شريط آخر الأخبارلقاءات وحوارات

سيدا: الروس يستعدّون لإجراء الانتخابات الرئاسية في سورية وفق حساباتهم

ضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، هذا الأسبوع، هو المعارض السياسي الكردي السوري البارز الدكتور عبد الباسط سيدا، الذي تولى رئاسة المجلس الوطني السوري في الفترة ما بين 9 حزيران/ يونيو 2012 و9 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام ذاته، وهو أحد مؤسسي هذا المجلس.

ضيفنا من مواليد عام 1956 في عامودا (من مدن محافظة الحسكة ومركز ناحية في أقصى شمال شرق سورية)، وهو يقيم في السويد منذ عام 1994.

الأكاديمي السوري صاحب «المسألة الكردية في سورية.. نصوص منسية من معاناة مستمرة للأكراد السوريين» حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة دمشق في عام 1991، وتابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعات السويد. وله عدد من الكتب والأبحاث المنشورة منها: «الوضعية المنطقية والتراث العربي: فكر زكي نجيب محمود نموذجًا»؛ «ذهنية التغييب والتزييف: الإعلام العربي نموذجًا»؛ و«بلاد الرافدين: أرض الأسطورة والحضارة». وله كذلك مساهمات فكرية منشورة في العديد من المجلات العربية، وشارك في مؤتمرات علمية في ميدان تخصصه، وكذلك في ندوات ولقاءات سياسية حول الموضوعين السوري والكردي. وهو يعمل حاليًا في التدريس في السويد، ويتابع البحث في ميدان اختصاصه العلمي في الحضارات القديمة.

كتابه «موضوعات كردية سورية» (عشرة فصول في 272 صفحة بالقطع الوسط)، الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، كان منطلقًا لحوارنا الذي تطرقنا فيه إلى رؤيته للمشروع الوطني السوري، كحلٍّ على المستوى الوطني العام لواقع انسداد الآفاق، بعد نحو ستين عامًا من حكم البعث؛ من بينها نصف قرن من الحكم الأسدي الفاسد، كما تطرقنا إلى ما تعرّض له الكرد من ظلم في التاريخ السوري المعاصر، خاصة في ظلّ حكم شمولي استبدادي طائفي، وإلى العلاقة بين المثقفين العرب والكرد السوريين راهنًا، وتناول الحوار المواقف الأميركية والروسية والتركية من الكرد السوريين، في سياق مراعاة هذه القوى لمصالحها في سورية والمنطقة، بالإضافة إلى الموقف الروسي من الانتخابات الرئاسية المقبلة في (سورية الأسد)، وقراءته لمسار ومآلات مفاوضات جنيف ومواقف الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية من العملية السياسية والحلّ المنشود من أجل سورية حرة لكل أبنائها من كل المكوّنات السورية…

هنا نص الحوار:

بداية، نسألكم عن كتابكم الجديد «موضوعات كردية سورية». كيف تقدّمونه لقراء مركز حرمون؟ 

بداية، اسمحوا لي أن أتوجّه إليكم بالشكر لدعوتكم الكريمة، وإتاحة الفرصة للتواصل مع قراء مركز حرمون الأعزاء. عنوان الكتاب هو: «موضوعات كردية سورية»، وهو عنوان محايد، كما ترون، ينسجم مع طبيعة المواد التي يتناولها، ومع المنهجية البحثية المتبعة التي تقوم على أساس استقرائي توصيفي للوضع الكردي السوري وعلاقته مع الوضع السوري العام، منذ بدايات تأسيس الدولة السورية الحديثة عام 1920 حتى يومنا هذا. أما الخطوة المنهجية الأخرى الاستنتاجية – الاستشرافية، فهي تتمحور حول سبل المعالجة وإمكانية الحلّ، والنتائج التي يمكن أن تترتب على الحلّ السليم.

يضم الكتاب أوراقًا بحثية شاركت بها في مؤتمرات حول المسألة الكردية السورية، وحول الشأن السوري العام. كما يضم أبحاثًا نُشرت في مجلات محكمة تناولت الموضوع الكردي السوري في سياقه الوطني السوري. والخيط الناظم الذي يجمع بين هذه الأوراق والأبحاث يتمثّل في أهمية وإمكانية حلّ الموضوع الكردي السوري، ضمن إطار المشروع الوطني السوري، ولا يمكن أن يُترجم هذا المشروع واقعًا، ما لم يكن لكل السوريين، من دون أي استثناء أو تمييز. وقد كُتبت هذا الأبحاث في الفترة ما بين 2003 إلى 2019. وهي فترة طويلة نسبيًا تغيرت فيها الظروف والمعطيات على مختلف المستويات. وطبيعي في مثل هذا الوضع أن تتغيّر المفاهيم والمقاربات. ففي عام 2004، على سبيل المثال، كانت انتفاضة 12 آذار/ مارس المعروفة باسم “الانتفاضة الكردية”، التي امتدت من قامشلي إلى مختلف المناطق الكردية؛ وشملت كذلك معظم الكرد السوريين في المهجر. أما الحدث الوجودي المفصلي فقد تجسّد في الثورة السورية التي انطلقت في آذار/ مارس 2011، وما زالت مستمرة، على الرغم من كل ما حصل من قتل وتهجير وتدمير بفعل وحشية النظام، وعلى الرغم من جميع التدخلات الدولية والإقليمية. ولكن الثورة هي الأخرى شهدت تطورات ومتغيرات وتراجعات وانتكاسات، إلّا أنها ما زالت مستمرة، تتمثّل في رفض غالبية ملايين السوريين التعايش مع نظام الاستبداد والفساد، بالرغم من كل الضغوط المعيشية التي يتعرّضون لها، ومن كل التدخلات الدولية والإقليمية التي تتم لصالح النظام.

الثورة السورية بكل جوانبها: أسبابها، تطوراتها، متغيراتها وتحوّلاتها، ومآلاتها، ستكون موضوعًا لعمل مستقل أستعد لإنجازه، وأتمنى أن أتمكّن من ذلك إن شاء الله. الكتابُ اليوم هو ملك عام. أنتظر ملاحظات القراء الأعزاء بصدر رحب، كما أنتظر آراء النقاد والباحثين ممن سيتناولون الأفكار والمصطلحات والمقاربات التي يضمها الكتاب، ومدى تطورها في السياق الزمني، وذلك نتيجة تفاعلها بما قد حدث تباعًا في الحيّز المكاني، وعلى الصعيد المجتمعي.

البحث عن الهوية السورية الوطنية الجامعة

يبحث الكتاب في معالجة الموضوع الكردي السوري ضمن مشروع وطني سوري يشترك في صوغه جميع السوريين. فهل لكم أن ترسموا لنا ملامح هذا المشروع في ظل الأوضاع الراهنة في منطقة شرق الفرات؟

فكرة المشروع الوطني السوري، وضرورة اعتماده حلًا على المستوى السوري لواقع انسداد الآفاق بعد نحو ستين عامًا من حكم البعث، من بينها نصف قرن من الحكم الأسدي، لا تعدّ بالنسبة إلي فكرة طارئة برزت في سياق الثورة. بل هي فكرة توصلت إليها بعد تجربة طويلة، ومراجعات معمقة لواقع سورية والمنطقة بصورة عامة. على الصعيد الشخصي، بدأت بالعمل السياسي ضمن صفوف الحزب اليساري الكردي أيام قوّته، في بداية السبعينيات؛ ومن ثم كنت في قيادته في بداية الثمانينيات. ثم تابعت العمل الحزبي ضمن صفوف حزب الشغيلة، بعد انقسام الحزب اليساري على نفسه. ولكن في الوقت ذاته كانت لدي علاقات عميقة مع الوسطين الثقافي والسياسي السوريين بصورة عامة. وذلك بحكم دراستي وعملي الحزبي في الوقت ذاته. ونتيجة الخلافات البينيّة، ضمن حزب الشغيلة، والرغبة في توحيده ثانية مع الحزب اليساري؛ تركت العمل القيادي لأفسح المجال لجهود الوحدة، إذ كانت هناك مجموعة ضمن الحزب اليساري ترفض الوحدة في حال وجودي. وقد عبّر أعضاء هذه المجموعة عن هواجسهم صراحة قائلين: “إذا كان موجودًا (أي أنا) فهذا معناه أنه سيكون حكمًا الأمين العام للحزب الموحد؛ لأنّ معظم الأعضاء من الجانبين يفضلونه”. وكان جوابي هو ترك القيادة، بغية إفساح المجال أمام الوحدة عبر قطع الطريق على ذرائع تلك المجموعة.

في بداية التسعينيات، حصلت على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة دمشق، وسافرت إلى ليبيا لأعمل في التدريس هناك. تجربة ليبيا كانت تجربة فريدة غنية بالنسبة إلي. فقد عشت هناك على مدار ثلاث سنوات في حالة تأمل وتمعن في واقعنا السوري. ومن القناعات التي توصلت إليها أنّ سورية والعديد من دول المنطقة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى تشكّلت بناء على التوافقات والمصالح الدولية والإقليمية؛ وهناك خطوط حمراء لا تستطيع شعوب تلك البلدان أن تتجاوزها. وقد ولّدت ظروف التقسيم التي شهدها المنطقة قوًى، تمثّلت في الأنظمة المختلفة والشرائح المنتفعة منها، لها مصلحة في التقسيم، ولذلك باتت من حرّاسه، بالرغم من كل الشعارات القوموية التي رفعتها للاستهلاك المحلي. وغالبًا ما كانت تلك الشعارت وسيلة لتغطية عملية الانقضاض على الداخل الوطني. كانت النتيجة التي توصلت إليها تنصُّ على ضرورة البحث عن المشترك السوري، عن الهوية السورية الوطنية الجامعة؛ والحرص على تحسين قواعد العيش المشترك بين جميع المكوّنات السورية. ومع الوقت، توضحت لدي هذه الفكرة أكثر، وترسخت بصورة أكبر. بل وصلت إلى قناعة تامة بأنّ المشروع الوطني لا يناسب سورية وحدها، بل معظم مجتمعات المنطقة التي تعاني اليوم أزمات بنيويّة عميقة نتيجة صراعات الهويات، والمصالح، والتدخلات الإقليمية الفاقعة. وقد كتبت حول هذا المشروع قبل الثورة السورية بسنوات، وأكدت مجددًا أهمية الدعوة إلى هذا المشروع، واعتماده في سياق الثورة. ولم أكن وحيدًا في هذا التوجّه، بل كان هناك العديد من المثقفين السوريين والسياسيين ممن يدعون إلى هذا المشروع. والثورة السورية بدأت -كما نتذكر جميعًا- بشعارات وطنية سورية جامعة. ولكن أصحاب نزعات الهويات الفرعية والهويات العابرة تمكّنوا، لظروف لا يتسع المجال هناك لتناولها بالتفصيل، من إبعاد الثورة عن مسارها الوطني، الأمر الذي أسفر عن جملة تراجعات كارثية ما زلنا ندفع ضريبتها.

سورية حاليًا مقسمة بين مناطق نفوذ تتحكّم فيها قوى دولية وإقليمية. في منطقة شرقي الفرات، الولايات المتّحدة الأميركية وحلفاؤها، وهي تعتمد ميدانيًا على قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وهي قوات قياداتها ومفاصلها الأساسية تابعة لحزب العمال الكردستاني (التركي). ولهذا الحزب تاريخ طويل من التعامل مع نظامالأسد يمتد إلى بداية الثمانينيات. ومع بداية الثورة السورية، حصل اتفاق جديد بين نظام الأسد وحزب العمال الكردستاني، وقد دخلت بموجب هذا الاتفاق القوات التابعة لهذا الحزب تحت اسم حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو الفرع السوري لحزب العمال. وقد تمكّن هذا الحزب -بفعل دعم النظام- من تهميش الأحزاب الكردية السورية؛ وقضى على حركة التنسيقيات الشبابية الكردية التي تفاعلت مع الثورة السورية منذ اليوم الأول. وفي غربي الفرات، هناك الوجود التركي الذي يتكوّن من القوات العسكرية التركية، والفصائل العسكرية السورية التي تلتزم بتوجيهات القيادة التركية، وتتحرك بموجب خططها. أما في المناطق الأخرى، فهناك النفوذ الروسي والإيراني، وهناك ميليشيات “حزب الله”، والميليشيات العراقية التي تعمل جميعًا تحت قيادة الحرس الثوري الإيراني. وروسيا أيضًا لها قوى محلية تلتزم بأوامرها، سواء في صيغة ميليشيات أم ضمن الجيش نفسه. لذلك نرى أنّ الوضع في شرقي الفرات هو جزء من الحالة السورية الراهنة العامة. ولن يكون هناك حلّ واقعي ممكن لصالح جميع السوريين، من دون خروج سائر القوى الدولية والميليشيات الوافدة من سورية بعد التوصل إلى توافقات دولية إقليمية تراعي مصالح السوريين وتطلعاتهم.

والواقعية تلزمنا هنا بضرورة أخذ الصعوبات والتحديات التي تنتظر المشروع الوطني السوري في يومنا هذا بعين الاعتبار. فهناك توتر يخيم على العلاقة الكردية العربية. ولكنني على ثقة بأنّ الأمور لم تصل بعد إلى حالة القطيعة، فالحكماء من الطرفين هم ضد التصعيد، بل يعملون على التخفيف من حالة التشنج والتوتر. هذا في حين أنّ المتطرفين من الجانبين، وهم لحسن الحظ قلة، يدفعون الأمور نحو التصعيد. وربما هناك قوى إقليمية ودولية تدفع هي الأخرى في هذا الاتجاه، بما ينسجم مع خططها، وحساباتها الخاصة. ولكن المشكلة الأساسية في سورية تتمثّل في النزاع الطائفي بين السنّة والعلويين، وهو النزاع الذي يعد النظام المسؤول الأول عن إثارته، وتصعيده، وتوظيفه لصالحه. وهناك نزاعات جهوية مناطقية. ولكن كل ذلك يمكن معالجته بوجود مشروع وطني سوري يطمئن سائر السوريين، على قاعدة إزالة الهواجس بعقود مكتوبة، وتعزيز الثقة، والتوافق على آلية لحلّ الخلافات.

أما الحامل الاجتماعي لهذا المشروع، فلا بدّ أن يكون من مختلف المكوّنات السورية، يجمع بين المؤمنين بقدرة السوريين على العيش المشترك، وتجاوز آثار ما حصل. ولكن هذا لن يتم قبل رحيل النظام المستبدّ الفاسد المفسد المسؤول عن مآساة السوريين المستمرة منذ عقود. هذه المأساة التي أخذت طابعًا كارثيًا في سنوات الثورة. المؤمنون بالمشروع الوطني عليهم أن يكونوا على استعداد لبذل الجهود الجبارة لتحقيق المصالحة الوطنية السورية العامة، وترميم النسيج المجمعي الوطني، وإن تطلب الأمر منهم التنقل بين جميع الحارات والقرى السورية، بل بين العائلات في جميع المناطق السورية. علينا أن نعمل من أجل بناء أحزاب وطنية سورية تتّخذ من الوطنية السورية هوية لها، مع مراعاة واحترام سائر الخصوصيات. والدولة هي الأخرى لا بدّ أن تكون حيادية، قوميًا ودينيًا وأيديولوجيًّا. حتى تكون دولة الجميع. أما الإصرار على تجريب الأيديولوجيّات التي ثبت فشلها، فهذا سيؤدي إلى استمرارية الأزمة التي نعيشها، الأمر الذي يترك الباب السوري مفتوحًا على كل الاحتمالات التي لا تخدم المصلحة الوطنية السورية.

ما توصيفك للعلاقات الحالية بين المثقفين العرب والكرد السوريين، وقد رأيتَ أنها “إذا بُنيت على أسس سليمة من شأنها أن تؤثر بصورة إيجابية في الموقفين: السياسي الحزبي، والشعبي العام لدى العرب والكرد على السواء”؟ وهل يمكن أن يتيح السلاح مجالًا واسعًا للفكر كي يقدم أطروحاته، في الوقت الذي تغذي فيه قوى إقليمية ودولية الصراع بين الأطراف السورية المتحاربة فوق الأرض التي مزقتها الحرب في العشرية الأخيرة؟

العلاقة بين المثقفين العرب والكرد راهنًا هي أفضل من العلاقة التي كانت قبل الثورة. فالمناقشات هي أعمق وأوضح، ولم تعد لغة المجاملات هي الطاغية. وهناك توجّه عام نحو تأكيد أهمية المشروع الوطني السوري، بوصفه الإطار الجامع بين السوريين. لم تعد هناك مسائل أو مناطق محظورة على التفكير والمناقشة والحوار. وهي المسائل والمناطق التي كان النظام قد تمكّن من إخراجها من دائرة المباح فكريًا. ولكن هذه العلاقة كان المفروض أن تكون أفضل وأكثر تأثيرًا في التوجّهات العامة للسوريين. هناك نقاشات ومراجعات فكرية مهمة بينيّة، تجري ضمن مجموعات المثقفين السوريين الموزعة بين مختلف أدوات التواصل الاجتماعي، والمؤسسات البحثية والصحافية التي تشكّلت بعد الثورة، العربية منها والسورية. ولكن علينا أن نعترف بوجود مجموعة من المثقفين، في هذه الضفة أو تلك، ممن لم يتمكّنوا من القطع مع بقايا الأيديولوجيّات القومية سواء من العرب أم من الكرد. ولم يتحرروا من أوهام الماضي، لذلك لا يستطيعون قراءة المستقبل بدقة. هناك العديد من المثقفين العرب والكرد الذين ساروا، لأسباب مختلفة، مع النزعة الشعبوية التي التزمتها الأطراف السياسية؛ وأصبحوا جزءًا من حالة الاستقطاب التي فرضها المتطرفون من الجهتين. وهي حالة تتناغم مع جهود ومحاولات قوى إقليمية، وربما دولية تستهدف تفجير العلاقة بين المكوّنات التي تشكّل قوام النسيج المجتمعي الوطني السوري.

وأذكر هنا، على سبيل المثال، أنّ مؤسسات إعلامية إقليمية ودولية تصرّ على الربط بين حزب الاتحاد الديمقراطي، والكرد السوريين. بل تجعله ممثّل الكرد السوريين. هذا في حين يعلم الجميع أنّ هذا الحزب أُقحم في الساحة السورية، والكردية السورية على وجه التحديد، عبر توافقات أمنية مع النظام منذ الأيام الأولى للثورة. بل ربما كانت هناك اتفاقات سابقة استعدادًا لمواجهة الثورة. وقد تمكّن هذا الحزب، الذي هو كما أسلفنا الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، من إحكام السيطرة على المناطق الكردية بمختلف الأساليب، ومن ضمنها القتل والإبعاد والاعتقال والتهديد وقمع أصوات المخالفين.

هناك العديد من المثقفين من الطرفين ممن كنا نعول عليهم، ونبني على حكمتهم وبعد نظرهم؛ ولكنهم لظروفهم الخاصة انساقوا مع الشعبوية القوموية أو الإسلاموية، بهذه الصورة أو تلك. الظروف التي مر بها السوريون منذ نحو عشر سنوات كانت قاسية جدًا من جميع النواحي. لذلك أقول أحيانًا: إنّ من اجتاز هذه المرحلة، وهو محتفظ بتوازنه العقلي وسلامته النفسية، فقد فاز. وهذا ما يستوجب المزيد من التواصل والحوار والتفاهم بين المثقفين العرب والكرد من المؤمنين بالمشروع الوطني السوري، والعمل المشترك في سياق المشاريع الثقافية التي تؤسس لوعي وطني يستوعب التعددية بكل أشكالها، ويبني عليها، بل يطورها ضمن إطار الوطن المشترك. وقد كانت في هذا المجال خطوات ثقافية ناجحة واعدة، أثرت إيجابيًا على المستويين السياسي والشعبي العام منها. نحن نحتاج من دون شكّ إلى المزيد. أنا متفائل من هذه الناحية، رغم كل الضجيج الذي يحدثه المتطرفون هنا وهناك.

إلى أيّ مدًى تعرّض الكرد للظلم في التاريخ السوري المعاصر، خاصة في ظل حكم حزب البعث والأسدين الأب وابنه الوريث؟

المسألة الكردية السورية هي حصيلة السياسات الاستعمارية التي قسمت المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى. وتوزع الكرد بموجبها بين أربع دول هي: تركيا، إيران، العراق، وسورية. وذلك بعد أن كانوا موزعين بين دولتين: تركيا، وإيران. كما أنها حصيلة إخفاق الدولة السورية في تبني مشروع وطني سوري، كان من شأنه طمأنة جميع السوريين، وتوحيدهم على صعيد التوجه والولاء مع احترام تنوّعهم وانتماءاتهم الفرعية. فالتوجّهات العامة للسياسيين السوريين خاصة في مرحلة الخمسينيات توزعت بين ثلاثة تيارات لم تعط أيّ اعتبار للوطنية السورية، بل جميعها كانت عابرة للحدود، ولا تعترف بالحدود الدولية لسورية الحديثة، وهي الحدود التي تتعرّض اليوم لمخاطر جدّيّة باتجاه التقسيم، إذا ما استمرت مناطق النفوذ الحالية لمدة من الزمن، وتشكّلت شرائح وقوى مجتمعيّة ترى مصلحتها في التقسيم، وتناغم ذلك مع حسابات ومصالح القوى الدولية والإقليمية التي لا تقيم أيّ وزن أو اعتبار لتطلّعات السوريين.

الطامة الكبرى بالنسبة إلى الكرد السوريين بدأت مع حكم حزب البعث الذي يدعو في برنامجه صراحة إلى طرد كل من يصرّ على انتمائه القومي غير العربي من “الوطن العربي” الذي يحدده البعث بنفسه ولنفسه، ومن دون العودة إلى أيّ مستندات تاريخية، علمية، جغرافية وغيرها. فقد تعرّض الكرد في ظل حكم البعث لظلم مزدوج، تمثّل في الظلم العام الذي تعرض له سائر السوريين في ظل حكم البعث العسكري الأمني القمعي. كما تعرّضوا في الوقت ذاته لظلم خاص فُرض عليهم بناء على انتمائهم القومي، ومطالبتهم بحقوقهم القومية. هذا الظلم الخاص تمظهر في هيئة اضطهاد مركب، تجسّد في عدم الاعتراف بأيّ حقوق قومية للكرد، ومنها الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية والإدارية من جهة، وتعرّضهم من جهة أخرى لجملة من المشاريع الاضطهادية التمييزية التي استهدفت الكرد صراحة نتيجة انتمائهم القومي. فكان مشروع الإحصاء الاستنثاني في محافظة الحسكة عام 1962، ومشروع “الحزام العربي” الذي طبق عام 1973. إلى جانب سياسات التعريب القسريّة التي شملت تعريب أسماء القرى والبلدات، وحتى أسماء الأشخاص والمحلات. هذا إلى جانب الاستغلال الواضح لقانون الإصلاح الزراعي؛ وعدم توزيع الأراضي على الفلاحين الكرد، في كثير من المناطق، بعد أن تم سحب الجنسية السورية منهم بموجب الإحصاء المشار إليه. أبواب كليات الجيش والشرطة أُغلقت في وجه المتقدمين من الكرد، وحُرم الطلاب الكرد من البعثات الدراسية الداخلية والخارجية منها. وظائف الدرجة الممتازة والأولى سُدت أبوابها أمام الكرد، مهما كانت مؤهلاتهم العلمية. أما الوظائف الأخرى فكان الحصول عليها يستوجب الموافقات الحزبية والأمنية. لم يعين أيّ كردي كسفير، بل حتى على مستوى مدير ناحية. بعض الكرد الذين تسلموا مراكز وزارية كانوا يصلون إلى مواقعهم عبر حزب البعث أو الحزب الشيوعي، وليس بوصفهم ممثّلين لأحزاب كردية أو كرد مستقلين. الثقافة الكردية محاربة بكل الأشكال. اللغة الكردية ممنوعة في مجال الطبع والنشر والتعليم. المناطق الكردية من أكثر مناطق البلاد إهمالًا ونهبًا. لا توجد مشاريع تنموية زراعية أو صناعية. القطاع الزراعي تعرض لتخريب غير مسؤول. المحاصيل الزراعية تشترى من أصحابها بأبخس الأثمان.

هذه السياسة كانت متبعة في عهد الأسد الأب، واستمرت في عهد الابن الوريث الذي

أضاف إليها المرسوم 49 لعام 2008 الذي مُنع بموجبه بيع وشراء وبناء وترميم أيّ عقار، إلّا بعد موافقة الأجهزة الأمنية والوزارات المعنية، وذلك بعد أن أعلن كامل المناطق الكردية مناطق حدودية، تسري فيها إجراءات خاصة لدواعٍ “أمنية”. شخصيًا، لا أجد مصطلحًا مناسبًا لتوصيف هذه السياسة سوى مصطلح العنصرية القوموية. لا أعلم أهناك مصطلح آخر أدقّ أم لا.

أقرأ اليوم، بكل أسف، لبعض المثقفين العرب ممن يتناغمون مع النزعة الشعبوية القوموية، بعض التعيلقات التي تتهم الكرد باضطهاد العرب بمختلف الأشكال. وهم يستندون في ذلك إلى ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي، علمًا أنً الاضطهاد الذي مارسه ويمارسه هذا الحزب، وبالتنسيق مع النظام السوري، بحق الكرد يفوق كثيرًا ذلك الذي يمارسه بحق المكوّنات الأخرى. فقد تسبب هذا الحزب في هجرة نحو مليون كردي من المناطق الكردية التي لم تشهد الحرب والتدمير مثلما شهدته المناطق السورية الأخرى، ومع ذلك اضطر الناس إلى الخروج، والمنطق السليم يستوجب البحث عن أسباب هجرة هؤلاء.

ما رأيكم بالحوارات الكردية – الكردية التي تجري برعاية أميركية من جهة، والحوار بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وقوى المعارضة السورية من جهة أخرى؟

هذه الحوارات أو المفاوضات لم تؤدِ حتى الآن إلى أيّ نتائج ملموسة. ما صدر من بيان بخصوص التوافقات السياسية، والحديث عن التوافقات حول بنية المرجعية الكردية وحصة كل طرف فيها، لا يتجاوز دائرة العام المبهم غير المحدد. لم يتم حتى الآن تناول الملفات الأساسية. هناك مماطلة واضحة من جانب حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يتحكم في الكيان المسمى بـ “أحزاب الوحدة الوطنية الكردية”. الموضوع يتوقف على مدى جدّيّة الأميركان، وعلى مشروعهم في سورية والمنطقة. لذلك علينا أن ننتظر الإدارة الجديدة وتوجّهاتها. الأحداث الأخيرة التي تمت في العديد من المناطق الكردية السورية التي شملت اختطاف القاصرين، واقتحام مقار بعض أحزاب المجلس الوطني الكردي تؤكد وجود تيار ضمن حزب الاتحاد، أو بكلام أدق ضمن حزب العمال، لا يعطي أيّ قيمة للمفاوضات. بل يعمل على عرقلتها، وذلك لإدراكه بأنّ ما يطالب به المجلس الوطني الكردي، من جهة ضرورة فك الإربتاط بين حزب الاتحاد والإدارة الذاتيّة من جهة، وحزب العمال من جهة أخرى، مؤداه إبعاد تأثير حزب العمال المباشر عن الساحة الكردية السورية، وهذا ما لا يقبل به حزب العمال بالمطلق. شخصيًا، لا أجد أيّ أمل لنجاح هذه المفاوضات، إذا سارت ضمن الوتيرة الحالية، وبالحسابات الحالية من قبل كل طرف. ولكن الطرف الأميركي إذا كان جادًا يمكنه تحقيق شيء، وذلك بالتفاهم مع تركيا وإقليم كردستان العراق. قناعتي أنّ أيّ حوار كردي-كردي معزول عن الحوار الوطني السوري، المحلي أم العام، لا يمكن له أن يكون فاعلًا مفيدًا للكرد والسوريين بصورة عامة. ولكن المشكلة أنّ المعارضة السورية هي الأخرى مفككة، مبعثرة، منقسمة على ذاتها، موزعة بين الائتلاف والمنصات، والكيانات الهشة، والتشكيلات المتكاثرة التي تظهر يوميًا، هذا بالإضافة إلى الشخصيات التي ليس من السهل تحقيق التوفيق بين وجهات نظرها حول مشروع وطني متكامل.

الائتلاف اليوم في أضعف حالاته

كمعارض كردي سوري، ما أهمّ ما تطالبون به قيادة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في المرحلة الراهنة؟

أنا كردي سوري، وسوري كردي في الوقت ذاته. انتمائي الأول يفسح المجال للتواصل مع الكرد في كل مكان. وبالفعل لدي علاقات واسعة مع المثقفين والسياسيين والشخصيات المجتمعيّة الكردية، سواء في سورية أم في خارجها. لدي علاقات ممتازة مع كرد العراق من مختلف التيارات، وكذلك مع كرد تركيا وإيران. أما انتمائي الثاني: السوري الكردي، فهو الذي فتح ويفتح الآفاق أمام التواصل مع مختلف المكوّنات والتيارات السياسية والفكرية السورية. وهنا أيضًا لدي علاقات واسعة مع المثقفين والسياسيين والشخصيات المجتمعيّة السورية في مختلف المناطق والجهات والتوجّهات، وهي علاقات أعتزّ بها، كما لدي علاقات جيدة مع مثقفين وسياسين عرب من مختلف الدول العربية. أما مسألة إعطاء الأولوية لهذا الانتماء أو ذاك، فهذه مسألة قد تبدو من الناحية العاطفية الشخصية صعبة بعض الشيء. ولكننا إذا انطلقنا من المشروع الوطني السوري الجامع، علينا أن نركز على الانتماء السوري أولًا. كنت في بداياتي السياسية معارضًا كرديًا. عملت ضمن حزب كردي، ثم وجدت أنّ القضية الكردية السورية لا تنفصل عن القضية السورية العامة، وأنّ الحلّ لا بدّ أن يكون عامًا وشاملًا. إنّ سورية المتوازنة، المنسجمة مع طبيعتها، القادرة على طمأنة جميع مكوّناتها، بل جميع مواطنيها؛ ستكون من دون شكّ على وئام وانسجام مع محيطها العربي والكردي وجوارها الإقليمي، ومع المجتمع الدولي. ربما رأيي هذا لا يروق للمتطرفين في هذه الجهة أو تلك. ولكن من قال إنّ التطرّف هو الحلّ في سورية. أقول دائمًا: سورية لا تتحمّل التعصب بكل أشكاله، ولا تتحمّل التعصب القومي أو الديني أو الأيديولوجي. أما بالنسبة للائتلاف، فلا نذيع سرًا إذا قلنا إنه اليوم في أضعف حالاته. ولهذا الأمر أسبابه ومقدماته وتراكماته. ولكن مهما يكن، وبغض النظر عن ملاحظاتنا على عمله الحالي، فإننا نرى ضرورة في أن يبادر بمشاريع وطنية لطمأنة السوريين جميعهم. إذا كنا نريد سورية متعافية موحدة قادرة على طمأنة جميع مكوّناتها، فلا بدّ من أن نثبت ذلك للناس. هناك مشكلة حقيقية اليوم بين السنّة والعلويين، بين الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين، والمسيحيون لهم هواجسهم المشروعة. هناك مشكلات بين المناطق السورية المختلفة، بين السويداء ودرعا مثلًا، بين الريف والمدينة في العديد من المناطق. وضمن هذا السياق تأتي العلاقة العربية – الكردية التي دفع بها المتطرّفون من الجانبين نحو التشنج والتوتر. هناك حرص وإصرار من قبل بعضهم على الربط بين الكرد وحزب الاتحاد الوطني الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني؛ هذا مع معرفتهم بعدم صواب مثل هذا الربط. وقد بيّنا ذلك باستمرار، في مختلف المناسبات. وقلنا في أكثر من مناسبة: تمامًا مثلما لا نستطيع أن نقول إنّ جميع العرب السنّة هم (داعش)؛ كذلك لا نستطيع أن نقول إنّ كل الكرد في سورية هم من أنصار أو أتباع مشروع الحزب المذكور. بل إنّ الجهات التي أقحمت مشروعي (داعش) و(ب. ي. د) في الواقع السوري كانت تريد بناء على خطة مسبقة إجهاض الثورة. لذلك على من يدعي أنّه يعبر عن تطلّعات الثورة السورية أن يكون واعيًا لهذا الموضوع، وإلّا فإنّ الشكوك ستكون هي سيدة الموقف، خاصة بعد التوضيح ومعرفة الوقائع. على الائتلاف أن يختار إما أن يكون مجرّد واجهة سورية تستخدمها القوى الإقليمية والدولية وقت اللزوم، ووفق ما يناسبها ويتناغم مع حساباتها؛ وإما أن يكون مؤسسة تعبّر بالفعل عن تطلّعات السوريين، وتدافع عن مصالحهم، وتطرح المبادرات التي تطمئن كل السوريين، من دون أيّ تمييز أو استثناء، كما أشدّد وأكرر عادة، وذلك لأهداف وطنية أريد التركيز عليها، وبيان أهميتها بكل وضوح. وفي هذا الإطار، أشير مثلًا إلى الوثيقة التي تم توقيعها بين الائتلاف والمجلس الوطني الكردي. كم من الجهود بذلت لشرح هذه الوثيقة، وبيان فوائدها في واقعنا السوري؟ ما المانع من إصدار وثائق مشابهة تخص مختلف المكوّنات السورية، لتكون أرضية لوثيقة وطنية سورية جامعة؟ وثيقة تطمئن، ولا ترواغ عبر مجاملات خاوية لم ولن تقنع أحدًا.

ما المصالح والغايات التي تجعل الولايات المتّحدة الأميركية تقف مع تركيا وتتخلى عن ذراعها الكردية في سورية (قسد)؟ وهل يدرك السياسيون الكرد ماهيّة الموقف الأميركي على حقيقته؟

الولايات المتّحدة الأميركية هي قوة عظمى. وعادة ما أقول: إنّ القوى العظمى تراعي مصالحها أولًا. وهي لا تخشى ولا تخجل من تغيير مواقفها، والتخلي عمن اعتمدت عليهم في سياق مراعاتها لمصالحها التي عادة ما تأتي أولًا. خاصة في وقتنا هذا الذي باتت فيه المصالح العارية هي الهدف. ولكن صيغة السؤال المطروح هنا لا تميّز هي الأخرى بين الكرد السوريين والأحزاب والقوى الكردية السورية، سواء السياسية منها أم المجتمعيّة، وبين مشروع حزب العمال الكردستاني عبر واجهته السورية. هذا الحزب دخل إلى الساحة الكردية السورية بعد التوافق مع نظام الأسد. هذه مسألة معروفة للقاصي والداني، وقد استطاع مع الوقت الهيمنة بعد أن تمكّن من إبعاد الجميع.

وفي سياق الحملة الأميركية على (داعش) في منطقة شرقي الفرات، وذلك بعد التوافق مع الروس، وتوزيع مناطق العمل والنفوذ؛ اعتمدت أميركا على قوات هذا الحزب لتنفيذ المهمات الأرضية، في حين اكتفت القوات الأميركية والدولية المتحالفة معها بالقصف الجوي. العلاقة هي ميدانية استخباراتية براجماتية. ولا أعتقد أنّ هناك مشروعًا أميركيًا لإنشاء كيان كردي في سورية كما يُروّج، ويُستخدم إعلاميًا، من قبل بعض القوى، سواء السورية أم الإقليمية. موضوع شرقي الفرات ارتبط بالوضع في المنطقة بصورة عامة، والعراق تحديدًا. وليس من المستبعد أن تقوم الولايات المتّحدة الأميركية بإدخال قواتها المنسحبة من العراق إلى المنطقة المعنية لتبقى قريبة من العراق؛ فالمنطقة هي متداخلة مع العراق جغرافيًا ومجتمعيًا.

الوجود الأميركي هناك هو حتى الآن مبنيّ على التوافقات مع الروس. لذلك هو وجود لا يخضع لضغوط. وسيستمر هذا الوجود ريثما تتم التوافقات الدولية والإقليمية. من دون شكّ، لن تفرّط الولايات المتّحدة الأميركية بتحالفها مع تركيا، بالرغم من كل التشنج الذي يهيمن حاليًا على العلاقة بينها. وتركيا هي الأخرى لا تستطيع -وفق الظروف الحالية- أن تتخلى عن علاقاتها مع الغرب والناتو والولايات المتّحدة الأميركية. ربما هناك تباينات وامتعاض من السياسات هنا وهناك، ولكن في نهاية المطاف هناك حسابات إستراتيجية ليس من السهل تجاوزها، أو القطع معها.

ما فائدة وجود الإدارة الذاتيّة لشمال وشرقي سورية المدعومة بالاستثمارات والمشاريع الأميركية والغربية، وهي معزولة عن محيطها السوري؟

هذه الإدارة تشكّلت قبل الدخول الأميركي إلى المنطقة، أعلنت صيغتها الأولى عام 2014. وهي إدارة شكّلها حزب الاتحاد الديمقراطي من طرف واحد، وحرص منذ اليوم الأول على ضم قوى وشخصيات تزينيّة من مكوّنات المنطقة، سواء من العرب أم السريان، وهي في معظمها كانت على علاقة مع النظام أو قريبة منه. ظهرت هذه الإدارة بالتناغم والتوافق مع نظام الأسد، وبناءً على تبادل الأدوار معه. ولم يكن للكرد السوريين أيّ رأي أو دور في تشكيل هذه الإدارة، إلّا من خلال الدور التزييني الذي منحه الحزب المذكور لبعض الأحزاب الهامشية التي ارتبطت بمشروع حزب العمال الكردستاني في سورية. وكان أبو بكر البغدادي قد سبق تشكيل هذه الإدارة بإعلان دولة (داعش) في سورية والعراق في عام 2013، واتّخاذه بعد ذلك الرقة عاصمة لتلك الدولة المزعومة، كما نتذكر جميعًا. ومن الطرائف التي ما زلت أتذكرها بهذه المناسبة أنّ بعض جهات المعارضة أصدرت في ذلك الوقت بيانات تنديد بالإدارة الذاتيّة، لكنها لم تعلن أيّ موقف من دولة (داعش)! وكان تعليقي في ذلك الحين (إذا كان المقصود هو الحرص على وحدة سورية ومستقبلها، فـ “دولة داعش” تمثّل مشروعًا أخطر من مشروع الإدارة الذاتيّة. حتى على المستوى الإصطلاحي مفهوم “الدولة” أوسع وأشمل من مفهوم “الإدارة الذاتيّة”).

بعد دخول الولايات المتّحدة الأميركية إلى المنطقة، على إثر التوافق مع الروس، وعلى الأرجح بناءً على توافق أمني ثلاثي أميركي-روسي-إسرائيلي، وبمعرفة إيرانية وربما تركية؛ تم التعامل مع هذه الإدارة كسلطة أمر واقع، وهناك مشاريع تنفذها المنظمات الدولية في المنطقة. حاليًا يتركز معظم جهود تلك المنظمات على الرقة وجنوب الحسكة، وهي المناطق التي خضعت لسلطة (داعش). هناك من يقول إنّ وضعية وجود سلطة، مهما كان نوعها، أو الموقف منها، أفضل من الفوضى. وربما الأميركان لهم هذا لموقف. ولكن في جميع الأحوال يبقى الوضع في شرقي الفرات جزءًا من الوضع السوري العام غير السوي حاليًا. فالأوضاع في منطقة إدلب -كما نعلم- ليست سوية؛ هناك الحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ والفصائل المسلحة والتواجد التركي. من الذي يحكم؟ ومن الذي يتحكّم في الموارد بخاصة المعابر البرية؟ وكذلك الأوضاع في عفرين ومناطق الباب وغيرها. والأمر نفسه في المناطق الخاضعة -بالاسم- لسيطرة النظام، بينما في حقيقة الأمر هناك النفوذ الروسي والإيراني، والفصائل المذهبية العراقية، وميليشيات “حزب الله”.

الموضوع السوري بصورة عامة يحتاج إلى توافق دولي-إقليمي ينصُّ على ضرورة انسحاب جميع القوات والميليشيات الوافدة من سورية. ولكن هذا لن يتم قبل توافق السوريين أنفسهم. هذه الحالة إذا ما استمرت، فإنها ستؤدي، شئنا أم أبينا، إلى بروز فئات وشرائح تجد أنّ مصلحتها تتواءم مع الاستمرار في وضعية الانقسام والفوضى العارمة، لأنها تمكّنها من تحقيق ثراء فاحش، ما كان لها أن تحلم به في الأحوال العادية.

بتقديركم، ما الدور الذي سيلعبه الكرد في المرحلة القادمة، خاصة مع بداية عهد الرئيس الأميركي جو بايدن؟

أعتقد أنّ دور الكرد السوريين لن يكون بمعزل عن الوضع السوري العام. أما بالنسبة إلى موضوع دور حزب الاتحاد الديمقراطي، أي حزب العمال الكردستاني، فهو أمر يتوقف على توجهات الإدارة الأميركية الجديدة وخططها الخاصة بالتعامل مع الملف الإيراني والعلاقة مع تركيا. وسياساتها في سياق إعادة ترتيب الأمور في المنطقة. الحزب المذكور هو مجرد أداة اعتمدتها الإدارة الأميركية في إطار سياساتها البراغماتيّة، وبحثًا عن أوراق ضاغطة لا تكلفها كثيرًا، وتخفف عنها عبء ضغوطات الرأي العام الأميركي الذي ما كان ليقبل بإرسال الجنود الأميركان إلى حرب برية جديدة، لا سيما بعد التجربة المريرة في كل من العراق وأفغانستان، وقبل ذلك في فيتنام.

توجّه روسي لوضع دستوري شكلي وإجراء انتخابات صورية

أتوقف معكم للحديث عن مسار ومآلات مفاوضات جنيف، راجيًا أن تحدثونا عن نظرتكم إلى اجتماعات اللجنة الدستورية الأخيرة؟ كيف تقرأ موقف الائتلاف بعد تخليه عن خارطة طريق الحلّ التي وضعتها الأمم المتّحدة في القرار (2254) وفي بيان (جنيف1)؛ بقراره تشكيل “لجنة عليا للمفاوضات”؟

الحلّ المطلوب في سورية في نهاية المطاف هو الحلّ السياسي. ولكن هذا الحلّ يستوجب مقوّمات ومقدمات، حتى يكون حلًا واقعيًا مقبولًا مستدامًا. لا بدّ من البحث عن أسباب المشكلة، ومتابعة تطوراتها، ودراسة مآلاتها، وتحديد مسؤولية كل الجهات، ومن ثم التوافق على قواعد الحلّ الذي يرتكز على عملية انتقال حقيقية من النظام السابق إلى نظام سياسي جديد، يتجاوز الأسباب التي أدّت إلى قتل نحو مليون سوري، وتهجير ونزوح أكثر من نصف سكان سورية، هذا إلى جانب التدمير، والانهيار الاقتصادي المرعب الذي ينعكس اليوم بصورة كارثية على الواقع المعيشي للسوريين. وهذه المقوّمات غير موجودة راهنًا؛ فالنظام يتصرف وكأنه قد أنتصر، ويهدّد ويتوعّد ويخوّن كل الذين ثاروا عليه. هذا مع أنّ الجميع يعلم أنه لولا الدعم الروسي والإيراني، ولولا الميليشيات الوافدة، لما تمكّن هذا النظام من الاستمرار لأشهر، إن لم نقل لأيام. حاليًا توجد ثلاث مناطق نفوذ معلنة، فضلًا عن منطقة رابعة في الجنوب السوري لها وضع خاص، كما نعلم جميعًا، وذلك بناءً على المحددات الإسرائيلية، ومراعاة لوضع الأردن. أما المجتمع الدولي فإنه لم يأخذ موضوع الحلّ في سورية حتى الآن على محمل الجدّ، وكلّ ما هنالك لا يتجاوز نطاق عملية إدارة الأزمة.

الدبلوماسي والأكاديمي الهولندي المعروف نيقولاوس فان دام، وهو الخبير في الشأن السوري منذ عقود، يتناول هذا الموضوع بوضوح في كتابه: «تدمير وطن». ويذهب إلى ما معناه: أنّ المجتمع الدولي لم يساعد السوريين عسكريًا لحسم موضوعهم، كما لم يساعدهم سياسيًا، ولم يتدخل كما ينبغي لإلزام النظام بقبول حلّ سياسي، بل غضّ النظر عن جميع جرائمه. وقد أدّى هذا الواقع إلى تداعيات ضمن مؤسسات المعارضة السورية. وبكل أسف، أفسح السوريون المجال أمام القوى الدولية والإقليمية للتدخل في أدق تفاصيل؛ فكانت التدخلات في تشكيل الائتلاف وتوسعته، ومن ثم كانت التدخلات في عملية تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات، وتشكيل الوفد المفاوض، وتشكيل لجنة الدستور. ومن حين إلى آخر، كانت الدول تتدخل لتحديد الأشخاص الذين يناسبون مقاساتها، وقد صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بكل وضوح في هذا المجال، بعد مؤتمر (الرياض2) وإعادة تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات.

شخصيًا، حرصت باستمرار على عدم المشاركة في مسار جنيف منذ بداياته الأولى؛ لأنني لم أكن مقتنعًا بجدّيّة المجتمع الدولي في مساعدة السوريين للوصول إلى حلٍّ عبر هذا المسار، وما زلت على قناعتي تلك. خارج نطاق هذا المسار، كانت هناك تفاهمات أميركية-روسية، دخلت بموجبها القوات الروسية إلى جانب النظام بغية منعه من السقوط، مقابل تحكّم الولايات المتّحدة الأميركية في منطقة شرقي الفرات، وحصول تركيا على مناطق عدّة في الشمال الغربي. وفي موازاة مسار جنيف، كان مسار أستانا الذي أسفر عن خروج المقاتلين من معظم المناطق السورية الداخلية، مثل حمص وغوطة دمشق وحلب والجنوب السوري. القرار رقم (2254) كان من المفروض أن يتّخذ من بيان (جنيف1) عام 2012، ومن قرار مجلس الأمن رقم (2118) عام 2013 مرجعيته، ولكن فجأة، بقدرة قادر وبضغط من الروس، تم تحوير المسار رأسًا على عقب، وأصبحت الأولوية للدستور، وتم السكوت عن هيئة الحكم الانتقالي، التي تتم الإشارة إليها من حين إلى آخر من جانب بعض أطراف وفود المعارضة الرسمية لذرّ الرماد في الأعين. هذا في حين أنّ التوجّه الروسي هو وضع دستوري شكلي، وإجراء انتخابات صورية، وإنّ الله يحب المحسنين، كما يقال. ومن هنا، كانت تلك الحملة الشعبية الواسعة على قرار الائتلاف تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات، وذلك بعد أن تلمّس الناس عبر التجربة كارثية نتائج التنازلات، وطريقة إخراجها. لا أعلم ما هي الأسباب الحقيقية التي دفعت الائتلاف إلى إصدار هذا القرار، ولعله من المناسب أن يوجّه هذا السؤال لهم. ولكن قرارهم أثار كثيرًا من التساؤلات والشكوك، حتى اضطّر الائتلاف نفسه إلى تجميد القرار، لا إلغائه. ما هي الحكمة من وراء ذلك؟ من المفروض أن يجيب الائتلاف نفسه، بصدق، عن هذا السؤال. شخصيًا، لست متفائلًا بمسار جنيف حتى الآن. ولا أعتقد أنه سيسفر عن شيء، كل ما هناك أنه يعطي انطباعًا زائفًا بوجود سعي دولي من أجل الوصول إلى حلّ. وغالبًا ما يستخدم هذا المسار بصورة مناسباتيّة من قبل الجهات الدولية ذات التاثير على الملف السوري، وذلك للتنصل من المسؤولية. هذا في حين أنّ الدول المعنية تتوافق فيما بينها -من حين إلى آخر- على توزيع مناطق النفوذ، وتغيير حدودها، وتتوافق على قواعد التعامل في ما بينها، كل ذلك من دون أيّ اعتبار لرأي السوريين، ومن دون أيّ مشاركة سورية لا في المشاورات ولا في القرارات.

هل ترون أنّ هناك أملًا في إطاحة حكم بشار الأسد ونظامه ومنظومته الأمنية والعسكرية عبر مسار جنيف؟

المعطيات الحالية والمؤشرات الموجودة لا توحي بذلك. بل هنالك محاولات روسية حثيثة، عبر الضغط على الوسطاء الدوليين، لإقناع المعارضة بالتنازلات، واستخدام مصطلحات مراوغة، يمكن أن تُفسّر بأكثر من معنى. وإن قبول “المعارضة الرسمية” بهذه المصطلحات لا يمكن تفسيره إلا على أحد الوجهين: إما الجهل بمضمون تلك المصطلحات ودلالاتها، وما سيترتب على الأخذ بها؛ وإما الرغبة في عقد صفقة لمشاركة النظام في الحكم بهذه الصيغة أو تلك. هذا مع معرفة الجميع بأنّ هذا النظام لم يتنازل حتى الآن عن أيّ شيء، في إطار المفاوضات مع وفد “المعارضة الرسمية”، وما زال يتصرف وكأنه الطرف المنتصر في مواجهة الطرف المهزوم. وأشير في هذا المجال، على سبيل المثال لا الحصر، إلى مصطلحي “العدالة التصالحية” و”العدالة التعويضية”. إن مشكلة السوريين تتمثّل في غياب القيادة الوطنية المتماسكة التي يثق بها السوريون، الأمر الذي كان من شأنه التأثير في مواقف القوى الدولية والإقليمية. فهذه القوى اليوم تدرك الأوزان الحقيقة لمن يفاوضون باسم الثورة السورية، وهي تعرف حقيقة موقف السوريين منهم؛ لذلك تفرض عليهم التنازلات تباعًا. شخصيًا، لا أرى أيّ حلّ في الأفق، وأتمنى أن أكون مخطئًا، ولا أرى أنّ هناك أيّ إرادة جدية دولية لمساعدة السوريين على الوصول إلى الحلّ. من يدري؟ ربما يكون الهدف من ذلك هو الاستمرار في وضعية مناطق النفوذ إلى إشعار آخر، لتصبح كل البدائل التي لا يريدها السوريون اليوم مطروحة. النظام لم يعد كما كان، إنه محض حطام، ولكن وجوده ما زال ضروريًا للروس والإيرانيين الذين يحاولون من خلاله شرعنة وجودهم في سورية. لا أعلم عن أيّ شرعية يتحدثون؟ ولكن هذا هو المنطق الأعوج الذي يسير بموجبه المجتمع الدولي راهنًا، بكل أسف.

هل أصبحت مشكلتنا -السوريين- متركزة فقط على صياغة دستور جديد، بعد كل الجرائم التي ارتكبها نظام بشار الأسد الوحشي والاستبدادي والفاسد والمذهبي بحق ملايين المدنيين؟ ألم يخرج الشعب ثائرًا ومطالبًا برحيل رأس النظام وأركانه وأجهزته الأمنية ومؤسسته العسكرية الطائفية؟

مشكلة السوريين لن تُحلّ عبر دستور شكلي، على الأرجح لن يكتب، بل ربما ستفرضه الدول، إذا توافقت على حلٍّ ما. المشكلة هي في آليات تطبيق الدستور، والمؤسسات التي تلتزم به وتفسره، وتبتّ الخلافات حوله. وكل ذلك يستوجب وجود عملية فصل حقيقية بين السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وشفافية واضحة، وإمكانية المناقشة والاعتراض، وتوفر آلية أكيدة واضحة فعالة للمساءلة والمحاسبة. وكل هذه الإجراءات لا تتوفر في نظام شمولي قمعي، يحكم بقوة أجهزة المخابرات والجيش التابعة له بصورة عضوية. نظام لا يتم البحث في إمكانية تغييره، بل هناك دعوات روسية للتكيف معه، ودعوات أميركية لتغيير سلوكه. هذا في حين تُبذل جهود عربية هناك وهنا لإعادته إلى الجامعة العربية، وبعضها تتواصل مع قياداته الأمنية، بغية التوافق على صفقات تراعي مصالحها وحساباتها، ولا تأخذ بعين الاعتبار تضحيات السوريين وتطلعاتهم. أعتقد أن على السوريين، بعد كل هذه التجارب والتضحيات، أن يتوصلوا إلى قناعة بأنهم، ما لم يحرصوا على قضيتهم وعلى مستقبل أجيالهم المقبلة، لن يفعل ذلك أحدٌ عوضًا عنهم. أما المراهنة على جهود الآخرين، فهذا معناه انتظار التوافق الذي سيكون بشروط الآخرين، وبما يناسب مصالحهم وحساباتهم، وخاصة بعد أن تبدلت الأولويات، وأصبحت مختلف الأطراف، خاصة الإقليمية منها، تسعى لضمان أولوياتها. أما الموضوع السوري، فقد بات بالنسبة إليها مجرّد ورقة من أوراق الضغط أو المساومة أو المقايضة. مسار جنيف في أساسه يقوم على بيان (جنيف1) كما نعرف جيدًا. وجوهر هذا البيان أنّ المحور الذي تتمفصل حوله كل الأمور الأخرى يتمثّل في هيئة الحكم الانتقالي. ولكن فكرة هذه الهيئة أيضًا غامضة ومبهمة وفق صياغة البيان. ومثل هذه الصيغ عادة تكون مألوفة في البيانات والقرارات الدولية التي تكون نتيجة توافقات الحد الأدنى، وهي توافقات غالبًا لا تسفر عن شيء في الواقع العملي، ما دامت الجهات الفاعلة غير متوافقة على طبيعة الحلّ. هذا ما يسمونه بالغموض الخلاق الذي يفسره كل طرف وفق ما يتناسب معه. أعتقد أنه في الوضع السوري لم يحصل التوافق التام بعد بين الروس والأميركان، ولكل طرف أسبابه وأولوياته ومسوغاته. مسار جنيف هو في نهاية المطاف عبارة عن وسيلة من وسائل إدارة الأزمة من دون معالجتها. وقد تمكّن الروس عبر مسار أستانا، ونتيجة الانكفاء الأميركي، من تغيير أولويات جنيف، وقد ساعدهم المبعوث الأممي السابق إلى سورية ستيفان ديمستورا في ذلك، وتجاوبت مع جهودهم جهات في المعارضة، بكل أسف. فبات التركيز على اللجنة الدستورية، حتى ظهر الخلاف بين السوريين، وكان عبارة عن خلاف تقني، في حين أنّ الجميع يعلم أنّ الجوهر يتمثّل في النظام السياسي وأجهزته المخابراتية والعسكرية التي تتحكّم في مفاصل الدولة والمجتمع ومصاير الأفراد. الروس يكسبون الوقت، وكذلك النظام، وهم يستعدون لإجراء الانتخابات الرئاسية في هذا العام وفق حساباتهم، وبمعزل عن النتائج التي يمكن أن تتوصل إليها اللجنة الدستورية أو لا تتوصل إليها. شخصيًا، لم ولن أعوّل على هذه اللجنة. المشكلة لن تحلّ من دون توافق دولي-إقليمي على مساعدة السوريين، ولكنها أولًا وأخيرًا تحتاج إلى توافق السوريين أنفسهم. لأنّ المصير في نهاية المطاف هو مصير شعبهم وبلدهم، ومصير ومستقبل أجيالهم المقبلة.

تركيا لا تستطيع تسليم كلّ أوراقها للروس

هل توافق الرأي القائل: “ما زال المسار السياسي السوري المعارض يعاني مشكلة إيجاد شخصيات قيادية تضمن استقلالية قراراتها في المرحلة المقبلة، بعيدًا عن أيّ استقطاب سياسي يتبع لجهات أجنبية تتعارض مصالحها في سورية”؟ ولماذا نعاني هذه المعضلة بعد نحو عقد من ثورة شعبنا؟

المشكلة لا تتمثّل في عدم وجود شخصيات قيادية؛ فالشخصيات موجودة باستمرار، والشعب السوري لديه القدرة الدائمة على تقديم المزيد، والسوريون في جميع أنحاء العالم معروفون بمهاراتهم وإبداعاتهم، وقدراتهم القيادية، ولكن المشكلة في عالم السياسة على وجه التحديد تتمثّل في عدم قدرة الشخصية القيادية على تقديم المفيد المنتظر من دون تموضعها ضمن فريق متكامل، متماسك، يتبادل أعضاؤه الأدوار والمهمات ضمن إستراتيجية واقعية مدروسة بعناية، تتمحور حول محددات وطنية جامعة؛ هذا مع توفير الآليات التي تضبط سير العمل، وتفسح المجال واسعًا أمام المساءلة والمحاسبة والمراجعات المستمرة. هذه المسائل لا استغناء عنها في أيّ مشروع سياسي، وهي كما نرى من مهمات الأحزاب والقوى السياسية، وليست من مهمات الأفراد، لأنها تفُوق طاقات الأفراد بكثير. وقد أشرنا إلى هذه المشكلة، وتوقفنا عندها في بدايات الثورة السورية؛ إذ لم تكن لدينا أحزاب قوية، قادرة سياسيًا وتنظيمًا وإعلاميًا ودبلوماسيًا على قيادة المرحلة المفصلية التي بدأت مع انطلاقة الثورة السورية وانتشارها لتشمل معظم المناطق السورية. أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية كانت قد أصبحت جزءًا من النظام. وإعلان دمشق، على اسمه الكبير والترويج الذي كان يتم له من قبل المثقفين وبعض القوى السياسية، لم يكن يمتلك الإمكانات التي تؤهله لقيادة المرحلة، وكذلك هيئة التنسيق الوطنية.

أما الإخوان المسلمون فقد كانوا يعانون خلافاتهم البينيّة من جهة، ومن جهة أخرى يعانون ضعف وجودهم وتأثيرهم التنظيمي في الداخل السوري. الأحزاب الكردية كانت في الأساس أحزاب مطلبيّة، إذا صح التعبير، ولم تكن تمتلك أصلًا مشروعًا لتغيير السلطة، أو الإسهام في تغييرها مع قوى المعارضة.

بحثنا في هذا الموضوع مطولًا في المراحل التحضيرية من تأسيس المجلس الوطني السوري، وقلنا في ذلك الحين بأننا نواجه مشكلة. ولكننا حاولنا ضمن حدود المستطاع الجمع بين الأفراد المعارضين ممن كانوا يمتلكون حضورًا بين السوريين، سواء عبر الكتابات والإعلام أم عبر تاريخهم المعروف للجميع في مواجهة النظام، وعملنا على إشراك ممثلي التنسيقيات الشبابية التي أسهمت بصورة أساسية في انطلاقة الثورة واستمرارية التظاهرات السلمية. وسعينا باستمرار من أجل دعوة جميع الأحزاب المعارضة للنظام للمشاركة في المجلس، وكنا نشدّد على المشروع الوطني السوري الذي ينبغي أن يكون بالجميع وللجميع. حرصنا على التواصل مع القوى السياسية: إعلان دمشق وهيئة التنسق والأحزاب الكردية والإخوان، كما تواصلنا مع الأشخاص الفاعلين من مختلف المكوّنات المجتمعيّة السورية، ومن مختلف الألوان الأيديولوجيّة. وشدّدنا على ضرورة التزام الجميع بالمشروع الوطني الذي يحترم خصوصيات الجميع، وعلى قاعدة العام المشترك السوري الجامع. ولكن سرعان ما بدأت الحساسيات بين الشخصيات والقوى السياسية؛ وهي حساسيات حاولنا معالجتها مرارًا وتكرارًا ضمن المجلس، خاصة بين الإخوان وإعلان دمشق. وحاولنا إقناع المجلس الوطني الكردي بدخول المجلس، وسعينا لتوسيع المجلس، ولكن كانت هناك جهود مستمرة من قبل بعض السوريين المعارضين لتشكيل جسم آخر لتجاوز أخطاء المجلس، كما قالوا. ولكن الذي حصل هو أنّ الائتلاف ظهر وهو يحمل في ذاته بذور أزمة بنيويّة لم يتمكّن من معالجتها، ولا أعتقد أنه سيتمكّن من معالجتها. والغريب في الأمر أنّ بعض القوى والشخصيات، ممن كانوا يتّهمون المجلس بأنه إخواني التوجّه، كانوا في مقدمة الذين تحالفوا مع الإخوان في مرحلة الائتلاف! هذا موضوع آخر نترك التفصيل فيه إلى مناسبة أخرى. باختصار: كان المجلس في طريقه، على عيوبه، إلى تشكيل فريق سوري متكامل يمتلك رؤية وطنية واسعة، وقد أثبت في أكثر من مناسبة قدرته على إدارة الخلافات البينيّة ومعالجتها. وكان المجلس متمسكًا بصرامة بمبادئ ومطالب الثورة. وهذا الأمر لم يكن يتناسب مع حسابات كثير من الدول التي كانت قد انضمت إلى مجموعة أصدقاء الشعب السوري لحساباتها الخاصة. المجلس كان نتيجة حوارات سورية-سورية، في حين أنّ الائتلاف كان توليفة إقليمية دولية، في التأسيس والتوسعة. وقد أشرت في كلمتي الافتتاحية لمؤتمر المجلس في الدوحة خريف 2012 إلى أنّ كل مساس بالمجلس معناه إطالة أمد الأزمة. وأعتقد أننا نعيش راهنًا ما حذرنا منه قبل نحو ثماني سنوات. مصيبتنا في الشرق أننا لا نستفيد من تجاربنا، بل دائمًا نلغي السابق، ونبدأ من الصفر، لذلك تكون النتائج صفرية، ما دامت لا تستفيد من الحالة التراكمية. نندم لاحقًا، ولكن في وقتٍ لا ينفع فيه الندم، بكل أسف. لنترك كل المسائل والحساسيات الشخصية جانبًا؛ المجلس كان فرصة واقعية ناجحة تحتاج إلى التطوير من دون شكّ، ولكننا عوضًا عن تطويرها دمّرناها، ولم نقدم الأفضل، مع الأسف. ومع دخول المال السياسي اختلطت الأمور، وتبعثرت الجهود، وأصبحت إمكانات العمل المشترك أصعب وأصعب. هذه الوضعية غير السوية ستستمر، ما لم تتشكّل قوى سياسية ناضحة، قادرة على الجمع بين الناشطين والشخصيات الوطنية السورية التي أثبتت حرصها على قضية شعبها في مختلف المناسبات.

أعتقد أنّ المطلوب حاليًا هو تشكيل مثل هذه الأطر السورية، من قبل السوريين أنفسهم. أما المراهنة على تشكيل أجسام سياسية جديدة بدعم إقليمي دولي، فهذا معناه تسليم زمام المبادرة من جديد إلى الجهات الداعمة والممولة. نحن في حاجة إلى تحالفات وطنية بين القوى السياسية المؤمنة بالمشروع الوطني السوري. وهناك إرهاصات ومحاولات، ولكنها لمّا تنضج بعد، ربما مستقبلًا نشهد أمرًا من هذا القبيل.

لا تزال إدلب تشكّل نقطة الخلاف الروسي التركي، بالرغم من تنفيذ اتفاق الخامس من آذار 2020 وتسيير دوريات مشتركة، ما السبب برأيكم؟ وما هو مصير الشمال السوري في المستقبل المنظور وبعيد المدى؟ وهل ترجّحون استمرار الهدنة في ظل الحديث عن عملية عسكرية لنظام الأسد؟

الوضع في إدلب على وجه التحديد، وفي الشمال عمومًا، سيستمر على حاله من دون تغييرات هيكيلية كبيرة، إذا صح التعبير. فتركيا لا تستطيع تسليم كل أوراقها إلى الروس، وهي تحظى في هذا المجال بتفاهم ودعم أميركيين. الروس يحاولون التهديد من حين إلى آخر. والنظام يعلن عن تحركات بهدف استعادة المنطقة، ولكنه يدرك تمامًا أنّ الموضوع مرتبط بتفاهم إقليمي-دولي. ربما تكون هناك مناوشات للاستهلاك المحلي، وممارسة الضغط، من وقت إلى آخر. إلّا أنّ الجميع في انتظار توجّهات الإدارة الأميركية الجديدة الخاصة بالملف السوري بصورة عامة، وإدلب ستكون بطبيعة الحال بندًا من بنود الملف المعني.

في تحليلٍ لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى المقرّب من الإدارة الأميركية، تحت عنوان «قانون قيصر يدخل حيّز التنفيذ: زيادة عزل نظام الأسد»، تأكيدٌ أنّ “العقوبات لم تفلح حتى الآن في ثني الرئيس بشار الأسد عن تغيير سياساته”. فما الفائدة منه إذن غير تجويع الشعب السوري في الداخل؟

لقد أثبتت التجارب العديدة في العالم، وفي منطقتنا، أنّ الأنظمة المستبدّة الشموليّة التي تحكم شعوبها بالحديد والنار لا تسقط ولا تتغيّر بالعقوبات الاقتصادية. لدينا مثال العراق في عهد صدام حسين، ومثال إيران. وسورية لن تكون استثناء من دون شكّ. خاصة أنّ نظام الأسد يحصل على الدعم الروسي والإيراني، وربما هناك دول أخرى، منها عربية، تساعده في عملية الالتفاف على العقوبات والاستمرار.

المغزى السياسي لهذه العقوبات هو المهم؛ فـ “قانون قيصر”، واسمه له دلالة خاصة، الذي يمثّل حصيلة التقاطع بين الجهود الكبيرة التي بذلها ناشطون ضمن الجالية السورية الفاعلة في الولايات المتّحدة، وبين الحسابات الأميركية، جاء ليؤكد عدم الموافقة الأميركية على الجهود التي كانت تبذل لفك العزلة عن النظام. فقد كانت هناك جهود حثيثة تبذل في الجامعة العربية لإعادة النظام إليها، ولكنها توقفت بعد وصول الإشارات الأميركية. وقد جاء هذا القانون ليؤكد للروس أنّ الأمور في سورية بعيدة جدًا عن القول بأنها في طريقها نحو أن تصبح طبيعية. فمشروع عودة اللاجئين الروسي أخفق حتى الآن، وكذلك موضوع إعادة الاعمار، وغير ذلك من المحاولات الروسية التي تكشف عن نزعة استعجالية لدى الروس، تهدف إلى تجاوز الموضوع السوري. وذلك ربما لشعورهم بالمأزق الذي سيواجههم مستقبلًا، وربما لحاجتهم إلى التفرغ لمنافسات أخرى سواء مع الأميركان أم مع الصينيين في شتى أنحاء العالم، وفي مختلف الميادين.

الأزمة الاقتصادية التي يعانيها السوريون ليست وليدة هذ العقوبات، حتى الآن على الأقل. بل هي بسبب الحرب التي أعلنها النظام على غالبية السوريين المناهضين لحكمه، وهي كذلك نتيجة للفساد الأسطوري الذي بات معلمًا من معالم النظام الفارقة. ولكن على وجه العموم، الموضوع السوري يحتاج إلى المعالجة. والمعالجة الحقيقية لا بدّ أن تكون سببية وليست عرضية، وهذا فحواه أنه لن تكون هناك معالجة ناجحة من دون عملية انتقال سياسي حقيقية، تُبعد المسؤولين عن المأساة السورية، وتحاسبهم بموجب محاكمات عادلة. ومن أولويات المعالجة المطلوبة، وجود مشروع وطني عام لإنجاز مصالحة وطنية، ووضع الأسس لوثيقة عهد وطنية تطمئن جميع السوريين من دون أيّ تمييز. وثيقة يتوافق عليها السوريون، وتعرض على الاستفتاء العام الحر بعد توفير البيئة الآمنة، ومن ثم يأتي موضوع الدستور الذي سيكون بعد عملية الانتقال السياسية والتوافق الوطني العام، ليكون أساسًا لانتخابات الهيئة التشريعية والحكومة؛ وبعد التوافق على طبيعة النظام السياسي وشكله الإداري، خاصة من جهة فصل السلطات، والتوافق على آلية لحلّ الخلافات؛ وكل ذلك لن يكون ممكنًا من دون طمأنة السوريين جميعًا، وتعزيز الثقة بينهم من دون أيّ تمييز أو استثناء.

في نهاية حوارنا، ما الذي ينشده الكرد السوريون اليوم؟ وكيف ترى شكل سورية المستقبل كدولة لكل أبنائها من كل المكوّنات السورية؟

الكرد السوريون هم جزءٌ لا يتجزأ من الشعب السوري. وهم جزءٌ أساسي من المشروع الوطني السوري الذي لا بدّ أن يجمع بين سائر المكوّنات المجتمعيّة السورية، بغض النظر عن انتماءاتها الدينية والمذهبية والقومية، وتوجّهاتها السياسية. أعتقد أنّ إمكانية توحيد السوريين، على قاعدة المشروع الوطني العام الجامع، هي إمكانية واقعية وقابلة للتطبيق، على الرغم من الظروف الصعبة التي نعيشها حاليًا بسبب توزع البلاد بين مناطق نفوذ، وحصول كثير من التباعد بين المكوّنات السورية، نتيجة سياسات النظام، خاصة بين العلويين والسنّة. وإن استعانة النظام بحزب الاتحاد الديمقراطي جعلته فاعلًا سياسيًا عسكريًا ضمن الساحة الكردية السورية، والسورية العامة، حتى أصبح الحزب، عبر (قسد)، خاصة بعد أن اعتمد عليهم الأميركان في المعارك التي كانت مع (داعش)، قوةً أساسيةً في الواقع السوري العام نفسه. وقد أدّى هذا الأمر إلى حالة من التوتّر والتشنج بين العرب والكرد، على الرغم من معرفة الجميع بأنّ مشروع حزب الاتحاد هو مشروع وافد مقحم يرتبط بأجندات إقليمية لا علاقة لها بمصلحة الكرد السوريين، والسوريين على وجه العموم. إذا توافقت القوى الدولية على مساعدة السوريين، عبر رفع اليد عن بلادها، ورفع الغطاء السياسي عن النظام؛ فستكون هناك إمكانية كبيرة لتوافق السوريين. أما شكل الدولة فلن يكون بالشكل المركزي الذي كان عليه من قبل. نحن في حاجة إلى نظام لا مركزي واسع، كمرحلة أولى على أقل تقدير؛ حتى يتعافى الجسم السوري، ويترسخ الفكر الوطني الجامع الذي يتجاوز سائر الانتماءات ما قبل الوطنية على قاعدة احترامها، واحترام الحقوق المتربتة عليها، وكل ذلك ضمن إطار الدولة الوطنية السورية، وعلى كامل التراب السوري، الدولة الحيادية، قوميًا ودينيًا وأيديولوجيًّا، الدولة التي تكون فعلًا بجميع ولجميع مواطنيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى