عندما انقلب العالم رأساً على عقب
رضوان زيادة
ترافقت مع ظهور مصطلح «العولمة» موجة حادة من النقد والهجاء، نستطيع أن نقول إنها أفرزت تشكيلات اجتماعية جديدة، فالتظاهرات والإضرابات العامة التي شهدتها اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في سياتل وبانكوك وغيرها في بداية القرن أبانت ظهور بنى اجتماعية متقاربة بين الشمال والجنوب، لكنها كانت من تنظيم اليسار أو ما تبقى منه بشكل رئيسي، كتعبير عن احتجاج أيديولوجي على قبح «الرأسمالية» والتنبيه «لأخطارها»، وحاولت هذه التظاهرات البناء على مقاربة مفادها أن العولمة كلها «شر مطلق» وأن حدود خطرها عامة، بمعنى أن العامل أو المزارع في الدول الأكثر غنى أو دول الشمال سيتأثر بها بنفس تأثر دول الجنوب الفقيرة التي ستزداد فقراً بسبب اتفاقيات التجارة الحرة وإمكان أن تستفيد الزراعات الرخيصة المحمية من أسواق الشمال ذات الطلب والقوة الشرائية العالية، ولذلك حاولت هذه المقاربة أن تؤكد أن هذا العامل أو الفلاح يبدو أكثر قرباً في انتمائه إلى العامل أو الفلاح الذي يوجد في دول العالم الثالث أو دول الجنوب من انتمائه إلى طبقة اجتماعية محددة ومحصورة بإقليمه أو قطره الوطني.
في الحقيقة، اختفت هذه التظاهرات تدريجياً واختفى معها هذا الخطاب رويداً رويداً، عندما أظهرت التنمية في دول مثل الصين والهند ودول جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية التي اعتمدت على مزيج من التصدير إلى أسواق الشمال مع فتح الحدود للسياحة والتجارة المتبادلة، أن العولمة قادرة على رفع ملايين المواطنين في هذه الدول من حافة الفقر ونقلهم إلى مستوى الطبقة الوسطى أو على الأقل تحسين حالتهم الاقتصادية والاجتماعية عبر الفرص التي فتحت لهم في التصدير إلى أسواق الشمال الكبيرة والقوية ذات الطلب المتزايد على الحاجات الاستهلاكية.
وبالتالي، بدا أننا أمام ظاهرة أشبه بالجديدة تدعى العولمة المنبثقة من رأسمالية نهاية التاريخ ذات حوامل إعلامية واقتصادية وسياسية جديدة ومختلفة قادرة على تحقيق ما فشلت في تحقيقه الأنظمة الاشتراكية والشيوعية الحمائية في تخفيف الفقر وحدة التفاوت الطبقي داخل المجتمعات.
ولذلك، بدا الخطاب «اليساري» القديم في الاكتفاء بوصف العولمة بأنها نمط استعماري إمبريالي قديم تحلى بثوب جديد غير منتج أو تفسيري ولم يمكننا من فهم بنية العولمة الداخلية والصيرورة التي تحكم آلية عملها وهو الخطاب الذي أوقعنا دائماً في خانة المفوت تاريخياً وغير القادر على الانسجام مع العصر بما يتطلبه ذلك من تحديث طرائق ووسائل التعامل مع الظواهر الجديدة.
لكن الجديد اليوم، أن نقد العولمة لا يأتي من اليسار وإنما من رأس من يعتقد أنه يمثل الرأسمالية العالمية، وهو الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي انتقد العولمة صراحة في خطابه الشهير في قبول تسمية ترشيح الحزب الجمهوري، عندما قال: «أعدكم بأن أكافح وأقاتل ضد العولمة، وأعمل من أجل اقتصاد للجميع». لقد كان هذا التصريح صاعقاً للكثيرين، خصوصاً خارج الولايات المتحدة التي ينظر إليها على أنها المستفيد الأول من العولمة، وفي الوقت ذاته ظهر الرئيس الصيني في منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس وكأنه المدافع «العالمي» المتبقي عن العولمة والتجارة الحرة وضد الحمائية بأي شكل من الأشكال. الرئيس الصيني شي جي بينغ ظهر وكأنه حامي العولمة في ظل صعود طبقة من القادة السياسيين في الغرب بدءاً من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وظهور عدد من القادة الشعبويين في أوروبا وأخيراً انتخاب ترامب الذي كان صريحاً في انتقاد العولمة والتأكيد على إلغاء الكثير من اتفاقيات التجارة الحرة التي عقدتها أميركا مع جيرانها في المكسيك وكندا ثم اتفاق التجارة الحرة مع دول جنوب شرق آسيا.
الرئيس الصيني الذي يقود اقتصاداً قائماً على نظام سياسي يقوم على الشيوعية يدافع عن العولمة، والرئيس الأميركي زعيم الاقتصاد الحر في العالم يدافع عن الحمائية وينتقد العولمة. إنه انقلاب للعالم كما عرفناه وولادة صراعات جديدة اقتصادية بهدف تشكيل مصالح جديدة.
ولذلك، بالنسبة الينا نحن العرب الذين لم نكن جزءاً منتجاً حقيقياً في العولمة ولو أن بعض البلدان استفاد من اتفاقيات التجارة الحرة مع أميركا، مثل مصر والمغرب والأردن، ربما لن نكون أيضاً جزءاً رئيسياً في النقاش حول إعادة تعريف العولمة اليوم بسبب غياب التكتل الاقتصادي العربي. لكن المهم اليوم رفض الإصرار على التمترس وراء النماذج والقوالب التاريخية التي تكرس العزلة المعرفية أولاً وتستتبع بالتالي عدم القدرة على التحاور بشكل مرن وجيد مع الآخر الذي أصبح يملك زمام المبادرة والمبادأة. إن هذا الخطاب ما زال ينتمي إلى زمن النضال الأيديولوجي والكفاح المعرفي، فهو لا يتصدى للثورة التقنية والمعلوماتية والاكتشافات العلمية والجينية بعقلٍ يعمل أولاً على استيعاب ما تم وأنجز، وإنما يعيد استخراج أسلحته القديمة التي أصابها الصدأ ليتعامل مع هذه الحوادث الكونية إذا جاز لنا التعبير.
وبالتالي، فالدخول في العولمة وتقنياتها وحقولها وميادينها أمر حتمي ومفروض على كل مجتمع يريد أن يبقى في دائرة المجتمعات التاريخية، ولا ينسحب من الفعالية الدولية المشتركة، ويعيش في عالم خاص به، ولكن هذا الدخول لا يقدم بصورة تلقائية فرصاً أكبر للتقدم والمشاركة الفاعلة في المصائر العالمية إذا لم يترافق بإرادة وذاتية مستقلة وخصوصية تسعى إلى وضع التقدم الموضوعي في خدمة أهداف التنمية المحلية.
وإذا كانت العولمة استدعت القيام بمراجعة فكرية شاملة لأسس الاقتصاد والسياسة، إذ إنها حملت في طياتها بذور التبشير باقتصاد من نوع جديد لا يقوم على أساس الاقتصاد الريعي في نموذج التنمية المستقلة وإنما يقوم على أساس الدورة الاقتصادية العالمية من طريق خلق مراكز انتاج مستقلة عن مراكز الإدارة وأسواق للتصريف تبعد عن كليهما كما وجدنا في الشركات عابرة القارات أو الشركات متعددة الجنسية، فإنها في المجال السياسي عكست دلالات أخرى تمثلت في شكل جديد للدولة أشبه بالدولة الرشيقة التي تتخفف من الكثير من أعبائها تجاه مواطنيها، وتتحلل من وظائفها التقليدية لتصبح شبيهة بالإدارة ما دون المركزية.
وهو درس نحتاج إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى مع تزايد الحروب الأهلية حول الصراع على السلطة التي تخفي في داخلها صراعاً آخر على من يمتلك الثروة.
الحياة