شرق الفرات بين أحجار رحى عديدة
علي العبدالله
لا يمكن قراءة اغتيال شخصيتين وازنتين في أكبر قبيلتين عربيتين في محافظة دير الزور في سورية، الشيخ علي الويس من قبيلة البكارة والشيخ مطشر الهفل من قبيلة العكيدات، بمعزل عن صراع القوى في سورية وعليها، وتركّز الصراع في هذه المرحلة في منطقة شرق الفرات، لما لها من أهميةٍ جيوسياسيةٍ واقتصادية، الموقع والموارد الطبيعية، نفط وغاز ومياه وطاقة كهربائية وزراعة وتربية مواشٍ، وقد تحولت ساحة رئيسة للصراع بين القوى الفاعلة، بمصالحها المتباينة وخططها للحل السياسي في سورية؛ وساحةً لاختبار الآليات والتكتيكات وممارسة الضغوط المتبادلة، وسعي كل قوة لدفع الأوضاع في سياقٍ يخدم مصالحها.
جاءت الاغتيالات في مناخ سياسي واجتماعي مشحون وظرف دقيق وحساس: إنهاء سيطرة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على منطقة شرق الفرات، تعديل القرار الأميركي من الانسحاب إلى تقليص عدد القوات والتموضع حول آبار النفط والغاز وعلى الحدود السورية العراقية، حماية المنطقة بحظر جوي أميركي، تفرد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بالتحكّم في المنطقة والاستئثار بمواردها الطبيعية، تصعيد روسي إيراني ضد الوجود الأميركي في سورية، تعزيز القدرات الروسية شرق الفرات بإرسال معدّات وجنود وزيادة عدد الدوريات، وفق إعلان قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، الجنرال كينيث فرانكلين ماكنزي جونيور، مصحوباً باختباراتٍ لمدى ثبات قرار الإدارة الأميركية البقاء العسكري عبر الاحتكاك بالقوات الأميركية على الطرق، وفي المواقع العسكرية المتناثرة؛ وتكرار محاولات الوصول إلى حدود العراق؛ ومحاولة إبعاد الكرد عن الولايات المتحدة من خلال التركيز على عدم شرعية الوجود الأميركي، وما يرتبه انسحابهم المحتمل من مضاعفات على الكرد وقضيتهم، والدفع إلى إجراء مفاوضات بين النظام و”مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، توقيع عقد نفطي بين قائد “قسد”، مظلوم عبدي، الذي بات يعتبر رجل أميركا في المنطقة، وشركة “دلتا كروسنت إنيرجي” الأميركية برعاية من وزارة الخارجية الأميركية، يتوقع رفع إنتاج المنطقة إلى 150 ألف برميل يوميا؛ ما يعني ثروة هائلة لمنطقة صغيرة سكانيا، تشكيل تجمعات وتحالفات محلية من عرب المنطقة، “التحالف العربي الديموقراطي في الجزيرة والفرات”، استعدادا للمساومة الكبرى على حكم المنطقة، سعي محموم من القوى الفاعلة شرق الفرات، الولايات المتحدة، روسيا، تركيا، إيران، النظام السوري، لاستقطاب العشائر العربية، وتشكيل أطر عسكرية من أبنائها ووضعهم في مواجهة بعضهم بعضا، مشاركة قوات التحالف الدولي في عمليات “قسد” في القرى والبلدات العربية واعتداؤها على المواطنين وممتلكاتهم، بذريعة ملاحقة خلايا “داعش” النائمة، ما أثار حفيظة العرب ضدها، رد “قسد” على احتجاجات العرب على سوء الخدمات وتهالك البنية التحتية واقتحام القرى واغتيال مطشر الهفل بإطلاق الرصاص على المحتجين وقتل وجرح عدد منهم.
ظهور مؤشّرات على التصوّر الأميركي لمستقبل المنطقة، عكسته رعاية الخارجية الأميركية الحوار الكردي بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي وتحالف أحزاب الوحدة الوطنية الكردية، الموالية له، ومباركتها تشكيل “جبهة السلام والحرية” من المجلس الوطني الكردي والمجلس العربي في الجزيرة والفرات والمنظمة الآشورية الديمقراطية وتيار الغد، الدفع باتجاه إنهاء دور حزب العمال الكردستاني في الملف الكردي السوري، والمراهنة على قائد “قوات سوريا الديمقراطية”، مظلوم عبدي، لتحقيق هذا الهدف مع الضغط على قيادة “الحزب” في جبال قنديل لتسهيل العملية، ما يشي بفحوى التوجه الأميركي: تشكيل كيان سياسي شبه مستقل بتوافق القوى المحلية: العرب والكرد والسريان/ الكلدان، مع تحجيم الطموحات الكردية من خلال غض النظر عن السيطرة التركية على منطقة عفرين، ومنح تركيا موطئ قدم شرق الفرات، المنطقة الحدودية من تل أبيض إلى رأس العين (سري كانية)، والسماح بدخول قوات روسية وأخرى تابعة للنظام السوري إلى المنطقة، واستخدام الاسم الجديد للمنطقة: شرق الفرات.
لم تنجح محاولات روسيا استدراج الكرد للعمل معها ومع النظام السوري، فالوساطة بين قيادة “مجلس سوريا الديمقراطية” والنظام السوري لم تأت أكلها على خلفية التعارض الحاد بين موقف الطرفين وتناقضات الموقف الروسي: الإصرار على عودة سيطرة النظام على منطقة شرق الفرات والتحاق “قوات سوريا الديمقراطية” بجيش النظام كأفراد، وإدراج الحقوق الكردية في الدستور السوري، تغطية التحرّك التركي ضد الكرد غرب نهر الفرات وأجزاء من شرقه واستخدام الورقة الكردية للضغط على تركيا في الوقت نفسه، ما دفع الكرد إلى المراهنة على العلاقة مع الولايات المتحدة وتعليق آمال كبار عليها، خصوصا بعد طي قرار الانسحاب، وقد جاء التوقيع على اتفاقية تطوير حقول نفط المنطقة واستثمارها لتثير ردة فعل حادة وغاضبة من كل من روسيا وإيران وتركيا والنظام السوري، كل لحساباته الخاصة، خصوصا روسيا التي فقدت فرصة الاستثمار في نفط المنطقة وتوظيف عائداته في إعادة الإعمار، لاستكمال نصرها العسكري، كما فقدت ورقة مساومتها مع الكرد في ضوء ما ينطوي عليه اتفاق النفط من اعتراف سياسي بـ “قوات سوريا الديمقراطية” وقائدها، مظلوم عبدي، في مواجهة ضآلة ما يمكن أن تحصل عليه من خلال وساطة روسية مع النظام، وليغلق الباب أمام محاولاتها استدراج الكرد للتحول بعيدا عن الأميركيين.
فجّرت عمليات الاغتيال غضبا كامنا بين أبناء العشائر العربية في محافظة دير الزور، تناغمت معه عشائر الرقة، غضب تراكم بفعل ممارسات “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التسلطية والتمييزية: فرض الخدمة الإلزامية على شباب المحافظتين وسوقهم بالقوة، التمييز داخل “قوات سوريا الديمقراطية” بين الكرد وغير الكرد بالمناصب والقرارات والامتيازات، فرض وجود كفيل كردي للسماح بدخول العرب منطقة سيطرة “قسد”، فرض برامج تعليم حزبية، مصادرة أملاك الغائبين وإدارتها، الاستئثار بعائدات الموارد الطبيعية المالية الضخمة، وعدم إيلاء المطالب الخدمية والاقتصادية والإدارية للسكان العرب الاهتمام المناسب، حيث عكس سلوك قيادات “قسد” الميدانية تناقضا صارخا بين نظرية “الأمة الديمقراطية” التي تتبناها والممارسة العملية القائمة على التمييز والقسر، تناقض بين مستدعيات وشروط ممارسة كيان سياسي ديمقراطي وممارسة كيان سياسي عقائدي مغلق، بالإضافة إلى ما تثير الممارسات الثأرية والانتقامية بين الكرد والعرب، على خلفية المظلومية التاريخية والتنافس على الجغرافيا والتاريخ من سلبيات وكوارث، فكانت الاغتيالات “القشّة التي قصمت ظهر البعير”، والتي دفعت إلى فتح ملف الحقوق والواجبات والممارسات السياسية والميدانية والإدارية في المنطقة وعدم تنفيذ مشاريع من عائدات المنطقة، الغنية بثرواتها الطبيعية والزراعية، للنهوض بالواقع المعيشي والاقتصادي والخدمي من “الإدارة الذاتية”، والمطالبة بتسليم المنطقة لأصحابها لإدارة قراهم وبلداتهم وثرواتهم الطبيعية ووقف اعتقال المدنيين بذريعة الانتماء لـ “داعش”، والإفراج عن المعتقلين الأبرياء وإخراج النساء والأطفال من المخيمات، وتسليم القتلة للعدالة خلال شهر واحد، وإخراج قوات “قسد” منها، وأخذ المكون العربي دوره كاملا.
فتحت الاغتيالات ورد الفعل العشائري الحاد والعنيف، انشقاق بعض العرب عن “قسد” ومهاجمة قوى عشائرية لمواقع وحواجز “قسد” في جديد بكارة وجديد عكيدات وطردهم بعد الاستيلاء على أسلحتهم، فتحت الباب واسعا لاستثمار القوى المناوئة للدور الأميركي، وللموقع المهيمن لقوات سوريا الديمقراطية وقائدها مظلوم عبدي شرق الفرات، بما في ذلك تيار من داخل “قسد” يعارض توجهات مظلوم للابتعاد عن حزب العمال الكردستاني التركي، فتتالت الإدانات والتنديدات والدعوات إلى التصدّي لـ “قسد” والأميركيين، بيانات من القوى السياسية والعشائرية الموالية لتركيا وإيران والنظام السوري، النظام شكل من بعض شيوخ العكيدات في مدينة دير الزور مجلس قبيلة وجناحا عسكريا للتحرّك ضد “قسد” شرق الفرات، والتجييش ضد “قسد” والدفع نحو صدام واسع بينها وبين العشائر العربية، بهدف استثمار التوتر، ودفعه إلى أقصاه بخلط الأوراق والاصطياد في الماء العكر، مع أن لا دلائل أكيدة على مسؤولية “قسد” عن عملية الاغتيالات التي اتهمت النظام وتركيا بالوقوف وراء الاغتيالات لإثارة الفتنة؛ وادّعت تناميا في التحاق شباب العشائر العربية بقواتها؛ وتأييد شيوخ عشائر عربية، البكير، لها، ورفضت طلب سحب قواتها من هناك.
لن تنتهي التوترات، ولن يشهد ريف دير الزور استقراراً ما لم تغيّر “قسد” سياستها وتلبي مطالب سكان المنطقة وعشائرها في شراكة حقيقية ودور فعلي في إدارة المنطقة وحصة مناسبة من مواردها الطبيعية.
العربي الجديد