آراء

عملية تركية في سورية على الطريقة الروسية

العميد أحمد رحال

عندما يقول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من طائرته العائدة من طهران، إن “ملف العملية العسكرية التركية الجديدة شمالي سورية سيظل مدرجاً على أجندتنا إلى حين تبديد مخاوفنا المتعلقة بأمننا القومي”، هذا يعني أن القيادة التركية ستركن لتعهداتٍ مٌنحت لها في قمة طهران منتظرة التنفيذ، لكن اليد التركية ستبقى، خلال الانتظار والتأجيل، على الزناد ومستعدّة للحرب في أي لحظة.

كل العمليات العسكرية التركية كانت مثار جدل ونقاش، لكنها مجتمعة لم تحصل على زخم جدال واعتراض وتصدر للمشهد الإعلامي والسياسي كالعملية التي أٌعلن عنها قبل شهرين الرئيس أردوغان، ولاقت الدعوة إلى العملية اعتراضاتٍ بالجملة، ومن أطراف متناقضة، وعٌقدت لها جولاتٌ من النقاشين، السياسي والدبلوماسي، فأنقرة، وبعد حصولها على موافقة مجلس الأمن القومي التركي، وبعد حصولها على موافقة وزارة الدفاع التركية وجاهزيتها، وتأكدها من أن الحشودات العسكرية والإمدادات واستعدادات الحلفاء جاهزة بانتظار القرار السياسي، فضلت فتح نوافذ وزارة خارجيتها في محاولة للحصول على مظلة سياسية لمعركتها، لإدراكها المطلق (سياسياً وعسكرياً) أن غالبية المعارك العسكرية التي تفتقد المظلة السياسية خاسرة، حتى الدول العظمى لم تتخلّ عن تلك المظلة، وذاكرتنا لم تنس بعد مشهد وزير الخارجية الأميركي، كولن باول، في الخامس من فبراير/ شباط 2003، وهو يمتشق حقيته الدبلوماسية الضخمة، ويدخل بها مجلس الأمن، ليؤكد أن حقيبته حبلى بالوثائق، وأن بلاده تمتلك أدلة قاطعة على إخفاء العراق أسلحة دمار شامل، لكنه لا يستطيع الكشف عنها لضرورات الأمن القومي الأميركي، لكنها سبب كاف يجعل الولايات المتحدة تحرّك جيشها لتخليص العالم من شرور هذا البلد. وحصل (باول) على ما يريد من مظلة سياسية شبه قانونية لدولة هي الأولى بالعالم. ومع ذلك لم تتغاض عن هذا الإجراء، ولاحقاً اعترف الوزير بكذبه، لكن ما حصل عليه افتقده وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، الذي خرجت لقاءاته مع نظيريه، الإيراني والروسي، وكذا وتصريحات وزارة الخارجية الأميركية القادمة من خلف البحار، خرجت من دون غلّة وازنة، سوى من تصريحات دبلوماسية مهدئة عن تفهم مخاوف أنقرة وهواجسها الأمنية، وتلك تصريحات لا تصرف في الميادين، بل في الإعلام فقط.

أرادت أنقرة قمّة طهران (ضمّت رؤساء إيران وتركيا وروسيا) خرقاً يعوّض إخفاق وزارة الخارجية التركية، تتحصل فيها على موافقة روسية إيرانية لعمليتها المنتظرة، وراهنت أنقرة على أوراق قوة تمتلكها في الساحات الداخلية السورية، وفي الوضعين، الإقليمي والدولي، وهي أوراق قوية ووازنة، لكن النتيجة في القمة كانت “فيتو” مزدوجاً من خامنئي وبوتين. ورغم تصريحات الرئيس أردوغان من طائرته العائدة، والتي وٌصفت بالهادئة والمتزنة، إلا أن رسائل سياسية عبر أدوات عسكرية مخضبة بدماء السوريين بدأت تترسّم على ميادين الشمال السوري، ومن كل الأطراف المتشابكة.

غالبية المعارك العسكرية التي تفتقد المظلة السياسية خاسرة

طائرة الاستطلاع الاستراتيجية “البجعة” التي عادة تحرّكها قاعدة حميميم في اللحظات العصيبة، وقبل العمليات العسكرية، للحصول على بنك أهداف، أو تدقيق معلوماتها السابقة، ورصد التغيرات على مسرح العمليات، تحرّكت ومسحت سماء المحرّر (قيل إن صاروخ دفاع جوي أٌطلق بقربها من دون تعمد إصابتها كرسالة إلى قاعدة حميميم)، لحقت بها في اليوم الثاني عملية جوية روسية وقصف صواريخ استهدف تدمير معسكر لفصيل (التركستان)، فأصاب قرية الجديدة بأرياف جسر الشغور، وأدّى إلى سبعة شهداء، أربعة منهم أطفال دون العاشرة ولعائلة واحدة، إضافة إلى 12 جريحا، سبعة منهم أطفال أيضاً، وفي مجزرة دموية تعيد إلى الروس تاريخهم مع السوريين.

زادت إيران من انخراطها بمناطق الاشتباك، وخصوصا في مناطق منغ وتل رفعت، وزادت عمليات تحشيد لمقاتليها، معتبرة المنطقة خط دفاعها الأول عن حاضنتها “الشيعية” في بلدتي “نبل والزهراء”. وأرسلت تركيا الغاضبة أيضاً عدة رسائل، فطائراتها المسيّرة نصبت كميناً لعربةٍ تتبع لإدارة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وحيدت ثلاثة من قادتها، أتبعتها بقصف لموقع تتشاركه “قسد” مع نظام الأسد في مدينة عين العرب (كوباني)، ومنحت ضوءاً أخضر خافتاً لفصائل إدلب باشتباكات وٌصفت بالأقسى منذ سنوات، قصف طال مواقع مهمة للنظام في أرياف إدلب ومدينة سراقب ومعسكر جورين في أرياف حماة، ومسيرات مجهولة وصلت إلى قاعدة حميميم، وقصف بجبهات الساحل شمل أرياف الصلنفة وبلدة سلمى في جبل الأكراد، لكن رسالة أنقرة الأقوى كانت عبر عملية خاطفة جنوب مدينة الباب، كسرت فيها فصائل الجيش الوطني الخطوط الحمراء وخطوط التماسّ المتوافق عليها، “روسياً تركياً” في تلك الجبهة، وتسببت العملية بخسائر كبيرة في صفوف مليشيات الأسد.

امتازت رسائل أنقرة بالذكاء واستخدام المحظور الذي تخشاه كل من دمشق وطهران وموسكو، فتحريك جبهات على خطوط التماسّ تناهز 180 كم أمر مقلق لخصوم أنقرة

أهداف رسائل روسيا كانت واضحة، لا عملية عسكرية تركية في غرب الفرات من دون موافقة وتنسيق مع موسكو، والظروف الحالية لا تسمح بحصولها. وأهداف رسائل إيران كانت مشابهة للرسائل الروسية، وأوحت تحشداتها أنها ذاهبة إلى معركة إلى جانب قوات “قسد” إذا ما أعلنت أنقرة الحرب. بينما امتازت رسائل أنقرة بالذكاء واستخدام المحظور الذي تخشاه كل من دمشق وطهران وموسكو، فتحريك جبهات على خطوط التماسّ تناهز 180 كم (من أرياف حلب الشرقية إلى غربها إلى كامل جبهات إدلب وجسر الشغور والساحل) أمر مقلق لخصوم أنقرة، لأن موسكو تعلم تماماً مدى ضعف القدرات البشرية لحليفها الأسد، وأن جل تموضعات الكتل الرئيسية لمليشيات إيران الكبيرة تأتي في شرق سورية ووسطها وجنوبها ومحيط دمشق وحمص، وأنها إن استطاعت موازنة الدفة في أرياف حلب ومحيطها أمام أي عملية عسكرية للجيش الوطني المدعوم من تركيا، ستكون عاجزة عن وقف اختراق فصائل غرفة عمليات “الفتح المبين” لجبهات النظام في أرياف إدلب الجنوبية والشرقية وأرياف جسر الشغور وجبهات الساحل في جبلي الأكراد والتركمان.

وتؤكد الدعوة إلى قمة جديدة في سوتشي بين الرئيسين، الروسي بوتين والتركي أردوغان، وهما الخارجان من قمّة طهران قبل أيام، تؤكد وجود مستجدّات مهمة، لكنها ما زالت مجهولة، مع تسريبات عن تقديم طهران وموسكو تعهدا بمنح أنقرة إحداثيات تموضع وتنقل قيادات “قسد” وحزب العمال الكردستاني في المناطق التي تشغل بال أنقرة، مقابلا لوقف العملية التركية، لكن سؤالا يبرز: ميدانياً، من هو القادر على التعهد بتلبية متطلبات أنقرة، ومن يستطيع فرضها على “قسد” في ظل تعدد مرجعياتها؟

أهداف رسائل روسيا كانت واضحة: لا عملية عسكرية تركية في غربي الفرات من دون موافقة وتنسيق مع موسكو

طلب الأميركان من “قسد” تحجيم الدور الروسي، وفرملة التطبيع مع الأسد، وإبعاد الايرانيين عن جبهاتهم، والانفكاك عن حزب العمال الكردستاني وقيادات جبل قنديل وإبعادهم عن شرقي الفرات، شرطا لوقف هجمات مسيّرات أنقرة. والأميركان يراقبون موقف تركيا، ويركزون على تصريحات وزير الدفاع، خلوصي أكار، وقد تسمح أميركا بعملية تركية محدودة بشرط تجميد التنسيق التركي الزائد مع طهران، وأن تساهم العملية التركية بتحريك الملف السورين بعيداً عن التنسيق مع النظام، وزيادة مساهمة أنقرة في الحرب على الإرهاب الداعشي، وأنقرة تعلم أن الكونغرس يضغط على الرئيس بايدن لحماية “قسد” وإمدادها بالأسلحة، ومبادرة ليندسي غراهام ما تزال على الطاولة حلا وسطا مع معلومات عن رضوخ “قسد” للمطالب الأميركية والاستعداد لاجتماع قادم في أربيل.

أعاد مجلس الأمن القومي التركي التأكيد على توسيع المناطق الآمنة في الداخل السوري، وهذا يعني إعادة تأكيد المجلس على تفويض الجيش التركي بالعملية العسكرية. وتقول روسيا إنها تكثف اتصالاتها مع أنقرة ودمشق، لتفعيل اتفاقية أضنة بديلا عن العملية التركية، وايران تدخل على خط تلك الوساطة، وهناك من رأى أن وجود وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، في طهران على هامش القمة الثلاثية، لم يكن اعتباطياً أو مصادفة، بل قد يكون لعقد اجتماعات سرّية مع أنقرة خلف الجدران.

تقول تركيا إنها ماضية في عمليتها، وأعلنت جاهزيتها العسكرية، وأن نوافذها السياسية المفتوحة لم تحقق الهدف، وأنه فاض الكيل بها، وقد تتخطى كل الفيتوهات المعترضة على العملية، وهذا ما أكده وزير الخارجية التركي، جاووش أوغلو، عندما قال: تركيا لم ولن تطلب إذناً من أحد.. فهل يكرّر أردوغان في سورية ما فعله حليفه بوتين في أوكرانيا، عندما كسر الحدود، وأطلق عمليته العسكرية ضارباً بعرض الحائط كل اعتراضات المعترضين؟

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى