئ، والتساؤل عن “منظمة” الجيش الحر، وما إذا بقي شيء منها، بهدف نزع القضية السورية من مداراتها الوطنية، وتحويلها إلى مجرد تمرد على حكومة شرعية أو إرهاب.
هي، إذاً، عملية هندسة جغرافية وديمغرافية، تجريها روسيا على الواقع السوري، وقوامها صناعة مجال جغرافي، ينطوي على موقع استراتيجي، يتضمن الساحل واجهة على البحر المتوسط وسلسلة الجبال الممتدة من جبل الشيخ والقلمون، وصولاً إلى جبال العلويين، وهي ذات موقع مشرف على كامل الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الأراضي الخصبة الواقعة ضمن هذه المساحة. أما التركيبة الديمغرافية ضمن هذه المساحة، فتضمن غالبية للأقليات في إطارها، بعد إجراء عملية مناقلات مستقبلية، إلى إطارها وتبادلات سكانية. وتتكامل هذه السياسة مع تلك التي تجريها إيران في العراق، لإيجاد واقع سكاني جديد متواصل، يمتد من طهران حتى جنوب لبنان، يتناسب مع مصالح الطرفين، ويحمي الخاصرة الجنوبية لروسيا من خطر المتطرفين.
ما لم تدرك الأطراف الإقليمية والدولية خطورة المخطط الروسي، وتعمل على كسره وإفشاله، عبر تغيير طبيعة انخراطها، فإن روسيا ستكمل صناعة حواف مجالها في سورية وحدودها، مستغلة انشغال العالم ومخاوفه من حرب عالمية، ومتذرعة بالقانون الدولي الذي دفعها إلى تلبية طلب حكومة الأسد “الشرعية”، فيما تثبت الوقائع أن قاسم سليماني هو من طلب هذا التدخل، وأنه نتاج عملية منسقة من شهور سبقت دعوة بشار الأسد، وبهدف استكمال عملية الإبادة، وهو ما يحيل القضية إلى مبدأ “مسؤولية الحماية” الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2005، ويبدو منطبقاً على الحالة السورية أكثر من تفسيرات بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، عن القانون الدولي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى