آراء

شذرات وهموم في الميثولوجيا الكُردية

وليد حاج عبد القادر

لعلّه من المفيد جداً في بداية هذا المقال الاستشهاد ، لابل والانطلاق من مقولة المفكر العربي محمود أمين العالم حيث قال : / إننا نخوض كافة معاركنا على أرض التراث / ، هذه الكلمات المعدودة والتي حوت – اختزلت ، كما وأطرت لمناهج بحثية تعدّدت فيها مدارسها المختلفة وطرائقها أيضاً ، وفي الواقع وبتطبيقها على خاصية الشعوب عامةً ومنها الشعب الكُردي ، ولكن وقبل الدخول في هذا المفصل ، وكمثالٍ مسبق وعلى الرغم من الملاحظات العديدة لمشروع الراحل د. طيب تيزيني والذي سعى من خلاله وبذل كلّ جهوده ليسبغها برؤيةٍ ماركسية صرفة ، إلا أنه لم يستطع بالمطلق الخروج من شرنقة ما صنّف ضمنه مشروعه وكرؤيةٍ جديدة لما سمّاه هو لفكر عربي جديد ، فبدا واضحاً استناده احياناً على الأرسوذية ولم يتجاهل عفلق مطلقاً ، بل ورغم ذكائه الحاد وجهود بعضٍ من تلامذته ، فقد بقي حتى الأخير وفياً لما طرحه كزعمٍ قومي تنويري ، ولهذا – شخصياً لم أزل أراه – وقد راوح كثيراً في ذات السياق وبدا مشبعاً ولحدّ التخمة وبالتحديد بآراء البعث ، ولم يكن هو وحده من اتخذ ذات المسار ، بل تلاه كثيرون أمثال حسين وكريم مروة ، اللذين حاولا نقد الدين ديالكتيكياً ومعهم كمال صليبي وكذلك تفصيلات التأريخ والميثولوجيا عبر السواح وآخرون منهم ادوارد سعيد ، وسمير أمين ، وسلامة كيلة ومحمود أمين العالم ، واستشراقيون اختلفت فيهم التوجهات والانتماءات بمصادرها القومية منها والأممية ، ولتتمدّد في آفاق من الأطر التي قد يرى فيها كثيرون نوعاً من الترف الآيديولوجي في زمننا هذا ، وهنا يخطر على بالي وإن كنت لا أتذكّر حقيقةً هنا اسم هذا المبدع الذي قال : ( .. المبدع عندما يذهب إلى التاريخ فإنه يكتب واقعه هو ويستشرف مستقبله وهنا تذوب اللحظات الزمنية الثلاث : الماضي _ الحاضر _ المستقبل .. ) وعلى هذا الأساس سأجيز لنفسي الركون على تجربتي الشخصية في عملٍ كنت أخاله مجرد تجميع لبعض من شذرات أحاديث العجائز ، ولتثبت لي الأيام وبمقارنات بسيطة بأنّ أغلبها كانت ذهنية ، وإن كنت وعيت منها مدى تداخل الإرث البشري ، وبالتالي تداخلاتها المتشابكة ، ولكن بخاصيةٍ مكانية تفرض حضورها وبصمتها الإثنية ، ومن هذه النقطة ، وكما نوّهت في البداية ، سأصرّ على ما خزنته ذاكرتي الشخصية من قصص وملاحم عنت بسير فتيان – لاوك – فرضوا حضورهم وشخوصهم الافتراضية ، وهيبتهم كما وسماتهم في سياق المرحلة التي وجدوا فيها ، والتي ساهمت ، لابل أسست لما يمكن تسميته ببدايات الوعي الذهني الملموس ، وصولاً إلى الوعي المتجرد انطلاقاً من ذات الموروث بعد تطويبه – تقديسه والذي انطلق – اتخذ من الطوطم والمبني أصلاً كانت على تلك المجردات كقوى خارقة للذهن ووعيه المتشكّل ، وليتخذ بدوره ذلك الهلام القداسوي ، وهنا وفي الذهنية التراثية الأسطورية والوعي المتشكّل وبالتالي الطريق إنّ لمعرفة الأسطرة بأبعادها ومن ثم تجلياتها ، فهي في الواقع أمر فيه من البساطة كثيرها ، كما وعقدها المتراكبة التي قد تحتاج إلى عناوين وعلوم مساعدة كثيرة ، وفي واقع إرثنا الكُردي بثقافته الشفاهية حتى الآن ، فقد لعب التناقل بين الأجيال دوراً هاماً في الحفاظ عليها ولكن ! كان ذلك كفيلاً أيضاً ، أو مدخلاً لإجراء – تعديلات عديدة ، من أهمها الإضافات – الإلحاقات , وكذلك التشذيب لابل وفي أحيان كثيرة لربما إعادة صياغة مختلفة تماماً عن السياق الزمني الذي حيك فيه النمط الأساس ، والتي ترافقت مع المتغيرات الذهنية في وعي المجتمع ، وهنا وباختصار ، وفي واقعنا الكُردي منذ تقسيم كُردستان وحتى سبعينيات القرن الماضي ، وفي ظل هيمنة الاستبداد والعسف الممنهج ضد أي تداخل ولأية لفتة انتباه أو كتابة في التاريخ والثقافة الكُردية ، فقد كانت خاضعة تماماً للاستهداف الممنهج والعنيف ، ومع هذا فقد غامر كثيرون وعملوا بصمتٍ وبجو إرهابي – بوليسي عنيف ، الأمر الذي شاب معالجاتهم المنتج في كلّ ذلك الرهاب كثير من النواقص والعيوب المنهجية ، ولكنها ساهمت في المقابل وخدمت عملية الجمع والتدوين ، وإن خلت في غالب الأحيان المنهجية المفترضة توافرها في هكذا أعمال ، وهنا ومجدداً باختصار شديد ، وفي العودة إلى نسقية اهتمامي الشخصي في هذا الإطار ، سيما بعد التشبع الى حد التخمة من سير جرجي زيدان وتأطيره التشويقي لقصص وحواديت كما سير أسماء لامعة كانت في التاريخ الإسلامي مروراً إلى نسقيات مترجمة لقصص وأساطير إغريقية – رومانية .. الخ ومن جديد في العودة المبكرة وكمقارنة غير ممنهجة لحواديت وقصص الجدّات والنسوة كبيرات السن واستذكر منهن ( جدتي عطوا مسلميني – خاتونا مسلميني – حاجي كوليا حاجي فرماني سقا – متحي يا ريحانيكي – شفيقة ديا دورسن – حاجي خيريا ديا حلي يا دورسن – صبحي يا ميرمم – حلي ژنا دورسن – عمشة بيكا فرمان . وعماتي هدية وبهيا . وزوجتا الراحل قادي بربر – والسلسلة حقيبة تطول ، كما وأنّ كثيرات منهن لا أتذكرهنّ ، ومن المهم جداً هنا : إضافة نسق عمري آخر وجديد لازلن عائشات وتقمن في ديريك وريفها كما وفي بوطان ، وتعتبرن حافظات – ناقلات للقص بحرفية ومهارة ، لابل وحتى بنطق لفظي بارع ومازلن تحفظن وتسردن ذات الأنساق وبذات الأسلوب المروي لأكثر من ستين سنة خلت لتلكم القصص التي تحلق خاصةً بالمهتم في فضاءات تلاقح الثقافات العالمية المختلفة ، وشخصياً فقد استمعت إلى بعض من السرديات وخلت لأنها ذاتها جدّتي – الراحلة عطية – هي بذات حرفيتها وانفاسها تسرد ذات القصة وتقف عند اللازمة ، وهنا سأذكر بأنني ( كنت قد أعددت مقارنة بمساعدة بعض الزملاء والزميلات منهن الزميلة ليلى قمر ) نماذج عدة ولنكتشف مدى التطابق الرهيب في التقاطع والتقاص بين المقصوص رواية باللغة الكُردية والمترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية ، هذا من ناحية السرد ، ناهيك عن طفرة التقاطع مع سير وملاحم فتيات – نسوة أو أبطال – لاوك ، وسريالية بعض أحداث ويوميات مواقع موسومة بأمثلة أو حتى مواقع وأشجار وترابطها في الجوهر مع مواقع ومن جديدأشجار أو كهوف وما شابه ( دارا لاوك وكجك ) .. يضاف إلى ذلك مسألة جد هامة لفتت نظري كثيراً وهي عملية التقارن بين – الإينوماليش – وافتتاحيتها – عندما في الأعالي – وتلك اللازمة في التنقل بغالبية القصص الشعبية الكُردية و – Dema bi ba nîve çú – أي ظاهرة الأعالي والعلياء كما تلال وزقورات المعابد في غالبية الحضارات البشرية ، وهي هنا تفيد بالتأكيد أيضاً ذات المعنى في السياق الميثولوجي ، وهناك ناحية أخرى أهم – أراها كوجهة نظر – وهي ظاهرة لاوك في القصّ والغناء الكُردي بالترافق مع ظاهرة – كجك – والترابط من جديدٍ بين – كجك ولاوك – أيضاً هذه الفردانية من جهة والترابط إلى درجة التلاقح ومعها الفكاك ، فإنّ لكلّ منها مدلولياتها الميثولوجية وأيضاً سياقها التاريخي ، ولكن : يبقى للاوك الأهمية القصوى خاصةً الحرفية في تحديد نمط العيش والإنتاج ، ومن ثم ما تلقّفته الذاكرة الحفظية للمجتمع ، وبالتالي كعاملٍ ذهني حتى لتحديد بعض الأزمنة المقاربة لآخر تشارك قدسي للحدث وكمثالٍ – لاوكي بياني / غريب – الذي كانت له عدة مراقد وأهمها الذي كان في بوطان ، حيث كانت تؤمّه العائلات التي تفقد واحداً من أسرتها في بلاد الغربة أو يغرق ولا يعثر على جثته ، وفي استقصاءٍ زمني لي من خلال الراحلة حجي گولي يا فرماني سقا – قريية عين ديوار – والتي أكّدت لي في استقصاءٍ بحثي على لسان جدّتها ، بأنها – جدّتها – كانت بعمر عشر سنوات حيث ذهبت مع أمها وجدّتها وبعض الأقارب محمّلين بحلوى و – كوليجا – إلى مرقد لاوكي غريب – في بوطان – استذكاراً وترحّماً على خالها الذي كان قد غرق في نهر دجلة أثناء سفره من بوطان إلى الموصل ، وقد تمّ تقدير ذلك حينها زمنياً من قبلنا وإياها وليصل إلى حوالي أربعمئة سنة عمرية ، والأمر لم يتوقّف عند هذا اللاوك بل تخطّاه إلى الحرفية كما زمبيل فروش لاوكي عباسي وممي شفان .. مني كاڤان وغيره ، لا بل تلاحم وتداخل في سير وملاحم عديدة ، ولتتقاطع بحدة مع ظاهرة أخرى تسمّت في القصّ الكُردي بظاهرة – كجل / گوري وتعدّدت أنماط صراعات – كجل – إن كفروسية وصراع القوة البدنية أو الحكمة والبداهة ، وللأسف الشديد لازالت قصص لاوك وكجل وگري تُسرد للفكاهة وبعض منها تداخلت واندمجت لابل تيهت أحداثها كثيراً ، وفي واقع الأمر وباختصارٍ : يلاحظ وببداهة مدى غنى إرثنا الكُردي بطفراته الميثولوجية من جهةٍ، وتجاهل حقيقي لابل يصل في كثيرٍ من الأحيان إلى حدّ الإهمال المتقصّد تحت بند أنّ هناك الأهم من هذه الخزعبلات . كلّ ذلك وفي تناسٍ شديد لأمرٍ حيوي يهمّ الذاكرة الشعبية ، لابل وتعدّ الحافظة لمخزوناتها العديدة ، أجل : إنّ تراث أيّ شعبٍ من الشعوب هو العنوان الأوسع للحفاظ على وجوده، ومن ثم التأسيس على ذلك للارتقاء ومن ثم المواءمة الواقعية انطلاقاً من الإرث الذاتوي وتسخيرها لما يخدم البشرية وتلاقح ثقافاتها والدفع بها لارتقاءٍ أوسع ، هذه الرؤى والحقائق التي – أرى وبكلّ أسف – أنها تهمل الآن أو تتمّ تجاهلها تحت عناوين ومسميات عديدة ، ومنظّريها هم أكثر مَن يعلم لماذا ولأجل من تستهدف الركيزة الأساس لمقومات هذا الشعب؟.

 

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد 297

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى