عامل التوقيت في تدرّج المواجهة الأميركية – الإيرانية
راغدة درغام
يرفض الرئيس الأميركي دونالد ترامب الوقوع في فخ الاستدراج الإيراني له الى المواجهة العسكرية لأسباب جوهرية عديدة، إنما أيضاً لأنه يريد امتلاك عنصر التوقيت في إدارة ملفات دولية أكثر أهمية له من استفزازات “الحرس الثوري” في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. موعد 28 الشهر الجاري فائق الأهمية للطرفين الأميركي والإيراني لغايات متناقضة. فطهران تريد توريط الولايات المتحدة في ضربات عسكرية محدودة ضدها قبل انعقاد قمة العشرين في أوساكا كي تهيمن التطوّرات الميدانية على القمة، وتفرض إيران أجندتها كأمر واقع على قادة أكبر اقتصاديات العالم، ويضطر ترامب الى التغيّب عن الاجتماع الفائق الأهمية. الرئيس الأميركي يقاوم بشدّة الانصياع الى التكتيك الإيراني لأن الاجتماع بالرئيس الصيني شي جين بينغ في أوساكا لبحث مستقبل العلاقات الأميركية – الصينية أهم له بأضعاف من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولأن أوساكا محطّة مفيدة له لحشد الدعم السياسي له ولعمليات عسكرية أميركية وإجراءات إضافية ستضطر واشنطن الى اتخاذها ردا على التصعيد الإيراني، السابق والآتي. خطة الإجراءات التي تعدّها واشنطن ردّاً على إسقاط “الحرس الثوري” الإيراني طائرة “درون” أميركية هذا الأسبوع في مياه الخليج في أول استهداف إيراني مباشر “ستتضمن عنصراً عسكريّاً” حسبما نقلته المصادر، مما يعني على الأرجح تعزيز العقوبات وتشديد الخناق على إيران واتخاذ إجراءات “وقائية” عسكرية محدودة ضد قواعد “الحرس الثوري” وربما ضد أحد المواقع النووية مثل ذلك الواقع في أصفهان. أما إذا اتخذت القيادة العسكرية والدينية في طهران في اجتماعها المتوقّع في 25/26 حزيران (يونيو) قرار الانسحاب من “معاهدة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل”، NPT، فإن الإجراءات الأميركية ستتخذ نقلة نوعية في استراتيجية عزل إيران، تقول المصادر، بدءاً من ضرب حصار بحري عليها انتهاءً بتجميد أرصدة كل من يتعاطى مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مروراً بعمليات عسكرية أفقها ليس واضحاً بعد. في حال عدول طهران عن قرار التصعيد، ان النافذة على الصّفقة مفتوحة لكنها ليست تماماً وحتماً تلك التي تريدها إيران.
تكتيك طهران هو استفزاز واشنطن الى الصفقة الثنائية بعد استدراج الرئيس الأميركي الى “الخط الأحمر”. هذا يتطلب يقظة الدول الخليجية العربية الى ما يتم إعداده في عواصم دولية وخليجية أخرى في اطار تيسير التفاهمات الأميركية – الإيرانية. يتطلب استراتيجية تستبق تغييب الدول العربية الخليجية عن صفقات سرّية ثنائية بين واشنطن وطهران، مهما كان لدى الذين يستضيفونها من نوايا حسنة.
نجح جانب من سياسة التصعيد العسكري التي اعتمدها قادة طهران وهو المتعلّق بدفع الاتحاد الأوروبي الى الهلع وروسيا الى الدخول على خط التحذير من كارثة، فوقعا في فخ التكتيك الإيراني. هدف هذا التكتيك هو حشد الضغط الأوروبي والروسي على الولايات المتحدة بالتوازي مع التصعيد العسكري ضد المصالح الأميركية المباشرة وغير المباشرة، وذلك لإجبار دونالد ترامب على التراجع عن استراتيجية خنق وإركاع إيران اقنصادياً أمام دفعه الى الخيار الذي لا يريده طوعاً – الخيار العسكري. دول الاتحاد الأوروبي أوقعت نفسها رهينة التكتيك الإيراني بردود فعلها على استهداف “الحرس الثوري” لطائرة أميركية إذ سارت في الخطى التي رسمتها لها طهران. فشكّكت بالرواية الأميركية وطالبت بالانتظار الى حين التحقيق فيما إذا كانت الطائرة الأميركية في الأجواء الإيرانية، كما تقول طهران، أو في الأجواء الدولية، كما تؤكد واشنطن.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدرك أن في وسعه القيام بشيء ما، إنما لن يتمكن من ممارسة الضغط الفاعل على واشنطن في شأن إيران. واشنطن تطالبه بإجراءات لها علاقة بتواجد ومشاريع “الحرس الثوري” في سوريا، وهو يريد إجراء محادثات جدّية مع ترامب في أوساكا حول مختلف الملفّات المهمّة، الثنائية والدولية. بوتين يُرحّب بإجراء محادثات هاتفية مع الرئيس الإيراني حسن روحاني وبلعب دور ترطيب الأجواء واحتواء تصاعد التّوتّر، لكنّه لن يتورّط في التحالف استراتيجياً مع إيران في هذه الأزمة على نسق تحالفه معها ميدانياً في سوريا.
أحد المصادر الوثيقة الاطّلاع على دينامية العلاقات الأميركية – الروسية قال ان الرئيس الروسي يرى في قمة أوساكا فرصة له لعقد مباحثات جدّية وعمليّة مع نظيره الأميركي. تردد الجانب الأميركي في وضع أجندا للمباحثات قد يتغيّر الآن في أعقاب التطوّرات فوق مياه الخليج ومضيق هرمز المهم للملاحة الدولية. فبوتين، كما ترامب، لا يريد اما ان يغيب الرئيس الأميركي عن قمة أوساكا إذا ما اندلعت الحرب الاضطرارية، أو أن تخيِّم المواجهة الأميركية – الإيرانية على برنامج أعمال قمة العشرين في أوساكا.
القيادة الإيرانية، تؤكد المصادر المطّلعة على التفكير في طهران، تريد افتعال مواجهة عسكرية وأزمة جدّية مع الولايات المتحدة “قبل قمة G-20” كي تهيمن على أجندا أوساكا. الرئيس دونالد ترامب يريد تأجيل ردود فعله وخياراته العسكرية الى “ما بعد قمة G-20″، لأنه يريد الاجتماع بقادة مجموعة العشرين لحشد دعمهم لإجراءاته المقبلة، ولأن أولويات الولايات المتحدة الأميركية وأولوياته تتعدّى الوقوع في فخ الاستدراج الإيراني الى المواجهة. فالصين مثلاً قبل إيران بعشرات الأضعاف، في موازين الأولويات الأميركية.
ستفرض إيران تكتيكها بشأن قمة العشرين فقط إذا ما اتخذت إجراءات تصعيدية كبرى على نسق الانسحاب من معاهدة NPT، أو إذا استهدفت أهدافاً أميركية حيوية تجبر دونالد ترامب على إصدار تعليمات الانخراط عسكرياً ضد إيران. ففي حال اندلاع المواجهة العسكرية، ينوي الرئيس الأميركي أن يغيب عن قمة أوساكا مُجبَراً.
مصادر على تواصل مع صنّاع القرار في طهران أكدت أن في ذهن “الحرس الثوري” إطلاق عمليتين اضافيتين ضد ناقلات نفط في الأسابيع المقبلة، تضاف الى العمليات الأربع السابقة. إنما الاجتماع المهم الأسبوع المقبل هو ذلك المعني بتحديد موقف طهران من معاهدة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل NPT لأنه سيكون تصعيداً نوعيّاً.
الكلام الإعلامي عن إصدار الرئيس ترامب أوامر عسكرية ثم سحب تلك التعليمات ليس موثّقاً بل كانت هناك معلومات تتحدّى الكلام عن تراجع ترامب وتشبيهه بتراجع الرئيس السابق باراك أوباما عن الخط الأحمر. ما تشير اليه هذه المعلومات هو تأنّي الرئيس الأميركي عسكرياً وتحبيذ المؤسسة العسكرية خيار العمليات العسكرية المحدودة والمحدّدة الأهداف Limited and targeted. هذا الى جانب تشديد العقوبات وتوسيعها.
دونالد ترامب مقتنع بجدوى استراتيجيته القائمة على خنق إيران اقتصادياً لدرجة تضطر بالقيادة الإيرانية الى الموافقة على صفقة جديدة تعالج الخلل في الاتفاق النووي، وتضع حدوداً لتطوير الصواريخ البالستية، وتؤدي الى توقّف إيران عن سياسة التوسّع الإقليمية. منذ البداية، لم يكن الخيار العسكري مطروحاً بشدّة لدى دونالد ترامب سوى في إطار اتخاذ إجراءات استباقية ووقائية.
قيادة إيران هي التي تجد في استراتيجية ترامب هلاكاً للنظام داخلياً واقليمياً. لذلك اتخذت قرار استدعاء الضربة العسكرية الأميركية ورهانها، أولاً، على دفع ترامب على الخط الأحمر ليتراجع عنه بضغوط أميركية ودولية، وثانياً، دفعه الى الصفة الثنائية التي مدخلها خلاص النظام من العقوبات الأميركية التي شلّته وتهدد مصيره. قادة إيران هم الذين يرفضون قطعاً أي إصلاح للنظام أو تعديل في مشاريعه الإقليمية لأن في ذلك تقويض لمنطق النظام ووجوديته. ما تراهن عليه طهران هو اقتناع إدارة ترامب بما قد تعرضه عليها إيران في المجال النووي والصاروخي سرّاً ضمن صفقة استبعاد الأدوار والمشاريع الاقليمية للجمهورية الإسلامية الإيرانية والتي لن يتخلّى عنها مرشد الجمهورية أو ساعدِه اليمين المتمثل بـ”الحرس الثوري”.
لذلك، على الدول الخليجية اليقظة والتنبّه والحذر من انعطافة أميركية ليست بعيدة عن تقاليد العلاقات الأميركية مع الأصدقاء والأعداء. قد يقال ان دونالد ترامب رئيساً مختلفاً، وهذا صحيح. لكنه رئيس يريد أن يبقى في الرئاسة، والحروب ليست مفيدة عامة لإعادة الانتخاب. هذا أيضاً جزء مما تراهن عليه طهران. لكن افراط قادة إيران في استفزاز الحس الوطني الأميركي يهدد بنتيجة عكسية. دونالد ترامب يصبر، ويقدم التنازلات، ويتجنّب ردود الفعل العسكرية، ويدعو إيران الى التفاوض بلا شروط، وهكذا يقدّم قضيّة واضحة حول صبره بوعي وتفاديه المواجهة العسكرية، فيما القيادة الإيرانية تفعل العكس تماماً كسياسة واستراتيجية وتكتيك.
مَن سيستطيع الصمود في “الصبر الاستراتيجي” ومَن سيخسر الحرب الكبرى إذا اندلعت؟ الولايات المتحدة هي القادرة اليوم على الصبر الاستراتيجي لأنها ليست في حال تدهور اقتصادي وإفلاس مادي سيجعل إيران حتماً الخاسر في حال تطوّر الأمور الى حرب كبرى.
أمام قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية خيارٌ غير التهوّر الاستراتيجي. فتعديل وإصلاح النظام هو في مصلحة الشعب الإيراني كما هو في مصلحة تعايش إيران مع جيرتها كدولة إقليمية كبرى داخل حدودها، وليس عبر التوسّع في الجغرافيا العربية لفرض نموذج الثورة الإيرانية وامتلاك “الحرس الثوري” القرار والمصير.