على ماذا يراهن المطالبون بالتأجيل؟
عمــر قــدور
مع أن نتيجة استفتاء إقليم كردستان لا تعني إعلان الاستقلال تلقائياً، كثرت المطالبات بتأجيله، بعضها ينطوي على رفض انفصال الإقليم نهائياً، وبعضها يتذرع بعامل الوقت والظروف. وبينما جبهة الرفض واضحة ومتماسكة، وهي تضم تقليدياً الدول الأربع المعنية بالقضية الكردية، لا تبدو جبهة المطالبين بالتأجيل واضحة تماماً، بخاصة مع ما تسرب عن عرض رئاسة الإقليم صفقة محددة للتأجيل، تتضمن إجراء الاستفتاء في حال فشل المحادثات مع حكومة بغداد بإشراف دولي.
يتوزع المطالبون بالتأجيل بين قوى دولية، تشمل كل القوى الوازنة، وبعض القوى الإقليمية غير المعنية مباشرة بالشأن الكردي، مع أصوات فردية غالبيتها في دول الوجود الكردي. هذا الاتفاق على التسويف فيه مراهنة صريحة على ترحيل قضية الإقليم إلى أجل غير مسمى، لكن المفاجئ فيه هو انسجام الآتين من نوازع متضاربة، ومن مواقع لا تخفي تبادل العداء الصريح. فالغرب الذي يطالب بالتأجيل متهم طوال عقود بدعم الأكراد، ولا نجد بين مُتّهِميه من يتساءل اليوم عن سر الاتفاق الحالي معه.
بتجاوز الموجبات الأخلاقية في المسألة الكردية، قد يكون ضرورياً فتح النقاش حول فوائد التسويف ومضاره من جانب المطالبين به في المنطقة. وسيكون مفيداً بالتأكيد تحري الأسباب الكامنة وراء المواقف الدولية الحالية، ما دام أصحابها يعملون وفق مصالحهم الخاصة ولو على حساب مصالح شعوب المنطقة، وفق المنطق البراغماتي ووفق النظرة السائدة في المنطقة. أي أن المطلوب، وفق هذا المنطق، عدم الارتياح إلى المواقف الدولية، وإنما وضعها تحت التفكر والمساءلة.
تفيد النظرة العامة السائدة بأن القوى الدولية ترسخ عوامل عدم الاستقرار في المنطقة، وتستخدم الأكراد كورقة لزعزعة الاستقرار. على ذلك، ينبغي التشكيك بقوة في مآرب التحفظات الدولية على الاستفتاء، فهي في مطلق الأحوال لا تتوخى الخير للأكراد أو خصومهم، بل تتوخى استمرار حالة الصراع التي يستفيد منها الخارج. القول أن القوى الدولية غير جاهزة الآن للتضحية بمصالحها مع أنظمة طهران وأنقرة وبغداد فيه مراهنة قصيرة النظر، إذ من المحتمل تغير خريطة المصالح هذه في أي وقت، وحينئذ سيُعاد استخدام القضية الكردية ضد أصدقاء الأمس.
تبدو مناقشة هذه النظرة أساسية، لا لصوابيتها الدائمة وإنما لأن ضمان استقرار المنطقة لم يكن دائماً في سلم الأولويات الدولية، وفي التاريخ القريب إدارة أميركية اعتنقت جهراً مبدأ الفوضى الخلاقة. وإذا كان من الصواب أيضاً استعداد الأكراد للتعاون مع قوى خارجية، وهذه ليست تهمة من وجهة نظرهم كما يروّج لها خصومهم، فالأمر يستحق وقفة أكثر تبصّراً إزاء مصالح شعوب المنطقة.
مما يُفترض ألا يقبله المنطق ذلك الإصرار العجيب على الاحتفاظ بالسيطرة على الأكراد، بينما سيستغلون أول فرصة للانفصال، أو سيكونون دائماً بمثابة قنبلة موقوتة تهدد الاستقرار الداخلي. هذا إذا نجح في الأمد القريب فليس مضموناً نجاحه على نحو مستدام، ما يعني تحديداً شراء مكاسب آنية بفائدة باهظة قد تترتب مستقبلاً، إذا كان من مكسب حقاً يتعدى أوهام السيطرة لدى العموم وأرباح الفساد لدى الطبقات الحاكمة في أكثر من بلد معني.
ويعلم الجميع أن استقلال الإقليم حاصل في الواقع، ومنذ فرض الحظر الجوي قبل نحو ربع قرن نشأت أجيال على ذلك الانفصال. الخوف من ترسيم هذا الواقع ربما يشبه حال المجتمع الذي يقبل العشيقة في السر ويخاف من ظهورها العلني، وهو يفيض إلى دول الجوار حيث تنتشر المخاوف من عدوى تصيب الأكراد فيها. تلك المخاوف تقول ما لا لبس فيه عن وجود مشكلة كردية لا تجد طريقها إلى الحل، ولا نية لحلها أيضاً، وقد لا يتوقف الأمر عند الأكراد فقط بوجود انقسامات مجتمعية أخرى. المُراد، بدل مواجهة تلك القضايا، كتمها كأن لا وجود لها، مع أن خيار الهروب هذا «الذي عززته أنظمة وأيديولوجيات» أثبت في السنوات الأخيرة فشله الفاضح، بل أودى بالعديد من دول المنطقة لتصبح دولاً فاشلة، فيما لا تتعلم من التجربة دول أخرى تقتفي أثرها.
ليست المسألة أخلاقية كما يصوّرها بعضهم مطالباً جيران الأكراد بالاعتراف بهم أو بحقوق لهم، فالمعيار الأخلاقي لا يُعتد به عموماً في دول شهدت مجازر جماعية أو أعمال إبادة مصحوبة بتأييد جماعي من أبناء البلد الواحد. النقاش في هذه القضية ينبغي أن يخرج من إطار التعاطف مع الأكراد، والأولى به التوجه إلى مصالح الشعوب الأخرى المعنية، وما إذا كان لها التحقق على نحو مستدام وهي تحمل عبء عدم قدرتها على الاعتراف بالاختلاف في داخلها، ومن ثم البحث عن حلول لا تولد مظلوميات جديدة أو تكرس القديمة منها.
مواجهة الواقع لن تكون سهلة بالتأكيد، والتعويل على العقلانية قد لا تزيد فرص نجاحه عن التعويل على العوامل الأخلاقية، ولعل أهم مظهر لغياب العقلانية هو منطق الحصول على كل شيء بما يخرج عن معنى السياسة. هذا المنطق هو الذي يهدد باشتعال دورة من العنف في المنطقة فيما لو قرر إقليم كردستان الانفصال، وهو الذي يمنع التفاوض حول قضايا خلافية ومنها قضية رسم الحدود.
وفي القضية الأخيرة لا تقع الملامة فقط على خصوم الانفصال، إذ يتوجب على قيادة الإقليم، وعلى الأكراد في مختلف بلدان وجودهم التحلي بالواقعية، وعدم المغالاة في الأحلام أو الأوهام، أو عدم تغليب مطامع الأرض أو الثروة على القضية الأساسية المتعلقة بحقوق عادلة لهم ولجيرانهم. تقدّم قيادة الإقليم مثلاً جيداً إذا طالبت بالاحتكام إلى القانون الدولي، أو إلى استفتاء خاص برعاية دولية، في المناطق المتنازع عليها، وهناك سابقة في المنطقة عندما احتكم المصريون والإسرائيليون إلى التحكيم الدولي في قضية طابا، والأهم أن القبول بالتحكيم ينفي منطق الغلبة وما يتبعه من مظلومية سابقة أو لاحقة.
في تنازع بين الإسبان والفرنسيين على إحدى الجزر المختلطة، اتفق الطرفان على أن يجري إسباني وفرنسي كلّ منهما من أقصاها، وأن تكون الحدود في نقطة وصولهما، ونالت فرنســـا حصة أكبر لأن عدّاءها كان أسرع. قد تُقرأ الحادثة كنــكتة، لكن هذا هو الحال عندما يتحول مفهوم السيادة نفسه إلى مزحة قياساً بمصالح السكان واستمرار عيشهم المشترك.
alhayat