آراء

عندما يتخلى الكردي عن سلاحه

محمود عباس
يحمل الكردي السلاح دفاعا عن الذات، ويتخلى عنه إما لقناعة بزوال الخطر أو نتيجة مؤامرة، أو خداع. ونادرا ما حمل السلاح بقصد الاعتداء على الآخر. يكاد تاريخ الكرد يخلو من الغزوات، فلم يشتهر كمعتد على الغير في تاريخه، ولم يحتل أرض غيره، ليس ضعفا منه، بل بالفطرة التي فطر عليها، وقناعته بحرمة الإنسان وكرامته، وعدم المساس بحريته؛ وكذلك تأثره بالأديان التي أعتنقها عن عقيدة لا لمنافع ذاتية، وأيضاً المفاهيم التي ترسخت لديه على مر التاريخ. يعشق الكردي الحرية ويضحي من أجلها، فهو كما يعشقها لنفسه يريدها لغيره أيضا. فلم يغزو حتى في حالات القوة، بل ولم يقم بما يرهب الغير، وحتى مع أعدائه لم يستعمل الإرهاب من أجل الانتصار عليهم، ولم يتخذه أسلوبا ليفرض الهيمنة على الخصوم، حتى عندما كان على مقدرة تامة للقيام به.
رغم الانتقادات الموجهة لحزب العمال الكردستاني، لا يعكس آمال الكرد، لكنه مع ذلك يحتضن الماهية الكردية والكردستانية، عكست ويعكس الصراع الكردي القومي مع المحتل لكردستان، ويعرف عالميا وداخليا بالشخصية الكردستانية، وما يقدمه ويتحرك ضمنه، رغم التحولات الإيديولوجية، تتمخض في مجمل نضاله الغاية الكردستانية، رغم عباءة الأمة الديمقراطية المطروحة، والمفاهيم المخالفة للدارج في النظريات الإيديولوجية السياسية والقومية العالمية.
كان صراع حزب العمال الكردستاني صراع كرديا مع الحكومات التركية، وتوسع ليكون كردستانيا، رغم الانتقادات والأخطاء التي سايرت مسيرتها، مثلوا إلى حد ما صراع كرد شمال كردستانمع دولتين تركيتين متداخلتين، أحدهما بمؤسساتها العسكرية المرتبطة بالإدارة السياسية والحكومية المكشوفة، والأخرى الدولة الخفية، التي خلقت أدوات متنوعة للإبقاء على ثقافة الإنكار للشعب الكردي، مستمدة أفكارها من الثقافة الطورانية المتراكمة إثر سيادة الكمالية المزمنة. تلك الكمالية الناقضة لكل وعودها القاطعة للزعماء الكرد الذين ساعدوه بتفانٍ في حرب التحرير.
تمكن (ب ك ك) من خلق واقع جديد في تركيا، وتجلى، في بيان التخلي عن السلاح، عزمه على السير في هذا الواقع الجديد. لا يهم إن كان هذا انتصارا في نظر البعض، أو خدعة لدى بعض الآخر، أو نتيجة لصراع داخلي بين الدولتين، المهم هو أن تغييرات في المفاهيم قد حدثت. وهي مواكبة لمجريات الأحداث العالمية. بانت النتيجة مفصحة عن تمكن الثورة المسلحة، وعلى أنقاض أكثر من خمسة آلاف قرية؛ وثلاثين ألف ضحية وشهيد؛ ورغم تفاقمها الصراع الكردي-الكردي، من نقل الإدارة التركية مع أحزابها القومية بل والشعب التركي بمعظمه، من واقع إنكار مطلق للشعب الكردي في تركيا، إلى مرحلة الاعتراف به، وقبول الحوار المتدرج من منطلق التعامل الأمني مع قيادة الحزب، إلى مفاوضات سياسية وعلى أعلى المستويات، أي عمليا حوار طرفين متساويين، رغم الاختلافات الكبيرة بين القوى والمؤسسات. مع ذلك فالانتقاد يطرح ذاته، ويبين أنه كان بالإمكان بلوغ هذه المرحلة دون تلك التضحيات الجسام؛ لو أن تركيا أصغت إلى صوت العقل. وما جرى خلال ثلاثة عقود من الصراع خدم مصالح دولية معادية للكرد وللدولة الطورانية على حد سواء، وسوريا مثالاً لا حصراً.
رغم الخلاف على الاستراتيجية والإيديولوجية مع حزب العمال الكردستاني، ومفاهيم القيادة، وثقافة الحزب، المتفشية بين الأعضاء من حيث عبادة الشخص، وشمولية الحزب، وإلغاء الآخر، وغيرها من الذهنيات التي فقدت مفعولها بالتقادم، وتعبر، راهنا، عن السلبيات بعمق. أثمرت عن جديد من المأمول السير فيه إلى النهاية. من الأهمية بمكان التذكير أن الحزب انتقل من مرحلة الثورة المسلحة والصراع العسكري إلى الثورة السلمية، والتعامل بالأسلوب العصري مع الدولة التركية كخطوة نوعية، وهذا تغيير إيجابي، يدل على ديناميكية الحزب واستدراكه للواقع العام، علاوة على استيعاب سياسة وثقافة العدو.
التساؤلات في هذا المجال متنوعة، وتطرح ذاتها على خلفية عرض السيد عبد الله أوجلان، بإلقاء السلاح، ونقل الصراع المسلح إلى صراع سياسي، للدخول في حوار مع الدولة التركية، مرفقا عرضه بمطالب لا علاقة مباشرة لها مع الكرد، ولا بمستقبل كردستان كوطن لهم وللشعوب المتعايشة معهم أو كدولة قومية خاصة بالكرد. ولا شك البنود مبنية على الإيديولوجية الأممية المطروحة والتي فيها من الازدواجية الكثير، بين ذاته القومية والوطنية، من جهة، وبينه وبين قيادة قنديل من جهة أخرى، والخالقة لتناقضات في استراتيجية الحزب والأحزاب الدائرة في فلكها، والأوسع: الصراع الحاصل بين مؤيدي الحزب وجموع الشعب الكردي وأحزابهم القومية.
الأسباب والدوافع، الراسخة خلف القرار، متعددة، ليست محصورة بين الطرفين، بل هناك قوى خارجية لها دور في الجاري، ربما تؤدي هذه التدخلات إلى خلافات قد تظهر بين قادة قنديل ذاتهم أو بينهم وبين إمرالي، والتعمق في العوامل الدافعة بالدولة التركية لفتح باب الحوار، داخل تركيا، تبين أنها لم تنطلق من منطق الإنكار للشعب الكردي إلى الاعتراف به، إلا بعد أن وضع خططا بديلة لا تقل التفافا على القضية من الأولى، رغم مظهرها المتلائم والعصر التكنلوجي، ما يمكن الاستشفاف، مبدئيا، منها هو دفع القضية الكردية نحو ساحة الخلافات الواسعة والعميقة أكثر من ذي قبل وبلباس جديد بين الحركات الكردية في عموم كردستان.
لا شك، بدون تدارك هذه الألاعيب السياسية من قبل الأطراف الكردستانية، وإصلاح ذات البين، كالخلافات الحزبية؛ والاستراتيجية؛ والإيديولوجية الموجودة بينها، لا بد أن تكون يسيرة على المتربصين تعميقه لتؤدي إلى توسيع هوة الصراع وهي ما تسعى إليها تركيا، بل وتشاركها القوى الإقليمية الأخرى المحتلة لكردستان. والغاية منها إضعاف الكردي بالكردي، استراتيجية وإيديولوجية، ضمن المحيط الكردستاني. وما يزيد من هذا التصور هو طريقة عرض الأحزاب الكردية للقضية وحلولهم لها، هذا، إذا أضفنا إليها جميعا تعنت كل طرف بطوطم الحزب وعبادة القائد، والتبريرات لهذه الذهنية مترسخة في الأعماق، ولا يقبل الجدال فيه، وأخطر ما في الواقع الجاري أن كردستان لا تزال في مرحلة الاحتلال، والشعب مستعبد، وتغليب البعد الأممي على ثقافته القومية لا يفي بالمأمول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى