آراء

عن الثورة والفاشيّات المتقاتلة في سورية!

 هوشنك أوسي  
بخلاف التعريفات الكلاسيكيّة، بخاصّة اليساريّة منها، التي أصبغت الثورة بالعصمة والقداسة، وقدّمت الثوّار على أنهم النبلاء والقديسون والأبطال الذين ينكرون ذواتهم، كي تعيش الجماهير – الشعب – الأمّة في هناء وحريّة وكرامة، وأنهم ليسوا طلاّب
سلطة، ومعصومون عن الفساد والاستبداد، بخلاف هذه التعريفات الورديّة – الشاعريّة التي يخالطها الرومانس باليوتوبيا والأسطرة، يُشير التاريخ وعلم الاجتماع السياسي بأن الثورة الشعبيّة، ليست فعلاً جماهيريّاً فائق التنظيم والانضباط، وعصيّاً على الاختراق والانفلات، يقوم به “ملائكة” عبيد، مضطهدين ومظلومين، بموجب نظريّة ثوريّة وحزب ثوري، ضدّ “شياطين” أسياد وظالمين، بل هي انتفاضة بشر مظلومين على سلطة بشر ظالمين، أسياد، أخذت بهم العزّة بالإثم، فاستبّدوا وطغوا على كل القيم والمثل والأخلاق، وحوّلوا الأوطان ومجتمعاتها إلى مراعٍ ومزارع خاصّة بهم، والشعوب إلى قطعان، يمتلكونها.
ذلك أن أحد أبرز وجوه الثورات، هي الحروب الأهليّة، وهذا ما حدث في فرنسا سنة 1789، وفي روسيا سنة 1917، وفي فيتنام، كوبا، الصين…، وأماكن كثيرة في العالم. وتحت تأثير التدخّلات الإقليميّة والدوليّة، انقسمت بعض البلدان ومجتمعاتها، بعضها ضدّ البعض، كما حدث في ألمانيا (شرقيّة وغربيّة) وفيتنام (شماليّة وجنوبيّة)، كوريا (شماليّة وجنوبيّة)، لكن في النهاية، توحّدت فيتنام، وسقط جدار برلين. وعليه، واردٌ جداً أن ينجم عن الثورة، حرب أهليّة، أو أن تكون مصاحبة لها، لكن ليست كل حرب أهليّة ناجمة عن ثورة، الحرب الأهليّة اللبنانيّة نموذجاً.
مناسبة هذا الكلام، الردّ على محاولات الطعن في وجود الثورة السوريّة، منذ انطلاقتها، من كل الزوايا، وعلى كافة الأصعدة، لجهة أنها حرب أهليّة، دينيّة وطائفيّة، أفرزتها تدخّلات إقليميّة ودوليّة وصراع الأجندات والإرادات الخارجيّة في الوضع السوري. والكثير من هذا الكلام صحيح، ولكنه من طينة “كلام حقّ يُراد به باطل”. ومن جهة أخرى، هذه الأسطر، هي محاولة فهم طبيعة “الفاشيّات” المتقاتلة في سورية، دون أن يعني ذلك، نفي وجود ثورة، كانت سلميّة، ودُفِعَت دفعاً، نحو العسكرة، لأسباب، لم تعد خافية.
معلومٌ أن السلوك والذهنيّة الفاشيّة، لا يمكن حصرهما في تفاقم منسوب الاستبداد والطغيان، لدى فئة أوليغارشيّة حاكمة، ضدّ من يخالفها الرأي والموقف، والسعي الحثيث لتلك الفئة إلى اختزال المجتمع والأمّة والدولة في إرادة ووعي الطبقة الحاكمة، على أنها صفوة القوميّة والوطنيّة، عبر الاستناد إلى زعيم أوحد، وإضفاء العصمة والقداسة عليه، بالتوازي مع توليف منظومة قيميّة وآيديولوجيّة تطيح بالمشتركات، وتعزز التفرّد بالسلطة والهيمنة على إرادة المجتمع والدولة، وصولاً لخلق حالة فرز حادة في بنى وطبقات وشرائح المجتمع، بين “وطنيين – قوميين وخونة”، “ثوريين ومتآمرين”، “نخبة ورعاع، حثالة”، “أتقياء – صالحين وطالحين – آثمين وكفرة”…، بالمحصّلة، جوهر هذا الفرز، قائم على الفكرة الأصل الموجودة منذ نشأة المجتمعات، وهي فرز البشر بين أسياد وعبيد، ولو بتعبيرات مختلفة ومنمّقة بعض الشيء.
وبالتالي، الفعل المنعكس، أو ردّة الفعل على الفاشيّة، قد تكون فاشيّة مضادّة، توازيها في الشدّة، وتعاكسها في الاتجاه، بحيث ينزلق البشر أكثر نحو غريزة الثأر والانتقام والبطش بالمختلف. فردّة فعل الشعب والثوّار على ما عانوه من الظلم الاجتماعي والطبقي الناجم عن سلطة وحكم لويس السادس عشر وحاشية النبلاء المحيطة به، هي أيضاً، أفرزت فاشيّة مضادّة، دمويّة، كانت محصورة في البداية ضدّ نظام الحكم والنبلاء، وانتقلت إلى داخل “المجتمع الثوري” والثوّار وقادة الثورة الفرنسيّة أنفسهم. ونفس الأمر، انسحب على ثورة اكتوبر الروسيّة، بخاصّة في الحقبة الستالينيّة. ويمكن القول: إن فاشيّة نظام ستالين، كان أشدّ وطأة وأكثر فظاعة من النظام القيصري!.
النظام البعثي في سورية والعراق، أفرز فاشيّة مركّبة، تداخل فيها تكوين هويّتها وذهنيّتها، ما هو قومي وديني – طائفيّ، حزبي، وطبقي. حيث اعتمد الأسد الأب، خلال ثلاثة عقود، وبشكل ممنهج، على اختزال المجتمع في الدولة، واختزال الدولة في الحزب، والحزب في الأمن والجيش، واختزال هاتين المؤسستين في الطائفة العلويّة، والطائفة في آل الأسد، والعائلة في شخص حافظ الأسد وأبنائه. وفي هذا السياق، تمّ استثمار القوميّة العربيّة، على اعتبار أن النظام هو حامل الرسالة الخالدة للأمّة، وهو موحّدها من المحيط إلى الخليج، والمعبّر عن إرادتها ووحدتها وحريّتها واشتراكيّتها. ونتيجة تلك الاختزالات، بات أهل الريف العلوي، المهمّش والمغبون، لأسباب طائفيّة، على مدى قرون، هم أسياد أهل المدن من تجّار وبرجوازيّة وطنيّة سنيّة، تقيم في دمشق وحلب وحمص. وبات حكمهم كحكم الهكسوس في مصر، بخاصّة في الثلاث سنوات الأخيرة.
نفس سيناريو الحكم البعثي السوري، باختزالاته السالفة الذكر، جرى في العراق، مع بعض الفروق الطفيفة. وبالتالي، الفاشيّة التي كان يمارسها نظام صدّام على الشيعة، مارسها الأخيرون على السنّة، ما أن استلموا السلطة. وبالتالي، غالباً ما تنتعش الفاشيّات في زمن الفوضى التي تصاحب الثورات، ومن شأنها تسميم المجتمعات والثورات، لكنّها ظواهر طارئة، والتاريخ يقول؛ إنها من طبائع الأمور. وحتّى لو فشلت الثورة في تحقيق أهدافها، وانهارت أيضاً، إلاّ أن التاريخ وعلم الاجتماع، يبقى يصفها بالثورة. وعليه، ليس تكلل الثورة بالنجاح والظفر، هو الذي يجبرنا على إطلاق وصف الثورة عليها.
في سورية، الجهات المشاركة في الصراع، من النظام والمعارضة، السياسيّة منها والعسكريّة، تحمل في هويّتها أكثر من فاشيّة. فنظام الأسد الابن، وما أن اندلعت الثورة، وهي في طورها السلميّ، فجّر النظام كمون الفاشيّة المتراكم فيه، وأظهر كل ما لديه من توحّش وبربريّة، ربما كانت خافية عن الكثيرين، قبل الثورة. وبمرور السنوات الثلاث الأخيرة، تفاقمت فاشيّة هذا النظام، بحيث تجاوزت فاشيّة هتلر وموسوليني، الذين لم يقصفا مدنناً ألمانيّة وإيطاليّة بالكيماوي، لأنها تمرّدت على نظام حكميهما!. ففاشيّة الأسد، هي أيضاً مركبّة من فاشيّات قوميّة (ضدّ الكرد وباقي المكوّنات السوريّة)، طائفيّة (ضدّ السنّة)، حزبيّة (ضدّ بقيّة الأحزاب)، مناطقيّة (القرداحة ضدّ المناطق العلويّة الأخرى) وعائليّة (آل الأسد ضدّ باقي العوائل والأسر العلويّة).
على الطرف المقابل، المعارضة السوريّة، عقود القمع والكبت، خلق لديها فاشيّة موازية لفاشيّة النظام، غير معلنة عنها. ومع الثورة السوريّة، وتوحّش النظام، ولعبه على الغرائز الطائفيّة، وتوريطه الطائفة العلويّة في حربه، هذا بدوره فجّر لدى المعارضة فاشيّة طائفيّة تعاكس فاشيّة نظام الأسد، بخاصّة بعد الانخراط المباشر، لحزب الله اللبناني وبعض الفصائل الشيعيّة العراقيّة والنظام الايراني في الحرب إلى جانب الأسد. وعليه، لو كانت المعارضة المسلّحة، التكفيريّة على وجه التحديد، تمتلك الطائرات والكيماوي، لربما استخدمته ضدّ الموالين للنظام، بنفس الطريقة التي يستخدمها النظام. وبالتالي، التيّارات التكفيريّة، المتقاتلة في سورية، يتداخل في تكوينها وبنيتها الذهنيّة والآيديولوجيّة؛ الفاشيّة الدينيّة، (ضدّ المسيحيين)، وطائفيّة (سنيّة ضدّ العلويين والدروز…)، قوميّة (عروبيّة ضدّ الكرد) وحزبيّة او مناطقيّة (الصراع بين داعش والنصرة).
كل ما تقدّم، لا يلغي بتاتاً بأن سورية تعيش ثورة، طفت معها كل الفاشيّات المبيّتة، أو النائمة، إن جاز التعبير، على سطح الصراع الجاري، لتعبّر عن نفسها على شكل حرب أهليّة، لن تستمرّ إلى أبد الآبدين. هذه الفاشيّات، ما أن تصل إلى حدّ الإشباع من العنف والقتل والدم، حتّى تموت. في حين أن “الفتن النائمة”، هي التعبير المنمّق عن الفاشيّات المبيّتة التي يحاول كثيرون إخفائها والتعمية عليها، و”لعن من أيقظها”. والأفضل أن تستيقظ وتموت، من أن تبقى نائمة، ولغماً موقوتاً يهدد المجتمعات والأوطان، ومستقبل الشعوب.
 
أخبار الآن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى